موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ أغسطس / آب ٢٠١٢

إنسان اليوم المنتظر… طفل الغد

بقلم :
يارا حوراني - الأردن

"سيمسح الله كل دمعة من عيونهم, ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد" (رؤ 21: 4) أدعوكم معي اليوم لرحلة.. رحلة نعودُ بها لبدء الخليقة زمن الحياة البدائية، لنراقب تطور حياة الإنسان والبشرية جمعاء حتى الآن، فنجد أن الكائن البشري اجتهد وثابر وعمل كثيراً لتسهيل الحياة وتوفير الوسائل اللازمة لمواجهة تغيرات الطبيعة القاسية كالبرد والحر، كبُعد المسافات وتسوية الأرض الوعرة واكتشاف النار والنور ووضع الحدود اللازمة لتنظيم التنقل وتحديد المُلكية. في الحقيقة نحن لا نستطيع أن نَدين البشرية بالنية السيئة، فكل هذا كان نابعاً من رغبة في صنع الخير بالرغم من تحوّلها لاحقاً لسوء وشر، حيث تحولت الاختراعات من خدمة الإنسان للإنسان إلى نقمة ضد أخيه الإنسان، وتحولت القوة الصناعية الخدمية إلى امتلاك واحتكار وقوة يُقصد منها التسلق فوق مصالح الآخرين، أما بما يخص التشريعات التي وُضعت للخير العام فقد تحولت إلى وسيلة معاداة ونقمة لكل مَنْ يُعارضها, وتحولت الطوائف والاختلافات سبباً للحروب والخصام. اليوم نجدُ أنَّ الإنسانَ يَنْفي نفسه بنفسه وسيقضي على كل ما صنعه بيديه، حيث تنحدرُ النفس البشرية كل يوم وتعود للخلف، فكلما زاد الطلب في تحقيق العدالة زاد الظلم، وكلما نادينا بالحرية تفشّت العبودية، وكلما حاربنا العنصرية والطائفية زاد تنازع الناس بسببها وتمسكهم بعنصريتهم، بل تعدّى الأمر ذلك إلى الاعتداء على الفئات الأخرى، وكلما طالبنا بعالمٍ أخضر نقي صحي طبيعي بدون إضافات صناعية وبتعليم وثقافة عالية وسمّو، زاد الجهل والتلوث والجوع، كأننا نُصبح عبيداً لفكرتنا ورسالتنا، ويُغرينا شيطاننا لتتحول دعوتنا من محبة وسلام ورُقي، إلى دعوة بغض وحقد وتدني. قالوا قديماً: لولا الشريعة لما عرفنا الخطيئة، أذكر قديماً كيف كنا نعيش بمختلف الطوائف والديانات والجنسيات دون إلقاء أي بال لها أو حتى التكفير بوجودها، ولكن بعدما سمعنا اليوم الدعوة إلى الابتعاد عن الطائفية والتمسك بالوحدة وغيرها من الشعارات الرنانة، تفتحت عيون الناس عليها وأصبحوا يقضون نصف وقتهم بالحديث عنها حتى أصبحت واقعاً، وكأنها أضحت ردة فعل لتلك الشعارات، فعندما نطالب بتوفير الطاقة وإيجاد حلول بديلة لتسهيل الحياة على الإنسان، نجد أننا نصنع ما يزيد تلوث الجو وتلوثنا، وعندما ننادي بالحرية والعدالة، نُصبح عبيداً لأفكارنا ومطالبنا، عجباً انه بالفعل تناقض غريب عجيب من هذا الإنسان!! وبالنظر والتأمل إلى مسيرة الإنسان اليوم فإننا نجده يعود للخلف ويُعيدنا للزمن البدائي، وكأن رحلة البشرية الطويلة تنتهي بإعادتنا لزمن الخيم والصيد والعودة لتعلم أبجديات الحياة والطبيعة، ولكن، الإنسان نفسه لم يُبقي لنا مساحة سلمية ننصب عليها خيمنا ولم يترك لنا ما نصطاده من حيوان أو نبات نقتات منه، ويبدو أن الطبيعة هذه المرة هي من ستثور علينا لتُعيد بناء نفسها من جديد رغماً عنا وعن كل إنجازاتنا. كل العالم ينتظر اليوم مولوداً جديداً، آملاً أن يكون حاملاً لنا مستقبلاً أفضل بعد يأسنا من إنسان اليوم، البعض يقول: لما نُنجب لهذا العالم أطفالاً بريئين؟ فهو لا يستحقهم.. وهم لا يستحقون أن نظلمهم، فلنبقى هكذا حتى ينتهي هذا الجنس عن بِكْرة أبيه، ولا يبقى سوى الأخيار, عندها سيعودون لبناء جنس بشري جديد. البعض الاخر يقول: دعونا نُنجب آملين بقدوم جيل جديد يَربى وينمو نقياً صافياً علّه يُساهم بإنقاذ العالم وينشئ جيل جديد مُحب ومُسالم, التساؤل الذي يطرح نفسه هنا فيما اذا كان يجب علينا أن نحبسهم في قبو تحت الأرض ولا يخرجون فوقها, إلا عندما يكونون مستعدين للبناء؟ كيف سنحميهم ونحمي طبيعتهم الخيرة من التلوث والشر المحيط؟ فعلاً أصبح إنجاب الأبناء وتربيتهم معضلة حقيقة تواجه كل من يرغب بإشباع غريزة الأبوة لديه. وختاماً علينا أن نعترف أن العملية أضحت صعبة جداً، والقرار أصعب يحتاج لصحوة كبيرة وعامة، كفانا دعوات كاذبة وشعارات تطالب بالحرية واللاعنصرية واللاطائفية وهم براء منها، دعونا نعيش.. نعيش الحياة لأنها شيء طبيعي موجود فينا وبيننا، نعيشها بكل قطرة إحساس فينا. علينا أن نُزيل عن قيمنا السامية كل الغبار لأنها موجودة ومتأصلة بداخلنا، فلا يوجد داعٍ لأن نُطالب بها، كأننا بهذا نرغب باستيرادها من الخارج، فهي لا تُصنع ولا تبتكر، هي مجبولة فينا بطبيعتنا البشرية، القيم السامية والخيّرة موجودة ولكن.. انبشوا عنها وأخرجوها ولا ترسموها على لوحاتكم ولا تنادوا فيها بساحاتكم، أما لاحظتم بزيادة العداء والاعتداء كلما علا صوتكم؟ صوت الله نسيم عليل وليس عواصفٌ هائجةٌ، استمعوا عيشوا وعودوا لطبيعتكم الطيبة الخيرة فيكم وعندها فقط تتحررون وتُسعدون وتعيشون فعلا.