موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٣ مايو / أيار ٢٠٢٤
بمناسبة الشهر المريمي: العذراء مريم مثالنا في المحبة والتواضع

المطران باسيليوس يلدو :

 

عندما سُئل يسوع عن أعظم الوصايا في الناموس قال إنها وصية المحبة، الواحدة في مصدرها وغايتها، المزدوجة في موضوعها، فلم يفصل محبة الله عن محبة القريب بل قال إن في هذه المحبة المزدوجة ملخص الناموس والشريعة، فمن أحبَّ الله وأحبَّ أخاه فقد مارس الناموس بكامله وصار مرضياً لله.

 

إن محبة القريب هذه تقوم بان نحب القريب ونفرح لفرحه ونحزن لحزنه، ونريده كما نريد أنفسنا، ونسعى له في ذلك كما نسعى لأنفسنا، وما سوى ذلك وهم وخيال. تلك هي محبة العذراء مريم إلينا، فقد تجلت لنا، من خلال القليل الذي ذُكر عنها في الإنجيل المقدس. نراها تفرح لفرح قريبتها اليصابات فتبادر إلى تهنئتها وخدمتها: فقد سمعت من الملاك جبرائيل إن الرب قد عظم رحمته إلى نسيبتها فرزقها ابناً في شيخوختها. فقامت تسرع إليها لتزورها وتهنئها وتفرح لفرحها وتعرض عليها خدماتها في الأوقات العسيرة التي تسبق وترافق الولادة.

 

ثم تقدم لنا مريم البتول قدوةً ثانية في محبة القريب في حادث آخر جرى لها في أوائل حياة يسوع العلنية. كانت قد دعيت إلى عرس في قانا الجليل، وكان هناك أيضاً يسوع وبعض تلاميذه الأولين. ولاحظت في أثناء الاحتفال إن أهل العرس مرتبكون، فقد فرغت عندهم الخمر وصاروا حائرين، خجلين، لا يدرون ماذا يقدمون لضيوفهم. فرقَّ قلبها لحيرة هؤلاء المعارف وحزنهم، ولم يطاوعها على أن تكتفي بالعاطفة بل شاءت أن تتخطى منها إلى العمل، فبادرت إلى ابنها وطلبت إليه أن ينجدهم ولو بمعجزة، وهكذا يسوع يصنع او ل اية بناء على طلب امه العذراء مريم.

 

 

مريم مثالنا في البساطة والتواضع

 

أول ميزة تبدو لنا في حياة مريم العذراء وتثير دهشتنا هي بساطة تلك الحياة التي عاشتها وقناعتها العجيبة. فقد كانت مريم من سلالة ملوك يهوذا. وقد خصَّها الله بدعوة سامية وامتيازات فريدة. ولم يشأ أن يميزها بشيء من حيث الغنى والجاه وسائر المظاهر الخارجية التي كثيراً ما نعلّق عليها أهمية كبرى في حياتنا. بل يظهر أن عنايته الإلهية قد شاءت أن تكون مخطوبة لرجل بار (يوسف) هو أيضاً من بيت داود ومن سلالة الملوك، لكنه عاملاً بسيطاً في قرية صغيرة في الجليل.

 

وفي الواقع، إذا نظرنا إلى حياة مريم العذراء في بيت الناصرة، رأيناها حياةً لا تختلف في شيء عن حياة أهل الطبقة المتوسطة، التي تجمع إلى حياة مستورة فيها التعب والنشاط في البيت. وهكذا تبدو لنا هذه المباركة بين النساء غير متميزة في شيء خارجي عن سائر النساء. فما هي معجزات مريم في حياتها؟ وماذا فعلت مما لا تستطيع كل امرأة أن تفعله في حياتها البيتية البسيطة ؟ وبماذا تميّزت عن سائر النساء إذا استثنينا محبتها الشديدة لله وحشمتها ورصانتها في الحياة، وتفانيها العجيب في خدمة خطيبها يسوف وابنها يسوع، ومثالها الأكمل لفضائل العيشة الاجتماعية؟ بهذه البساطة التامة والقناعة العجيبة، تعطي لنا مريم أجمل درس وتخلصنا من أوهاماً كثيرة في قيمة المرء في هذه الدنيا. فكثيرون فيما بيننا يظنّون أن قدر الإنسان على الأرض يسمو بقدر ما تكثر أمواله، وتتوفر له أسباب الراحة والتمتع، ووسائل الزهو والفخفخة والمجد الباطل.

 

كثيرون بيننا لا ينظرون إلى السعادة إلاّ من خلال الجاه الرفيع، والمال الكثير، والتجارة الناجحة، والأثاث الضخمة، والمائدة العامرة، والسيارات الفاخرة والموبايلات الحديثة، والحياة الخالية من كل مرضٍ ومحنة. كثيرون يرومون لو كانت لهم خيرات الأرض ليستعيضوا بها عن نعيم السماء.

 

فمريم في بساطتها وقناعتها تقضي على هذه الأوهام الباطلة والغرور الفادح. سمو الإنسان هو في محبة الله وإتمام مشيئته؛ هو في محبة القريب والتفاني في خدمته، هو في فكر يطلب الصلاح، وقلب يميل إلى الخير، ويدٍ تعمل أعمال البر وبالإرادة الصالحة.

 

في الختام لنتأمل وننظر إلى أمنا السماوية مريم التي هي المثال الذي وضعه الله نصب عيوننا ليكون لنا دليلاً في سبيل حياة ملؤها المحبة والتواضع. إن تاريخنا وتراثنا المشرقي غني بالإكرام المريمي والمكانة الكبيرة التي تعبر عن مشاعر أجدادنا وآباؤنا الأولين تجاه مريم العذراء، فلنرفع قلوبنا وصلواتنا إلى من هي عنوان الفضيلة والنقاء، عنوان المحبة والخدمة والتواضع.