موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٣
ماذا بعد رحيل البابا بندكتوس واحتمال استقالة البابا فرنسيس؟

ألفرد عصفور :

 

يرى كثير من المتابعين للشؤون الكنسية أن وفاة البابا الفخري بندكتوس السادس عشر تمثل نهاية حقبة من القيادة المركزية في الكنيسة الكاثوليكية، وبداية عهد جديد من اللامركزية العالمية للكنيسة بما يتماشى بصورة أفضل مع قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني الذي اختتم أعماله في العام 1965 بجملة قرارات تحديثية للكنيسة.

 

ما هو سبب هذا التغير المتوقع؟

 

في أثناء المجمع الفاتيكاني الثاني ما بين 1962-1965 كان بندكتوس وقتها اسقفا وأستاذا للفلسفة في الجامعات الألمانية، وعمل مستشارا لكاردينال ألماني مشارك في المجمع وكان معروفا بانفتاحه وفكره الليبرالي فيما يتعلق بالشؤون الكنسية واللاهوتية. لكن الأسقف جوزيف راتزينغر وهذا اسمه قبل أن يصل إلى البابوية تغير تدريجيا نحو التشدد اللاهوتي، واكتسب المزيد من الفكر المحافظ . ولذلك عندما اصبح كاردينالا وتعززت صداقته مع البابا الراحل يوحنا بولس الثاني تسلم رئاسة مجمع عقيدة الإيمان، لأكثر من عقدين في الفاتيكان وكان في ذلك الموقع أشبه بالحارس الأمين على التراث الإيماني التقليدي وغير القابل للانفتاح والتحرر وخصوصا تجاه قضايا مثل الإجهاض ومنع الحمل والمثلية وما يسمى بالـ"موت الرحيم".

 

وعندما وصل إلى سدة البابوية قام بتحجيم بعض قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني، وتشدد في ضبط حرية رجال الكنيسة في مناقشة الكثير من القضايا بصورة واضحة. وقد تنبه المتابعون لشؤون الفاتيكان لتفكير البابا بندكتوس من خلال الاسم الذي اختاره لنفسه وهو بندكتوس الأمر الذي فهم منه تمسكه بالجذور الدينية للحضارة الأوروبية تشبها بالقديس بندكتوس من القرن الخامس الذي له الفضل في ترسيخ الجذور المسيحية لأوروبا.

 

هذا التشدد الذي رافق بندكتوس حتى نهاية عهده وبقي معه حتى بعد استقالته قد يكون بسبب أن شخصيته الأكاديمية كانت طاغية على شخصيته الكنسية، حتى في لقاءاته واتصالاته وكان يوصف بأنه الفيلسوف ومن الممكن ان يتم تذكره بهذه الصفة أكثر من تذكره بصفته البابا. وقد بذل جهودا مضنية للمحافظة على الإرث الروحي للكنيسة الكاثوليكية ودافع بقوة عن التراث الروماني التقليدي والفهم الأوروبي للكاثوليكية. ومع كل هذا التراث المحافظ كان هناك من هم أكثر تشددا منه وكان قلقا من محاولة انشقاقهم عن الكنيسة الأم في روما.

 

استقالة البابا بندكتوس قبل عشر سنوات واختياره لقب البابا الفخري، كانت علامة فارقة اجترحها بندكتوس نقلت الكنيسة الكاثوليكية إلى عصر سيعرف بعصر ما بعد بندكتوس، وخصوصا فيما يتعلق بالمدة التي سيقضيها أي بابا قادم في السلطة البابوية. ولا شك أن استقالته ستغير من طبيعة ومفهوم البابوية من مهمة تستمر مدى الحياة، إلى دعوة تتأثر بالضغوط السياسية والتقييمات الصحية ومصالح الكنيسة في العالم والقدرات الشخصية لصاحب المنصب، على الإدارة والسيطرة على البيروقراطية في مؤسسة دينية بالدرجة الأولى وكذلك دولة تتمتع بكل صفات الدولة.

 

وصفت استقالته بأنها كانت أمرا رائعا برغم ما أثارته من اللغط والتشكيك عند إعلانها. لكنها في الوقت نفسه شكلت أسوة حسنة لكل خلفائه ورسالة واضحة للذين سيأتون من بعده أن اتركوا المنصب في الوقت الصحيح. فهل التقط البابا فرنسيس الرسالة وقرر الاستقالة بعد رحيل بندكتوس؟

 

البابا فرنسيس الآن في سن بندكتوس عند استقالته وقد بدت عليه أثار العمر، وصحته في تراجع مستمر وبات الآن مضطرا لاستعمال الكرسي المتحرّك، ولم يعد بمقدوره في هذه الحالة الصحية وهذا العمر القيام بإجراءات جذرية في الإصلاح الكنسي. وفي الصيف الماضي سرت شائعات بين أروقة الفاتيكان عن نيته إخلاء منصبه عبر الاستقالة تأسيا بسلفه البابا بندكتوس لكن الأمر لم يتم وجرى نفيه في حينه.

 

ربما فكر البابا فرنسيس خلال السنتين الأخيرتين بالاستقالة فعلا، إذ تدهورت صحته كثيرا عما كانت عليه في سنة انتخابه. لكن احترامه لوجود سلفه البابا الفخري على قيد الحياة ربما منعه من ذلك فوجود بابوين مستقيلين في وقت واحد سيكون أمرا غريبا، ومستهجنا في الكنيسة. شخصية البابا فرنسيس تتحلى بالصمود والثبات ولا تبدو أنها تستسلم بسهولة وقد تخيب كل التوقعات، لكنه قال بوضوح في مقابلة صحفية أنه عنما يأتي الوقت ولا يكون قادرا فإنه سيستقيل.

 

فهل أتى الوقت المناسب بعد وفاة بندكتوس؟

 

برحيل البابا بندكتوس ربما يفكر البابا فرنسيس جديا بالاستقالة، لكن الأمر لن يتم قبل مرور بعض الوقت. فلا بد أن سابقة بندكتوس في الاستقالة ستغير بعض الحقائق المتعلقة بالسلطة الكنسية، ومدة بقاء البابا على رأس تلك السلطة. بحسب القانون الكنسي الخاص بخدمة رجال الدين الذي صدر وفق توصيات المجمع الفاتيكاني الثاني ودخل حيز التنفيذ في العام 1983 فإنه يتوجب على الأساقفة الكاثوليك، عند إتمام سن الخامسة والسبعين، تقديم استقالتهم إلى البابا الذي يقرر قبولها أو تأجيل قبولها. لكن القانون لا يشمل الكرادلة ولا يشمل البابا نفسه.

 

في هذا العصر المليء بالمتغيرات والمفاجآت، قد يكون من المفيد جدا للكنيسة شمول البابوات بسن معينة للاستقالة والتقاعد من الخدمة العامة. من المعروف أن تعيين الكرادلة وهم الطبقة العليا في تراتبية الكنيسة هو أمر من اختصاص البابا وحده، وعادة ما يقوم البابا بتعيين الكرادلة المتفقين معه في الأفكار والتوجهات. وهذا ما تم في تعيينات الكرادلة في الصيف الماضي الأمر الذي أثار تكهنات بأن البابا يهيىء مجمع الكرادلة لانتخاب خلف له بعد استقالته أو وفاته يسير على ذات نمط التفكير الذي يحمله.

 

فما الذي أوصى به البابا فرنسيس الكرادلة؟

 

لا أحد يعلم. لكن في اعتقادي الشخصي وبحسب ما يظهر من شخصية البابا فرنسيس من المتوقع أنه أوصاهم بانتخاب بابا غير متقدم في السن، بل يكون ما بين الخمسين والستين، وربما أوصاهم أيضا بتعديل قانون الاستقالة ليشمل البابا وتحديد سن استقالته.

 

منذ بداية عهد البابا فرنسيس انعقدت رابطة صداقة قوية بينه وبين بندكتوس، والتقى الاثنان اكثر من مرة وبصورة علنية في معظم المرات. كان فرنسيس اقل تشددا من بندكتوس وقد أثار غضب المحافظين بآرائه وأفكاره التي وصفها هؤلاء المحافظون بأنها خلقت بلبلة في الكنيسة.

 

بغياب بندكتوس قد يشعر المحافظون في الكنيسة الكاثوليكية بنوع من الفراغ، لكن كثرتهم في الولايات المتحدة قد تعطيهم تعزية وتدفعهم لتشكيل لوبي قوي في الكنيسة، قد يكون له تأثير في انتخاب البابا الذي سيخلف البابا فرنسيس. لكن في معظم الأحيان لا يمكن التنبؤ بمسيرة الأحداث في الفاتيكان وبشكل خاص في الأوقات الحرجة.