موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٢
قداس عيد الميلاد الاحتفالي في كاتدرائية ماريوسف الكلدانية في عنكاوا

ستيفان شاني :

 

بمناسبة احتفالات الكنيسة بعيد ميلاد ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، ترأس المطران بشار متي وردة، رئيس أساقفة أبرشيّة أربيل الكدانية، مساء السبت 24 كانون الأوّل 2022، القداس الاحتفالي، في كاتدرائية مار يوسف الكلدانيّة في عنكاوا، بمعيّة الشمامسة وجوق الكاتدرائية، وبمشاركة المسؤولين المدنيين وجمع غفير من المؤمنين تجاور 1500 شخصًا.

 

بدأت الاحتفالية بمسيرة الرعاة ومن ثم أوقد سيادته شعلة الميلاد معلنًا ولادة يسوع، وذكّر في عظة الميلاد أهميّة العائلة وعنايتها بالاطفال، وشدد المطران وردة على مساعدة الفقراء في هذا العيد وتقديم كل الإمكانيات الموجودة للفقراء من أجل رسم ابتسامة الميلاد في وجه جميع المؤمنين، إذ خصصت كنائس الأبرشيّة تقدمة القداديس لدعم أنشطة جمعية الرحمة الخيريّة الكلدانيّة.

 

 

عظة الميلاد 2022

 

"لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ" (لو 1: 7)

 

يروي لنا القديس لوقا الإنجيليّ حدَث الميلاد، بعد أن سَمِعَ البُشرى السّارّة من الذين كانوا يُعاينونَ الأحداث، وكانوا خُدّاما ًللكلمة مثلما يقول هو في بدءِ إنجيلهِ (1: 1- 3)، واختارَ بعنايةٍ كلَّ تعبير، ليقولَ لنا، أن الذي رُفِضَ وصُلِبَ على الجُلجلةِ في أورشليم، ثمَّ بشرّ به الملائكةُ قائماً من بين الأموات، وظهرَ لتلاميذه في اليوم الثّالث، هو نفسه الذي لم يكن لعائلته مكان يبيتون فيه عند مولده، فوُلِدَ في اسطبلٍ للحيوانات، في بيتَ لحمٍ اليهودية، بيتِ الخُبزِ، فهو خبزنا الحقيقيّ الذي نتناولهُ في كلِّ إفخارستيةٍ نحتفلُ بها، ليقَوِّينا فنكون شهوداً لمحبّتهِ ورحمتهِ وصلاحهِ، من خلال شهادةِ حياتنا اليومية الصادقة، وصلاح أفعالنا. فغاية الميلاد، هي مثل غاية الاحتفالِ بالإفخارستيا: أن يجمعنا الرّبّ حوله ويُباركنا بحضوره بيننا وفينا، وحينما نقبلهُ في حياتنا، يجعلنا قدّيسين وأطهاراً، وأهلاً لنقبلَ الأقداس التي نتناولها، ونُمجَّدهُ إلهاً أوحد في حياتنا، وتكونَ لنا إرادة صالحة لنُحقِّق مشيئته في حياتنا، فلن ينعمَ العالم بالسّلام ما لم تكن هناك إرادةٌ صالحةٌ تُريد السّلام والحياة الكريمة للجميع. فمِن أجل هذا تجسَّد كلمة الله لكي يُعلِّمَنا طريقة حياة، قيلَ عنه: "طريقة يسوع الناصريّ" (أع 9: 2)، فنَتبَعَهُ مؤمنينَ أنّ لنا فيه الحياة.

 

يقول القديس لوقا إن أحوالَ العائلة الشابّة اضطرت، بسبب قرارات أوغسطس قيصر، الذي قدّمَ نفسه آنذاك إلهاً ابنَ إله، وطلَب من المعمورة أن يُعبدَ ويُكرَمَ كمُخلصٍ. إذ أصدرَ القيصرُ أوامره بإحصاءِ سكّان المسكونة كلّها، ليجنيَ منهم الضرائبَ، فهم عبيدهُ، ولا يختلِفَ هو بذلك عن الحُكّام الذي يتوهمونَ أن كرسيَّ السلطة يُعطيهم الحقَّ في استعبادِ الشّعبِ، ليس هذا فحسب، بل أن ما يُقدمونهُ من خدماتٍ، وهي واجباتُهم، يعدّونها إنجازاتٍ تاريخية، على الشّعب أن يُمجدِّهم عليها. إزاءَ ذلك، يولَدُ طفلُ المغارة اليوم، فتمدّهُ الملائكة مُخلِّصا، لأنه ما جاء ليُرهِبَنا ويأمُر فيُطاع، بل ليخدِمَ ويشفيَ ويرحَمَ ويُطعِمَ ويُفرِحَ القلوب، ويُقدِّم جسدهُ لنا خبزاً مكسوراً.

 

تركَ يوسف ومريم الجليل، وسافرَا إلى النّاصرة، لأنهما كانا من بيتِ داودَ، "وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ" (لو 2: 6 – 7). هذه الولادة لم تكن مُصادفةً، بل هي جزءٌ من تدبير الله الخلاصيّ، هذا ما أكّده بُولس الرسول في رسالته إلى كنيسة غلاطيّة قائلا: "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ" (4: 4)، ففي ولادة كلِّ طفلٍ هناك تدبيرٌ إلهيّ، وينتظر الله من الإنسان أن يُساهِم في تتميم إرادتهِ للعالم أجمع. لذا، يُخبرنا القديس لوقا أن ولادة ربِّنا يسوع حصَلَت عندما كان أوغسطس قيصر إمبراطور المسكونة، وهو إعلان أن ولادة الطفل يسوع هي بُشرى للعالم أجمع، مثلما أعلنَ الملائكةُ: "لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: "أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ" (لو 2: 10 – 11). فمن خلال هذا الطفل سيرافِقُ اللهُ الإنسانَ عن قُربٍ، سيسيرُ معهُ في الطريقَ، يستمعُ إليهُ، ويُعلّمهُ كيف له أن يُميّز تدبير الله في حياتهِ، مثلما سيفعل تماماً مع تلميذي عمّاوس في خاتمةِ الإنجيل (لو 24: 13- 35)، سيكون معنا دوماً، مثلما وعدنا (متّى 28: 20)، إذا سمَحنا له بأن يدخل قلوبنا ويحلَّ فيها إلهاً أوحد، فيُنيرَ حياتنا بمجده، ليُعلِّمنا كيف نختارُ إرادةَ الله في حياتنا.

 

اِستقبلت أمّنا مريم الطِّفلَ يسوع وقَبِلَتهُ بفرحٍ وقمّطتهُ بما حضرت له من أقمشةٍ تمنحه الدّفء بخلاف آخرين الذين لم يكن لديهم الوقت والمكان لقَبولهِ، كما أنَّ ليس لديهم الوقت والمكان لقبول الآخرين، بسبب الانشغال بالذات وبإشباع الرّغبات ومحاولةِ تحقيق الامنيات، هكذا، ليس لديهم وقتٌ لله نفسه. عجيبٌ حالُ ذلك الإنسان! فهو يلتجئُ إلى الله وقت المحنةِ فقط، ولا يتذكّرهُ إلا وقت العوز. فمن لا يخصِّصُ وقتاً ومكاناً لله، لن يكون لديه مكان ووقت للقريب، ولن يختبِرَ حضور اللهِ في حياتهِ، وهو يأتيه طفلاً بحاجةٍ إلى المحبّة والحنان، وفي هذا السّياق يقول الله لكلّ إنسان: "أنا خلقتُ العالمَ وجعلتهُ حسناً، وأنت قادرٌ على أن تجعلَ العالم حسناً، فأنا خلقتُكَ على صورتي ومثالي (تك 1: 26- 27)، وأنا بحاجةٍ إليك لتُبقي هذا العالم حسناً"، فتعلَّم ما هو أساسي في الحياة: أن تكون رحوماً مثلي".

 

يواصل القديس لوقا روايتهِ فيقول إن مريم "أضجَعَتِ الطّفلَ في مذودٍ"، بمعنى أنه وُلِدَ في إسطبلٍ للحيوانات، لأنه لم يكن لهما موضعٌ في المنزل، والمذود مكانٌ يضعون فيه طعاماً للحيوانات، ليقولَ لنا الله، هذا هو الطعامُ الحقيقيّ الذي تحتاجهُ يا إنسان، فانحنِ لتقبلَهُ وتضمَّهُ إليكَ بمحبّة، مثلما انحنى هو اليوم نحونا جميعاً، ليجمع لله عائلةً، إخوةً وأخواتٍ مُتحابيّن، لا يتصارعون فيما بينهم ليُبرهنوا لله مَن يخافهُ أكثر، أو مَن يُحّبه بشكل أصدق، ولا يتنافسون ليكونوا الأهمّ والأقوى، مثلما صار مع قائين وهابيل، وتواصلَ إلى يومنا هذا، بل عائلةً تعرِف أن تَشكرَ الله على كلِّ نعمةٍ، وترى في وجه كلِّ إنسانٍ صورة الله ومثالَهُ (تك 1: 26- 27).

 

يتركَ الإنجيلي لوقا الإسطبلَ، ليُخبرَنا أيضاً عن احتفال الملائكةِ مع رُعاةٍ فقراءَ كانوا ساهرين على أغنامهم. أُناس ليسوا مهتمّين براحتهم ليناموا، بل هم ساهرون متيقِّظون، يُراقبون كلَّ ما يدورُ من حولهم، ويستشعرون الأخطار التي تُهدّدُ مراعيَهم، ووحده الإنسان السّاهِر المُتيقِّظ قادرٌ على أن يرى نور مجد الله. نحن أيضاً نسهرُ، ولكنّ سهرنا لا يقظةَ فيه، بل يُتعبُنا، ويُرهقُ أطفالنا، الذين هم في امسِّ الحاجةِ إلى محبتنا ورعايتنا لنُعطيهم ما ينفعُهم لبناء مُستقبلٍ يشعرون فيه أن الله اختارَهم وبارَكَهم ليُتمّموا تدبيرَهُ. لكن محّبتنا اليوم لأطفالنا يُمكنها أن تُفسِدَهم من دون أن نقصِدَ ذلك، فتلبيةُ كلِّ طلباتِهم، من دون أن نمتلِكَ الشّجاعة لنقول لهم: لا، قد تكون بدايةً لأحداثٍ سنندمُ عليها.

 

يروي لنا أحد المُفكِّرين، أنه زار سجناً للأحداث، وسمِعَ قِصَصَ المراهقين والشّباب المسجونين، وسألهم: لو كُنتم أباءً وأمهاتٍ اليوم، فما الذي كُنتم ستحرصون على فِعلهِ مع أولادكم؟ أجابوا بإجماع: أن نقول لهم: لا إزاء بعض طلباتهم، فهذا الذي لم نسمعهُ من والدِينا، ولهذا، نحن اليوم هنا.

 

مريم أمنا تُعلّمنا كيف ينبغي لنا أن نرعى أطفالنا، فنحرصَ مُقتدينَ بمثالها، على أن يكونوا قريبين من الله. فمريمُ الأمُ كرّسَّت اِبنها لله على يديّ شمعونَ الشّيخ، واجتهدت، كلَّ سنة، لتُصعِدَه إلى الهيكل، وتركتهُ أن يكون مع بقيّة الأولاد، واندهشت لأنه اختارَ أن يكون بين العلماء، وكانت سعيدة وهي تراهُ ينمو في القامةِ والحكمة أمام الله وبين الناس.

 

فلنُسرِع مثلما أسرعَ الرُّعاة لنقترِبَ من مريم وطِفلها، لنتعلّم منهما ما هو ضروريٌّ لحياتنا، فأمام فقرِ مشهدِ الميلاد نتعلّم أن التحضير لميلاد يسوع ليس بالبذخ والإسراف في الإنفاق، كما يحصل في العادةِ، بل بتهيئةِ قلبٍ متواضعٍ، يعرِف كيف يُحِب، قلبٍ مهمومٍ بالآخرين، ومُنشغلٌ باحتياجاتهم العديدة. قلبٍ متوكّل على الله رغم القلق والخيبات المؤلمة. هوذا الله يدعونا جميعاً لنتركَ كلَّ مُغريات هذا العالم ومخاوفهِ، ونُعظّمَهُ إلهاً أوحد في حياتنا، ففيه وبه وحدهُ خلاصنا، فلنطلبُ منه خبزَنا كفافَ يومِنا، ولنجتهد في أن تكون بيوتنا مليئةً بحضورهِ، فهو مُستعدٌ دوماً لأن يقبل دعوتنا. فأيُّ طفلٍ سيرفض أن يُحمَل ويُقبَّل ويُحتضَن، لا سيّما إن كان طفلاً فقيراً، وابن عائلة فقيرة؟ هذا الطفل الإلهي مُستعدٌ ليدخل حياتنا في كلِّ إفخارستية نحتفلُ بها، وهو يُريد أن يجمع العائلة والأصدقاء والأقرباء والمُحبيّن ليفرحوا وبمشاعرَ صادقة، أحدهم تجاه الآخر، فما نَفعُ التّهاني اليوم إذا تحوّلت إلى لعناتٍ في الغد بسبب أمورٍ زائلة؟ النظر إلى المغارة الفقيرة، يُذكّرنا بأننا كلنا فقراء، عُراةً نأتي إلى الحياة، وهكذا نخرجُ منها، لذا، فالذّي جمعناه لمَن سيكون؟ 

 

 

فلنُصلِّ:

 

يا إلهَنا وملكَنا، نُمجِّدُكَ دوماً إلهاً أوحد في حياتنا، فتعال وجدِّدنا بالفرح الذي تُريده أنت لنا، لا المتعة التي يُغيرنا العالم بها. ففرحكُ يُريحُنا، ومتعة العالم تُتعبنا.

 

أنِر عقولَنا لنعرِف أن الاحتفال بالميلاد يكون بمدِّ يد السّلام والمُصالحة للجميع، فنطرَح عنّا قصص الماضي التي ما تزالُ تُعذبنا وتُثقِل حياتَنا، لنستقبلَ نورَ يسوع الشّافي.

 

علِّمنا أن الفرح هو في لقاءِ العائلة، الإخوةِ والأخواتِ، مُتصالحينَ ومتحابين، لا يُفرقهم مالٌ، أو غنى أو منصبٌ أو جاه. فقوِّنا يا ربُّ لنفعلَ ما هو صالحٌ في عينيك، فأنت خلَقَتنا على مثالِك، صالحين، وتعرِف أننا قادرون على أن نكونَ رُحماءَ ومُحبينَ.

 

اِجلعنا حاضرين لحاجة الفقراء والمعوزين، فنُسرِعَ لإغاثتهم، ونُدخِلَ فرحَ الميلاد في حياتهم، ونُبارِكَهم بالبركة التي باركتَنا بها، فساعِدنا كي نجدَ لهم مكاناً في قلوبنا، ونُعطيهم بحبٍ وسخاءٍ.

 

نشكرك يا ربّ لأنّك اخترتَ أن تولدَ اليوم بيننا لترافقنا برحمتِكَ، لتملأ حياتنا بالفرح والسلام، فساعدنا لنفسح المجال رحباً أمامَك، فنستقبلِكَ ونعرِفَكَ ونخدُمَك في إخوتِكَ، فنكون أهلً لتستقبلنا ونسمع منّ: "تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ" (متّى 25: 34- 36).