موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٨ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١
عظة البطريرك بيتسابالا: الأحد الثامن والعشرون للزمن العادي، السنة ب، 2021

بطريرك القدس للاتين :

 

كي ندخل في النص الإنجيلي لهذا اليوم، دعونا نخطو خطوة إلى الوراء ونستذكر ما ورد في نهاية عظة الأحد السابق.

 

رأينا أن يسوع يقدّم للتلاميذ الذين يهيمن عليهم جنون العظمة أسلوبَ حياة يتمثل باحتضان الأطفال في لفتة حنان.

 

يمكن أن يكون هذا الحنان مفتاح قراءة اللقاء بين يسوع والرجل الغني الوارد في الفصل العاشر من إنجيل القديس مرقس.

 

نجد في هذا اللقاء نفس الموقف السابق. نرى من ناحية رجلًا غنيًّا بدون اسم، يُطيع الشريعة وله خيرات مادية كثيرة، ومن ناحية أخرى، ينظر يسوع إليه من منظور المحبة. يُحدّق إليه يسوع ويحبه (مرقس ١٠: ٢١).

 

ويبدو أن هذا الرجل لا ينقصه شيء (مرقس ١٠: ٢١) سوى المحبة! إن هذا النقص بالتحديد هو ما يجعله غير راض وفي حالة اضطراب، ويبحث عن الحياة.

 

وما دامت حياتنا مقتصرة على مستوى الفرائض والبحث عن سعادة هي فقط ثمرة طاعتنا وجهدنا، فليس بوسعها إلا أن تتسم بالغموض، دون أن تجد ما هو أساسي في الحياة. وستبقى هذه الحياة منغلقة على ذاتها.

 

بالمقابل، الحياة الأبدية مصدرها اللقاء مع الآخر والمحبة المجانية التي بها يُنظر إلينا. لم يقم هذا الرجل بأي أمر يجعله يستحق أن ينظر يسوع إليه. ومع ذلك، لا نجد في إنجيل مرقس أي لقاء آخر تُستخدم فيه عبارة قوية كهذه، تتكلم عن نظرة يسوع ومحبته.

 

يبدأ اتباع يسوع حين تصبح نظرته مؤثرة في حياتنا بحيث تقلبها رأسا على عقب، لا بل تصبح هي الحياة ذاتها. أما ما يتبقى من الخيرات والأحكام والطاعة والعلاقات والمشاكل، فتفقد أهميتها وتأخذ معنى جديدًا أساسه نظرة حب يسوع، حيث يمكن للإنسان أن يرجع إليها ويستقي منها. إن هذه النظرة هي ما تمكّننا من العيش.

 

تُغيّر الحياة مجراها بسبب هذا الحب. هناك دومًا أمر مشترك بين أولئك الذين يلتقون الرب وهو أن حياتهم تأخذ منعطفًا جديدا. هذا ما حدث مع المجوس ومع زكا العشار. ومن الأمثلة الجلية على ذلك والقريبة من النص الذي نقرأه اليوم، قصة برطيماوس الذي يلقاه يسوع وهو خارج من أريحا (مرقس ١٠: ٤٦– ٥٢). بينما كان جالسًا يتوسل على جانب الطريق، سمع بمرور يسوع وتضرع إليه ثم شُفي، “فأبصر من وقته وتبعه في الطريق” (مرقس ١٠: ٥٢). لقد أبصر وغيّر مساره، خاصة وأصبحت طريقه نفس طريق يسوع المؤدية إلى أورشليم.

 

أما الرجل الغني في إنجيل اليوم فإنه لا يبصر، وعليه فهو لا يُغيّر مساره. يعود إلى الطريق التي جاء منها وهو يشعر أن الفراغ التهمه. لا تصبح طريقه اتباعًا للمسيح بالرغم من جميع نواياه الحسنة والجيدة التي جعلته يقترب من الرب.

 

لماذا لا يرى؟

 

لقد رأينا تميّز الحدث الإنجيلي لهذا اليوم، لأنه المرة الوحيدة في الانجيل التي بها نقرأ أن يسوع يحدّق ويحب. والمحيّر هنا أن هذا اللقاء هو واحد من اللقاءات الفاشلة.

 

وعليه فإن هناك خطرا حقيقيا يتمثل في عدم رؤية نظرة يسوع، وعدم السماح لأنفسنا بالوصول إلى أعماقها. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة.

 

لا يتقبل هذا الرجل الغني الحب لأنه لا حيّز في قلبه للحب، ولأنه يفتقر إلى القدرة لعمل مساحة له في داخله. قلبه متعلق بالخيرات التي منها يأمل الحصول على الحياة. إنه يحب، لكنه منشغل بأمر آخر. وهذا الانشغال هو مرضه، وهو مرض يصعب الشفاء منها كما يقول يسوع (فأجال يسوع طرفه وقال لتلاميذه: ما أعسر دخول ملكوت الله على ذوي المال (مرقس ١٠: ٢٣). إنه مرض ولا تهدف التجربة الدينية إلى تجريده بل إغنائه وتوسيع آفاق ذاته.

 

إن الغنى الذي يشوّش القلب ليس بالضرورة أمرًا ماديًا. يمكن أن يكون فكرة أو ذكرى أو شخصًا أو ذريعة أو مكانًا أو قرارا أو حتى شعورا ما.

 

هل نفقد الأمل إذًا؟

 

الأمل الذي يقدم النص إشارة إليه يتمثل في الحزن. انصرف الرجل حزينًا (مرقس ١٠: ٢٢) على غرار من يدرك فشله في إنجاز مهمة هامة.

 

من المثير للاهتمام أن القديس مرقس استخدم كلمة “حزن” مرتين؛ واحدة في هذه الفصل والثانية في الفصل ١٤ في الآية ١٩ التي تشير إلى التلاميذ الذين شعروا بالحزن لما علموا أن واحدًا منهم سيسلم يسوع.

 

هذا يعني أن الحزن يمكن أن يكون جزءًا من خبرة التلميذ. هذا الحزن هو علامة على بداية مسيرة تجمعنا جميعًا، و“تقيس” عجزنا الكامل أمام هذه المهمة الصعبة في اتباع المسيح. إن الفصح وحده يمكنه أن يحوّل هذه الحزن إلى فرح حيث يسطع نور مجانيّة الحب من جديد، ويفتح عيون الذين وصل إليهم النور.