موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

يَدعوني فأستجيبُ لَه

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
يَدعوني فأستجيبُ لَه

يَدعوني فأستجيبُ لَه

 

عظة الأحد الثّلاثون-ب

 

"تَشَدَّد وَقُم، فَإنَّهُ يَدعوك"! أَعمى أريحا صورةٌ مُصَغّرة لحالِ البَشرية اليوم، بِكلّ مَصَائِبِها وَمَشاكلِها وتَعقيداتِها! هذا الرّجل الْمَدعو بَرطيماوس أو ابن طيماوس، كانَ مُبتَلىً بالعَمى، لا يُبصِر! وَلَو أغلقَ كُلُّ واحدٍ مِنّا عَينَيهِ لِثَوانٍ مَعدُودَات، لَشَعرَ بِرَهبةِ الظُّلمةِ ورُعبِ العَتمَة! فَكيفَ يكون حالُ هذا الرّجلِ الأعمى؟! أَضِف إلى ذلِك، أَنَّ برطيماوس هذا، كان يسكُنُ مدينةَ أريحا، والّتي هي مَدينةٌ نَجسةٌ ومَلعونةٌ عندَ اليهود (يشوع بن نون الفصل 6).

 

لَيسَ ذلِك فَحسب، بل إنَّ الأعمى كانَ جالِسًا، على جانبِ الطّريق، يَستَعطي. ومِن دلالاتِ الجلوس العَجزُ وَنَقصُ الهِمّة، وَقِلّةُ النّشاط. أَمّا جانِبُ الطّريق، فَيدلُّ على التَّهميش والازدِراء الّذي يَنظرُ بِهِ النّاسُ إليه. وهذهِ هي الجَدَلِيّة العَقيمة السّائدة في مجتَمَعِنَا، فَفيهِ الكلُّ يَهوى ازدِراءَ الكُل، لأنَّ الكلَّ يَعتبِرُ نفسَهُ أفضلَ من الكُل! ثُمّ أَنّه كانَ يَستعطي، والاستعطاء يدلُّ على فقرٍ وحاجةٍ للغوث، إذْ لم يَكُن قادِرًا على العَملِ الّذي يَأتيِه بالرِّزق، لِذَلكَ يَلْجَأُ إلى التَّسوّلِ والاسْتِجدَاء، (الشّحدة)، لِيُؤمِّنَ لَهُ قُوتَ يومِه!

 

أيّها الأحبّة، حالةُ برطيماوس، حالةٌ مَأسَاويّة بِكُلِّ الْمَعاييرِ! ومع ذلكِ كانَ يملِكُ سلاحًا فعّالًا، ألا وهو سلاحُ الصِّياح! أَخذَ يَصيح، أَطلقَ نِداءَ استِغاثة، طَلبَ النَّجدةَ والمعونة. والإنسانُ يَصيح عِندَمَا يَقَعُ في مأزِقٍ ومُصيبة، وعندما تحفُّ به المخاطرِ وتخنُقُه الضِّيقَات، ويشعرُ نفسهُ عاجِزًا، لا حول له ولا قوّة، فَيأخُذُ بالصّياحِ والْمناداة، طلبًا للمساعدة، فَهَل مِن سَميعٍ مُجيب؟

 

هَذهِ الْمَرّة اِسْتَعطى الرّجلُ، لَكِن لا مالًا ولا طعامًا، بَل اِستَجدَى رحمةَ يسوع، فَصَاحَ بأعلى صوتِه، لا مرّة بل مَرّتَين: "رُحماكَ يا ابنَ داود". وهذا الاستجداءُ أَتى أُكُلَهُ، بِأن استوقَفَ يسوع، الّذي دَعاهُ إليه، مانِحًا إيّاه ما سألَ وَتَسوّل، فأبصرَ مِن وقتِه وتبِع يسوع في الطّريق!

 

أُنظروا إلى التّبدّل الّذي أَحدَثَه يسوعُ في حياةِ هذا الرّجل، فَقد نَقَلَهُ مِن حَالٍ إلى حَال. كان أَعمى فصارَ يُبصِر. كان جالِسًا على قارِعةِ الطّريق يَستعطي، فَوثبَ وَأَخذَ يسيرُ مع المسيحِ في الطّريقِ بِكُلّ كَرامة، ولا يحتاجُ لأحدٍ أن يُشفِقَ أو يَتمنَّنَ عليه، أو يَزدَريه مُشيحًا عنهُ وَجهَهُ. ثمّ تأمّلوا في النَّقلةِ الجغرافية! فَبرطيماوس كانَ يَقطُن في أريحا، تلك الْمدينة الْمَلعونَة، الْمُنخَفِضة نحو -260 متر عن سطح البحر، فَصعدَ مع المسيحِ صوبَ القُدسِ المباركة، المرتفِعة نحوَ +800 متر فوقَ سطح البحر. هُناكَ حيثُ سَيتمُّ أَعظمُ حَدثٍ عَرَفتهُ الإنسانية، وفيه اكتملَ الخلاصُ وتمَّ الفِداء.

 

قُلنا في البداية أنّ برطيماوس يُمثّل البشرية في مَصائِبها وَعِلَلِها. فَعِندَ البَعض برطيماوس هو عَمَى القَلب وعَمى الضّمير! عند البعضِ الآخر برطيماوس هو الجلوسُ والارتِخاءُ أو الاستسلامُ أمامَ الخطيئةِ والْمَعصية. عند البعضِ بَرطيماوس هو الانحِدارُ والنّزولُ صوبَ أَخفضِ مُستوى من مُستويات الرّذيلةِ والزّلّة. عند البعضِ هو الافتِقارُ إلى الأخلاقِ والحاجةُ إلى المبادِئ. عند البعضِ الآخر برطيماوس هو ضَياعُ الكرامة أو بَيعُها، لأتفِه الأسبَاب وأبخسِ الأثمان. فَمَا أكثرَ أمثالَ برطيماوس في هذهِ البشرية، الّتي هي أحوجُ ما يكون لِرحمةِ يسوع. وَلِكنّي أراها تأبَى أن تصيحَ، أو تُطلِقَ أيّ نداء استغاثة. بكلماتٍ أُخرى، هذا هو رفضُ التّوبةِ والإصرارُ على الخطيئة!

 

يقولُ النّص بأنَّ أُناسًا كثيرين أَخَذوا يَنتهِرون الأعمى عندما أَخذَ يَصيح، فَطَفقَ يصيحُ بأعلى صوته. هذا الانتهار من جانِب أولئِك النّاس، وهو فعلٌ سلبي، قَابَلهُ الأعمى بِعَزيمةٍ وإصرارٍ أكبر. وهذا ما يُعَلّمُنا إيّاه الأعمى، بإنّ مُقابلةَ شَرّ النّاس، لا يكون بالاستسلام أو بِشَرٍّ آخر مُقابِل، بل بخيرٍ أعظم من شرّهم وسوئِهم.

 

أَيّها النّاس: لِماذا تُريدون إِسكاتَهُ؟ ألا يَحقُّ لَهُ أن ينعمَ هو أيضًا كَغيرِه، برحمةِ يسوع وَبِشَفائِه؟! للأسف، كثيرون يلعبون هذا الدّورَ السّيء للغاية! دَورٌ سلبي شرّير، طاقةُ هَدِم، تَكسيرُ أجنِحة، تربيطُ عزيمة، نَيلٌ من أصحابِ الهِمّة، تحطيمُ مبادرات ومحاربةٌ للأفكار الخلّاقة... لا يحلو لهم حدوثُ الخيرِ أو حصولُ النّعمةِ لغيرِهم! نصيحتي، مَهمَا نابَك من النّاس، من أقوالٍ وأفعال وردّاتِ فعلٍ سلبيّة، لا تسمح لهم بإن يُحطِموا مجاديفكَ، أو يَنالوا مِن شُعلةِ حماسِكَ.

 

ولكن، حتّى لا أُرْمَى بالْجَورِ في الحكم، أقولُ بِأنّ مِنَ النّاسِ مَن لَعِبوا دورًا إيجابيًّا، حين دعوا الأعمى قائِلين: "تَشدّد وقُم، فإنّه يَدعوك". دومًا سَنَتقابل مع هَاتين الفئتَين من النّاس: فئة الْمُحبِطين، وفئة الْمُنهِضين. تجدُ من يَبثُّ فيكَ العزيمةَ بَعد ارتخاء، ويُحي في نفسِكَ الأملَ بعد قُنوط ويأس. وأتمنى أن نُصادِفَ دومًا أمثالَ هؤلاءِ الْمُشدّدين لِضعفِ غيرِهم.

 

أيضًا، يقول النّص بإنّ يسوعَ لحظةَ دعا برطيماوس، وَثبَ وجاءَ إلى يَسوع! ما أجملَ هذهِ الصّورة، لِرَجُلٍ كانَ قَبل لحظاتٍ في عجزٍ وعوز، والآن نَراهُ يثِبُ بحَيويةٍ ونَشَاط. يقولُ سفرُ حبقوق النّبي: "الّربُّ الإلهُ قُوّتي، وهو يَجعَلُ قَدَميَّ كالأيائِل، ويُمّشّيني على مَشارِفي" (حبقوق 19:3). وفي عالم الرّياضة هناك مُسابقة الوَثبِ الطّويل، والّتي تحتاج إلى لياقةٍ بدنيّةٍ عالية، وقوّةِ دَفعٍ كبيرةٍ من الأرجُل. وفي الّلغةِ الوَثب يَعني القَفزَ والانقضاض. فكأنَّ صديقَنا برطيماوس يقفِز مِن مكانِه، للذّهابِ إلى يسوع، فَيَغنَمَ بهذهِ الجائزة الثّمينة.

 

يا أحبّة، ما أجملَ هذا الوصف لِتَجاوبِ الأعمى مع دعوةِ المسيحِ له. يَثِبُ ويأتي إِلَيهِ بِكلّ اندفاعٍ! لم يَسمح لِلعراقيل، سواءً تلك الّتي في نفسِه، أَو تِلكَ الّتي وَضعَها النّاسُ أمامَه، أَن تَمنَعَهُ أو تُشَكّلَ لَهُ عائِقًا، يَحوُلُ دون ذهابِه إلى المسيح والتحاقِه بركبِه. وَنحن بدورِنا كيفَ نتجاوبُ مع دعوةِ اللهِ لنا، حينَ يُنادِينا إلى حياةِ القَداسة وعَيشِ النّعمة؟ هل نُلبّي النّداء؟ هل نَتَشدّد وَنقبلُ الدّعوة؟ أم نحنُ مصابون بداءِ الكسلِ والخمولِ أمام دعوةِ الله؟!

 

يقولُ المزمور 91: "يَدعوني فأُجيبُه، أنا مَعَهُ في الضّيقِ، فأُنقِذُهُ وأُمجِّدُه، بطول الأيّامِ أُشبِعُه، وأُريِه خلاصي" (مزمور 15:91). في كلّ ضيقٍ، وعندَ كلِّ شِدة، أُدْعُو الله، وَالْتَمِس مِنهُ لنفسِكَ شِفاءً وحِفظًا ونجاةً، عَلّكَ تُصيبُ منه رحمةً وعونًا وافْتِداء. الحياةُ يا أحبّة قد تَدعو للإحباطِ أحيانًا كثيرة، وفيها كثيرٌ من الظّروف الْمُخالِفَة لِما نَتَمَنّى وَنَطمَح، أو قوى الشّدّ العَكسي. ومع ذلك، قد يمرُّ المسيحُ بِكِ وبي وبكَ، كَمَا مرّ اليومَ بِبرطيماوس، فأرجوك ألا تُفَوِّتَ هَذهِ الفرصة حين يدعوك.