موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

لحظةُ "تَرْكِ التَّرْكِ" وحقيقتُها

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
لحظةُ "تَرْكِ التَّرْكِ" وحقيقتُها

لحظةُ "تَرْكِ التَّرْكِ" وحقيقتُها

 

مُقدّمة

 

يا له مِن شاب غني، ولكنَّه حزين ومُعَذَّب، ذاك الشّاب الذي جاء يومًا حائرًا متسائلًا: «يا مُعلِّم، ماذا أَعمَلُ مِن صالحٍ لأَنالَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟» (مت 19/ 16)! لقد طلب يسوعُ مِن هذا الشّاب أنْ "يترك ويتخلّى" (مت 19/ 21)، ولكنّه "تَرْك التَّرْك" (مت 19/ 22)؛ ومِن ثَمَّ جاء عليه يومٌ– واحَسْرَتَاهُ– "تَرَك فيه تَرْك التَّرْك".

 

إنَّ هذا ليس لُغْزًا مُعقَّدًا، ولكنّها حقيقة قد لمسها وعاشها هذا الشّاب المسكين؛ ونخاف أنْ نحياها نحن أيضًا، كلُّ واحد منّا على طريقته. ولذلك نرغب في عرض هذا الحقيقة الصّادقة، لا لندين أحدًا، بل لنوبِّخ أنفسنا؛ وليس لنتركها، بل لنستوعبها جيّدًا ونستخرج منها الرّسالة والعبرة لنا نحن أيضًا.

 

 

1. التَّرْكُ: مطلبُ المسيح

 

عندما كان في مدينة أورشليم، اعتاد يسوعُ بذاك الجمع الغفير الذي اتّبعه، وكان مدركًا غاية الإدراك لحقيقة كلّ واحد منهم، وما يكنّه في صدره له. فيا له مِن شخص في غاية الرّوعة والحنان ذاك الذي رأى حقارة البشر وخبثهم، ولم يدنهم بقداسته المتناهية؛ بل على العكس، أشفق عليهم إشفاقًا لا مثيل له، «لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها» (مر 6/ 34)!

 

وأمَّا هذا الشّاب الغني الذي اقترب من يسوع، لم يكن مثلهم، وكان جادًّا حقًّا؛ فلم يكن مثل هؤلاء الخبثاء المغرضين الذين طرحوا الأسئلة المحرجة على يسوع ليحسبوا عليه الأخطاء، حتّى يتسنَّى لهم تحقيق أغراضهم الدَّنِيئَة. لقد اختلف عنهم جميعًا بجدّيّته، وتميَّز عنهم برغبته في البحث عن الحقيقة. ولكن– يا حسرتاه– على شاب مثل هذا الشّاب، الذي لما وصل إلى مبتغاه، والذي كشفه له يسوعُ، أي احتياجه الحقيقيّ، نجده سايكولوجيًّا (نفسيًّا) في حالة مأسَويّة مِن الصّراع بين "الإقدام" و"الإحجام": فقد تردّد هذا الشّاب تردُّدًا أدَّ به إلى صراع مرير بين رغبته في تَرْك "أملاكه"، وبهذا يقتني يسوعَ مُعلّمًا وقائدًا، والملكوتَ عَطيّة ومكافأة، وبين رغبته في تَرْك كلام هذا المعلّم الملزم، وبهذا يقتني أملاكه لوقت مِن الزّمن. لقد أسرع هذا الشّاب في حسم الصّراع، وفي إعطاء المعلّم إجابة حاسمة، أي «فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ هذا الكلام، اِنصَرَفَ حزيناً لأَنَّه كانَ ذا مالٍ كثير» (مت 19/ 22).

 

إنَّ هذا هو المقصود بـ"التَّرْك": فقد أرده يسوع أن ينسلخ عن ذاته بتَرْكه أملاكه، وأن يتبعه اتّباع التّلميذ لمعلّمه، عندما قال له « إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني» (مت 19/ 21)؛ وأمَّا هذا الشّاب المسكين لم يرق له القيام بهذا "التّرْك" والانْصِياع لمطلب يسوع.

 

 

2. تَرْكُ التَّرْكِ: رفضُ الشّاب لمطلب المسيح

 

إنّ ما فعله هذا الشّاب يدعو إلى التّعجُّب والتّساؤل حقًّا: لماذا لم يترك هذا الشّاب كلّ شيء تلبيةً لنداء يسوع، أعظم معلّمي البشر بأسرهم؟ ولِمَ نلمح رغبته الملحّة في استبقاء أملاكه، التي يفسدها السُّوس والصَّدأ (متى 6/ 20)؟ بل وكيف لم ينصاع لنصائح مَن نصح البشر في كلّ العصور والأماكن، وكان أفضل مَن أسدى بنصائح لهم؟ ولماذا مضى حزينًا وكان في صحبته أملاكه وثروته؟

 

لا يمكن أن نجد أجوبة لهذه التّساؤلات كلّها إلّا بالدخول في أعماق وخبايا هذا الشّاب! وكيف يتسنَّى لنا هذا، أي كيف نتمكَّن مِن الدّخول والتَّجوُّل في أعماقه؟ «فمَن مِنَ النَّاسِ يَعرِفُ ما في الإِنسانِ غَيرُ روحِ الإِنسانِ الَّذي فيه؟» (1 قور 2/ 11)! ولذلك فإنّنا سنحاول أنْ نتخيَّل موقفه فحسب: إنّنا نتخيَّل حاله عندما فتح يسوع فمه وأسدى له بنصائحه. فيا له مِن مسكين حقًّا! لقد كان ممزَّقًا بين رغبتين، وما هو الصّراع إلَّا هذا النّزاع المرير بين رغبتين؟ الرّغبة الأولى هي أن يحتفظ بأملاكه، وأن يظلّ مالكًا للمال والثّراء؛ والثّانية– وما أجملها رغبة مشتهاة!– بأن يصير كاملًا، وهي تكمن في تَرْك الرّغبة الأولى وتحمُّل ما ينجم عنها مِن ألم وعذب.

 

ولكنّه لم يرغب في أن يستمرّ هذا الصّراع وقتًا طويلًا، فقرَّر قرارًا ربّما ندم عليه طوال حياته: لقد قرَّر أن "يترك هذا التَّرْك" الذي طلبه يسوع منه. فلم يترك "أملاكه" كما نصحه يسوع، وإنّما– بإرادته وحرّيّته– "تَرَكَ التَّرْك". وبكلمات أخرى، كان يعرف هذا الشّاب جيّدًا الحكمة العظيمة القائلة: «إذا أردتَ أنْ تغلبَ العالمَ، فاغلبْ ذاتكَ» ("فيدور دوستويفسكي")؛ ولكنّه لم يرض بأن يترك أملاكه، بل قرَّر أن يترك يسوع ونصائحه. إنّه حقًّا تخلَّى وتَرْك بحرّيّة كاملة لا ما طلبه منه يسوع، أي "الأملاك"، وإنّما يسوع وما قاله له، أي أنّه "تَرَكَ التَّرْك".

 

إنّه مسكين للغاية هذا الشّاب! فقد أضاع جدّيّته وصدقه في البحث عن الحقيقة برفضه الحقّ الذى أعلنه له يسوع، الذي هو "الحَقُّ" عينه (يو 14/ 6)؛ وكانت النّتيجة هي أنّه «اِنصَرَفَ حزينًا» (مت 19/ 22). فماذا تُجدي الأحلام والطّموحات الورديّة دون خطوات عمليّة تجسّدها؟ وهل تنفع الرّغبات الصّالحة والأمنيّات الجميلة دون عمل مضحٍّ ينسلخ فيه الإنسان عن ذاته؟ ثمَّة مَثَلٌ إِيطَالِيُّ مُعبِّر يقول: «إنَّ نَبتة "أنا أريد" لا تنمو ولا حتّى في حديقة الملك»!

 

 

3. تَرْكُ "تَرْكِ التَّرْكِ": استحالةُ الاختيار

 

لقد نسِي أو تناسى هذا الشّاب "لحظة" لا يستطيع أحدٌ منّا –مهما ارتفع شأنه– أن ينساها، إنّها "لحظة" و"حقيقة" في آنٍ واحدٍ؛ فمهما حاول هو ومهما حاولنا نحن أن ننساها وندفنها لن نستطيع إلى ذلك سبيلًا. إنّها "حقيقة"، بل حقيقة مِن أقسى الحقائق وأمرّها، إنّها حَدَثٌ يحدث يوميًّا، ولكنّه يهزّنا بمُفاجأته؛ إنّها باختصار "حقيقة الموت". فمَن منّا اكتشف وسيلة يهرب بها مِن ذاك الذي يُدعَى "الموت"؟ ومَن منّا اخترع طريقًا ينجيه من هذا "المجهول القاسي"؟ وهل مِن أحد ابتكر دواء يشفينا من هذا "الدّاء اللّعين الأعمى"؟ «إن لغز الحياة البشريّة يبلغ قمته أمام الموت. فالإنسان لا ينزعج لآلامه وانحلال جسده التدريجيّ، بقدر ما تزعجه أيضًا فكرة الفناء النهائيّ. لذك نجده يتوق بكلّ قلبه إلى استبعاده ورفض هذا الفشل النهائيّ لذاته. إن بذرة الخلود الكامنة فيه والتي لا تجد مردّها في المادّة وحدها، تثور على الموت. إن جميع المحاولات العلمية مهما بدت مفيدة، قد ثبت عجزها عن تبديد قلق الإنسان. فحتى إطالة العمر بيولوجيًّا لا تشبع رغبة الإنسان في حياة مستقبلية، فإنها تأصلّت في أعماق قلبه ولا يمكن اقتلاها» (المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني المسكونيّ، دستور راعويُّ "الكنيسة في العالم المعاصر"، بند 18).

 

لعلَّ هذا الشّاب عندما قام بـ"تَرْك التَّرْك"، أي عندما قام بتَرْك نصائح يسوع الذي دعاه وطالبه بالتَّرْك، لم يفكّر لحظة في هذه "اللّحظة الحتميّة"، أي الموت! ولعلَّه لم يدرك أن هذا الموت الذي سيواجه حتمًا هو تَرْكُ "تَرْكِ التَّرْك"! فالموت في الحقيقة هو تَرْكٌ، لا للأملاك والأموال فحسب، وإنّما تَرْكٌ للحياة برمّتها؛ فهو تَرْك للأشخاص والعلائق، لمن أحبَّنا وأحببناه! وليس هذا فحسب، ولكنّه هو ذاك التّرْك الذي فيه نترك "تَرْك التَّرْك" أيضًا، أي أنّه ليست ثَمَّة فرصة أخرى تُعرَض علينا وتطالبنا بالتَّرْك. فالموت يجعلنا نترك حتّى إمكانيّة الاختيار مجدَّدًا؛ فهو بحقٍّ ليس فقط إمكانيّة الاستحالة، وإنّما استحالة كلّ إمكانيّة أيضًا!

 

إنّنا لا نعلم على وجه التّحديد ماذا حدث مع هذا الشّاب بعد ذاك اللّقاء مع يسوع؛ فإنّنا نرجوا مِن صميم قلوبنا أن يكون قد فتح قلبه وعقله لصوت المعلّم الصّالح فنال الحياة الأبديّة. ولكنّ حديثنا هنا يفترض أن هذا الشّاب لم ينصاع لنصائح المعلّم الصّالح؛ فلقد كان الموت– الذي لم يستعدّ له هذا الشّاب– بمثابة تَرْك "تَرْكِ التَّرْك"، أي تَرْك "إمكانيّة القبول أو الرّفض" مرّة أخرى. فها كاتب المزمور الثّلاثين يُعبِّر عن ذلك تعبيرًا بليغًا، فيخاطب الله قائلًا: «أَلعَلَّ التُّرابَ يَحمَدُكَ ويُخبِرُ بِحَقِّكَ؟» (مز 30/ 10)! ولذا، يرفع صلاته إليه: «أُنظُرْ واْستَجِبْ لي أَيُّها الرَّبّ إِلهي وأَنِرْ عَيَنيَّ لِئَلاَّ أَنامَ نَومةَ المَوت» (مز 13/ 4)!

 

 

خاتمة

 

إنَّ "الحقيقة" التي دار حولها حديثنا هي أمرٌ في غاية الجدّيّة، وهي رسالة ودعوة لنا للتخلّى والانسلاخ عن الذّات والأنانيّة وكلّ ما يمتلكنا ظانيين أنّنا نحن الذي نملكه، «لأَنَّ الإِنسانَ عَبْدٌ لِما استَولى علَيه» (2 بط 2/ 19)! إنّها "حقيقة التَّرْك" الذي يدعونا إليه يسوع المسيح، المعلّم الصّالح، الذي وعدنا بأنّه سيعوِّض هذا التَّرْك الإراديّ الحرّ أضعافًا وأضعافًا: «ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أُمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة» (مر 10/ 29-30)!

 

«نجد في إنجيل متى شابّا (متى 19، 20-22) اقترب من يسوع وسأله عمّا إذا كان هناك المزيد ممّا يستطيع أن يفعله (متى 19، 20)، بهذه الروح المفتوحة التي تميّز الشبّان الذين يبحثون عن آفاق جديدة وتحدّيات كبيرة. في الواقع، لم تكن روحه شابّة بالفعل، لأنه كان متعلّقًا بالغنى وبوسائل الراحة. قال إنه يريد المزيد، لكن عندما طلب منه يسوع أن يكون سخيًّا وأن يوزّع أملاكه، أدرك أنه لا يستطيع التخلّي عن كلّ شيء يملكه. وفي النهاية، "لَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ هذا الكلام، اِنصَرَفَ حزينًا" (متى 19، 22). تخلّى عن شبابه» (البابا فرنسيس، الإرشاد الرّسوليّ ما بعد السّينودس "المسيح يحيا"، بند 18).

 

وماذا عنّا يا تُرى؟ فهل سنترك "التَّرْك" الذي يطالبنا به يسوع، ونتبعه كتلاميذٍ حقيقيّين وصادقين، طائعين إياه الطّاعة اللّائقة بأعظم معلّم في تاريخ البشريّة؟ أم سنتظر اليوم الذي فيه سنترك، لا محتوى "التَّرْك" (ما نعتبره ثروتنا) فحسب، بل إمكانيّة "تَرْك التَّرْك" (إمكانيّة الاختيار) أيضًا؟

 

«يا يسوع العذب الحبيب جدًّا، هب لي أن أستريح فيك فوق كلّ خليقة. فوق كلّ عافية وجمال، فوق كلّ مجد وكرامة؛ فوق كلّ اقتدار ووجاهة، فوق كلّ علم ودهاء؛ فوق كلّ ثروةٍ وفن، فوق كلّ سرور وابتهاجٍ؛ فوق كلّ سمعةٍ ومديح، فوق كلّ عذوبة وتعزية؛ فوق كلّ أمل وموعد، فوق كلّ استحقاق ورغبة؛ فوق كلّ ما يمكنك أن تمنح وتفيض من المواهب والعطايا، فوق كلّ فرح وتهلل، يمكن العقل إدراكه والشعور به؛ أخيرًا فوق الملائكة ورؤساء الملائكة، وفوق جميع جيش السماء؛ فوق جميع المنظورات وغير المنظورات، فوق كلّ ما ليس إياك يا إلهي" ("الاقتداء بالمسيح"، 3، 21، 1).