موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٩ مايو / أيار ٢٠٢٢

"لاهوت الصليب أم شجرة؟" بين كاتبي سفر التثنيّة والرسالة إلى أهل غلاطية

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"لاهوت الصليب أم شجرة؟" بين كاتبي سفر التثنيّة والرسالة إلى أهل غلاطية

"لاهوت الصليب أم شجرة؟" بين كاتبي سفر التثنيّة والرسالة إلى أهل غلاطية

 

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (تث 21:22- 23؛ غلا 3: 6- 14)

 

مقدّمة

 

الموت على شجرة أو على خشبة أو على الصَّليب، كتابيّا، كان بمثابة حكم الشريعة اليهوديّة بالعهد الأوّل، بل كان العقاب لـمّن يُخالفها. لذا مات يسوع على الصَّليب كعقاب من الشريعة له بالعهد الثاني كحكم إدَّانة الّذي أعتبر لـمَن تم تعليقه على خشبة كعلامة لعنة للمحكوم عليه. إلا إنّ رفع يسوع على خشبة الصَّليب جاء ليقلب الموازيين ويُتمم ما بالشريعة وهذا هو الجديد الذي يضيفه فكر هذا المقال. من خلال الصَّليب الذّي كان علامة لعنة قبل المسيح بالعهد الأوّل كما سنتعمق في نص سفر التثنية (22: 21- 23) في مرحلة أوّلى. وعلى ضوء هذا النص سنتعمق في فكر بولس، وهو يهودي الأصل الّذي كان مُنتميّا للمذهب الفريسي قبل معرفته للمسيح، إذ من خلال هذه الخلفية اليهودية المتجذرة في صليب المسيح مُعلنًا عن الجديد في رسالته الأوّلى إلى جماعة غلّاطية بالعهد الثاني (3: 6- 14). قلّب بولس المعايير وأعطانا مفهوم جديد عن خشبة الصَّليب، إذ من خلال الصَّليب صار يسوع المحكوم عليه ظلمًا، مصدر للخلاص والبركة لكل البشرية بصليبه المقدس. من خلال موت المسيح على "الصَّليب" سنتعرف معًا في هذا المقال على قيمة خشبة الصَّليب لنصل مع بولس إلى اكتشاف سر لّاهوت الصَّليب الّذي عبره المسيح بموته وقيامته. أهمية "الصَّليب" الذي نحمله على صدورنا وبيوتنا وكنائسنا. نهدف في مقالنا هذا، أنّ نتعمق معًا في "سر الصَّليب" الّذي يحمل الجديد فيصير بدلاً من لعنة علامة للخلاص الأبدي، ففي الصَّليب خلاصنا.

 

 

1. الموت على شجرة (تث 21: 22- 23)

 

ليس لدينا بالعهد الأوّل كلمة "الصَّليب"، ولكن هناك بعض الرموز التي تشير له على سبيل المثال الحرف الأخير من الحروف العبرية وهو التاو (راج خر 12: 13).  خشبة أو شجرة هي علامة للصليب الّتي يتم موت المجرم عليها بحسب فكر كاتب سفر التثنيّة القائل: «وإِذا كانَت على إِنْسانٍ خَطيئَةٌ تَستَوجِبُ المَوت، فقُتِلَ وعلَّقتَه على شَجَرَة، فلا تَبِتْ جُثَّتُه على الشَّجَرَة، بل في ذلك اليَومِ تَدفِنُه، لأَنَّ الـمُعَلَّقَ لَعنَةٌ مِنَ الله، فلا تُنَجِّسْ أَرضَكَ الَّتي يُعْطيكَ الرَّبَّ إِلهُكَ إِيَّاها ميراثًا. (تث 21: 22- 23). سنحلل في مقالنا هذا كيف سينقلب هذا الفعل عكسيًا في الفكر المسيحي من خلال كلمات الرسول بولس.

 

 

2. التعليم البولسيّ (غلا 3: 6- 14)

 

في هذا المقطع من رسالة بولس إلى أهل غلاطية (3: 6- 14) ينقسم إلى أربعة نقاط رئيسية:

1. (3: 6- 7) خلاصة للجزء الكبير 3: 1- 4: 7 من ذات الرسالة؛

2. (3: 8-9) تبشير الوثنيين؛

3. (3: 10- 12) لعنة الشريعة؛

4. (3: 130 14) الانعكاس الّذي حمله يسوع يـُمهد للعمل الخلاصي المفاجئ والذي تممَّه المسيح.

 

يكشف تفسير بولس الواضح في الآيات 3: 13- 14 حل لقضية الشريعة. هنا الصَّليب يصير الـمَخْرَج لقضية واجهت المؤمنين بين الشريعة القديمة والجديد الذي يحمله يسوع. النور الجديد الّذي حمله يسوع لا تحتويّه الشريعة ولا القدرات البشرية بل الذي يُكمل الشريعة بالخلاص وهو المسيح. بخلاص يسوع يتم التحرير من لعنة الشريعة ذاتها.

 

 

3. الإيمان مفتاح الخلاص (غلا 3: 6-9)

 

قد ميزَّ بولس دور الشريعة من خلال إيمان إبراهيم حينما قال: «آمَنَ إِبراهيمُ بِالله، فحُسِبَ لَه ذلِكَ بِرًّا. فاعلَموا إِذًا أًنَّ أَبْناءَ إِبراهيمَ إِنَّما هم أَهْلُ الإِيمان» (غلا 3: 6- 7؛ راج تك 15: 6). بما أن أهل غلاطية من أصل وثني فهم لا يعتمدون على الشريعة. لذا أراد بولس أن يرافق خطواتهم الإيمانية معلنًا أن إبراهيم قبل أن يقطع الله معه العهد كان أصله وثني. وكما بدأ إبراهيم مرحلة خاصة (العهد) في تاريخ الخلاص (راج تك 15: 6)، من خلال الإيمان، هكذا يسوع يحمل الخلاص لكل مَن يؤمن به. وهنا بولس لا يشير إلى إيمان إبراهيم بقدر ما يشير إلى الإيمان بيسوع والذي بواسطته أهل غلاطية قبلوا الروح (راج غلا 5: 2-5).  يُلهمنا بولس في هذا المقطع بأنّ الإيمان يجعلنا أبناء لإبراهيم فهو بحسب معنى اسمه أب لكثيرين، وبإيمانه بالله، بالعهد الأوّل، فتح الطريق لإيماننا بابنه في العهد الثاني. مما يعني أن مصدر الأبوة الإبراهيمية للبشر اليوم هو الإيمان. ويستمر بولس في هذا التفسير في الآيات التالية مشيراً لفعل استخدمه هنا فقط من بين مُدوني العهد الثاني: «ورأَى الكِتابُ مِن قَبلُ أَنَّ اللّهَ سيُبَرِّرُ الوَثنِيَيِّنَ بِالإِيمان فبَشَّرَ إِبراهيمَ مِن قَبْلُ قالَ لَه: "تُبارَكُ فيكَ جَميعُ الأَمَم" (غلا 3: 8). فعل "بَشِّرَ" هو فعل له مذاق خاص إذ لا يُذكر هذا الفعل سوى هنا. أما بالنسبة للفظ الأمم يعني الوثنيين، كأصل أهل غلاطية، وليس الأمم عامة. مما يؤكد إتمام الرّبّ لوعده (راج تك 12: 3). وهذا يؤكد السبب الذي جعل بولس يوجه كلمات تحذيرية: «يا أَهْلَ غَلاطِيةَ الأَغْبِياء، مَنِ الَّذي فَتَنَكُم، أَنتُمُ الَّذينَ عُرِضَت أَمامَ أَعيُنِهِم صُورةُ يَسوعَ المسيحِ المَصْلوب؟ [...] أَمِنَ العَمَلِ بِأَحْكامِ الشَّريعةِ نِلتُمُ الرُّوح، أَم لأَنَّكم سَمِعتُم بِشارَةَ الإِيمان؟» (غلا 3:1- 2).

 

 

4. الشريعة مصدر اللعنة (غلا 3: 10-12)

 

ظهرت أهمية كلمات سفر التثنية 27: 26 التي يكررها بولس في رسالته إلى غلاطية 3: 10 قائلاً: «فإِنَّ أَهْلَ العَمَلِ بِأَحْكامِ الشَّريعةِ هم جَميعًا في حُكمِ اللَّعنَة، فقَد وَرَدَ في الكِتاب: "مَلْعونٌ مَن لا يُثابِرُ على العَمَلِ بِجَميعِ ما كُتِبَ في سِفْرِ الشَّريعة"». ليؤكد ما سيخبرنا به كإتمام «فقَد وَرَدَ في الكِتاب». إلا إنّه من خلال قوله التالي: «أَمَّا أَنَّ الشَّريعةَ لا تُبَرِّرُ أَحَدًا عِندَ الله فذاك أَمْرٌ واضِح، لأَنَّ "البارَّ بِالإِيمانِ يَحْيا"، على حِينِ أَنَّ الشَّريعةَ لَيسَت مِنَ الإِيمان، بل "مَن عَمِلَ بِهَذِه الأَحكامِ يَحْيا بِها"» (3: 11- 12) يتناقض مع كاتب سفر حبقوق (راج 2: 4؛ لا 18: 5) ليؤكد كلمات سفر التثنية. يشدد بولس أن الشريعة لم تتأسس على الإيمان بل على "الحفظ" ووجوب "العمل بالشريعة (راج لا 18: 5).

 

 

5. الانعكاس الكريستولوجي (غلا 3: 13-14)

 

قد انقلبت معايير عقاب الشريعة من اللعنة للبركة، ومن الموت إلى الحياة وهذا يعود إلى إبراز لّاهوت الصَّليب في كتابات العهد الجديد عامة وفي الرسائل البولسيّة خاصة. لذا وجدت إنه لابد من التوقف معكم اليوم على وجه هذا الانقلاب وطبيعته من خلال الوجهة البولسيّة الّذي أشار إلى صليب المسيح في تعليمه اللّاهوتي فكشف بأنّه علامة قوة وليست ضعف وتغير الفكر من الحماقة إلى الحكمة. من خلال توضيح دور الشريعة الانتقالي، ينقلنا بولس إلى قمة تعليمه الكريستولوجي بقوله: «إِنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا، فقَد وَرَدَ في الكِتاب: "مَلْعونٌ مَن عُلِّقَ على الخَشَبَة". ذلِك كَيما تَصيرَ بَرَكَةُ إِبراهيمَ إِلى الوثنِيِّينَ في المسيحِ يسوع فنَنالَ بِالإِيمانِ الرُّوح المَوعودَ بِه» (غلا 3: 13- 14). من خلال ختام هذه الكلمات يكشف عن التناقض الذي لم يشير لإنسان ملعون من الشريعة يصير بركة، بل كالمسيح فهو مُدان بحسب الشريعة. فبالرغم من محاكمته ولعنة الشريعة الـمُوجه ضده تتم القيامة بل مَن كان موضعًا للعنة يصير مانحًا للحياة. ففي هذا المشروع الإلهي الغريب والـمُعضِل ندرك بشريًا أن الحكمة ليس لها مكان بالشريعة بل تحدّ منها. لدرجة أن الذين يعملوا بالشريعة يُستعبدون بلعنتها. وها هنا تظهر البركة الـمسيانيّة التي يمنحها المسيح لمن يؤمن به وليس من عمل الشريعة.

 

  هذا الإنعكاس الكريستولوجي الـمُحبب لدى بولس، يوضحه في قلب هذا النص، يسوع "لا يصير لعنة" و "لا يصير خطيئة"، بسبب جُرم ما، بل "لأجلنا" ومن أجل خير بشريتنا وُصِف بصفات لن تنتمي له. لهذا، شرط اللعنة، من قبل الشريعة لم يكن نهائي بل انتقالي، بل بالأحرى وُلدت بركتنا في اللعنة التي نَّالها بسببنا. بهذا التبادل يختتم بولس التناقض الذي عرضه بين لعنة الشريعة وبركة المسيح لذا قال بولس: «ابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي» (غلا 2: 20ب).

 

يشير التناقض الكريستولوجي إلى عمل المسيح الذي يحدده بولس مستخدمًا فعل "يفدي": «إِنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة» (3: 13أ)، أكملّ يسوع فدائه من خلال موته على الصَّليب. مَن؟ كيف؟ من أي شيء فدانا المسيح؟ وما هو ثمن الفداء؟ نجد إجابة هذه الأسئلة في الاستعارة التي يقدمها بولس في غلا 3: 13ب- 14 إنّ خلاص المسيح والذي يقدمه بشكل انعكاسي أي من خلال ما كان "لعنة" يصير علامة فداء.

 

 

6. لّاهوت الصَّليب (غلا 3: 6- 14)

 

اهتم بولس باستخدام استعارة انعكاسية ليشير للفداء من خلال تعبير أن يسوع "صار لعنة"، ومن هنا يُبدل واقع الشريعة كـ "لعنة"، مُضيفًا كنايّة خاصة عن الإنعكاس الكريستولوجي وهو الدور الّذي أضافه المسيح بفدائه للبشرية. وذات المفهوم يتكرر بقوله: «ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله» (2كور 5: 21). هنا يعبر بولس بأن يسوع صار خطيئة وهو ليس بخاطئ. وبهذا التفسير يتناول معنى الخطيئة بالشريعة، غير مُطبقًا إياها على المسيح بسبب برارته. ويأتي تأكيده الثّاني حيث يصف بولس يسوع بلفظ سامي وهو "الحكمة" فيقول: «بِفَضْلِه [الله] أَنتُم قائمونَ في المسيحِ يسوعَ الَّذي صارَ لَنا حِكمَةً مِن لَدُنِ الله وبِرّاً وقَداسةً وفِداءً» (1كور 1: 30).

 

فمن الضروري هذا التشبيه هنا بسبب تحوّل اللعنة إلى بركة للكل. هذا الإنعكاس الذي قدمه بولس في هذا المقطع نجده يتوازى في جذره بسفر التثنيّة القائل: «لأَنَّ المُعَلَّقَ لَعنَةٌ مِنَ الله» (تث 21: 23أ//تث 27: 26 و1ات الفكر نجد التوازي بين مع غلا 3: 10 // ذبيحة اسحق تك 22: 1- 4 والنشيد الرابع لعبد أدوناي أش 52: 13- 53: 12). من خلال هذا المنظور قد يكون المعيار الأساسي هو العبد المتألم، لدى بولس "المعلق على خشبة" هو الأقرب لتقديم سر الخلاص بالصَّليب، حتى وإن لم يشير إليه صراحة في غلاطية 3: 13.

 

كعادة بولس يتبع بقوله: «كَيما تَصيرَ بَرَكَةُ إِبراهيمَ إِلى الوثنِيِّينَ في المسيحِ يسوع» (غلا 3: 14أ) الصيغة الانعكاسية لأهل غلاطية الّذين مِن أصل وثني إذ يتوازى تعبيره الـمُشير للبركة الممنوحة لإبراهيم (راج تك 12: 2-3)، مع «فنَنالَ بِالإِيمانِ الرُّوح المَوعودَ بِه» (غلا 3: 14ب) البركة الّتي تشير للوعد بالروح القدس كبركة مستمرة من خلال الابن. وهنا نتلمس الجديد في الدرور الكريستولوجي للابن بالروح.

 

 

الخلّاصة

 

ساعدنا بولس من خلال غلاطية 3: 6- 14 على تفسير ما ذكره كاتب سفر التثنية 21: 22- 23 بالعهد الأوّل. كِلّا النصين أبرزا نوع من الحوار لمضمون مقالنا وهو "قيمة الصَّليب لّاهوتيًّا". شدّدَ بولس في تعليمه كاشفًا الجانب الكريستولوجي ومعتمداً على مصدر بالشريعة من خلال نص سفر التثنية. بهذا القول: «لِذلِك فالمُبارَكونَ مع إِبراهيمَ المُؤمِنِ إِنَّما هم أَهْلُ الإيمان» (غلا 3: 9) يختتم بولس هذا المقطع بلفظ "الإيمان"، الذي يسود على تعاليمه، مما يجعل له مقياس مُكتف من ناحية الانفتاح بالإيمان على الروح القدس. بالرغم من أن اعتبار الصَّليب أو الخشبة بالعهد الأوّل حكم بالموت على البشرية بل هو جنون الاعتقاد بالفقدان، إلا أنّه حينما يتم الإيمان بالفادي الذي قدم ذاته على خشبة الصَّليب يصير بركة ومركز للإيمان المسيحي. في كل مرة يتحدث فيها بولس عن الصَّليب يشير للتَّدرج من سمة "القدرة البشريّة" إلى سمة "القدرة الإلهيّة" الذي تمّ كشفه في البُشرى الإنجيلية. بقول الرسول: «فإِنَّ كلمة [وليس لُغَةَ باليوناني] الصَّليب حَماقةٌ عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الهَلاك، وأَمَّا عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الخَلاص، أَي عِندَنا، فهي قُدرَةُ اللّهُ» (1كور 1: 18). يشير بولس بتعبير "كلمة الصَّليب" ليس إلى الموت على الصَّليب بقدر ما يشير للّاهوت الصَّليب. هذه الكلمة الإلهية الـمُعلنة في قوة الصَّليب التي حملت قيامة يسوع وقيامتنا.