موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ فبراير / شباط ٢٠٢٣

ضياءَ النّيراتِ في الكّون (فيلبّي 15:2)

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

عظة الأحد الخامس من زمن السّنة- أ

 

مِلحُ الأرضِ وَنُورُ العَالَم! وَمِنْ طَبيعَةِ الْمِلحِ أَنْ يمُزَجَ مَع الأطْعِمَةِ، فَيُعطيهَا نَكْهَتَهَا الْمُسْتَسَاغَة، وَيحفَظُهَا مِنَ الفَسَاد. وفي الْمُقابِل، النُّورُ هوَ العُنصرُ الّذي يُبدِّدُ العَتمَةَ ويدْحَرُهَا، وَيْبَقَى مُنَزَّهًا نَقيًّا دُونَ شَائِبَة. وَهَذا ما يَجعَلُني أَذْكرُ وَإيّاكم، كَلِمَاتِ يَسوعَ في صَلاتِهِ قُبَيلَ آلامِه: ﴿وَأَمّا هم فلا يَزالونَ في العالم﴾ (يوحنّا 11:17). وَيَقولُ أَيضًا: ﴿لَيسوا مِن العالم، كَما أَنّي لَستُ مِن العالَم﴾ (يوحنّا 14:17). فَنَحنُ يَا أحبَّة، وَإنْ كُنَّا في هَذا العَالم، فَدَعوَتُنا أَلّا نَحيا كَمَا يَحيا العالم. إذْ نحنُ كَالْملحِ نَختلِطُ في هَذهِ الدُّنيا، مُعْطينَ إيّاهَا نَكْهَةً إِنجيليّةً مَسيحيَّةً طَيَّبة. وَفي الوَقتِ عَينِه، نحنُ نُورٌ، وَضِياؤنَا يَشعُّ مِن اللهِ الّذي يَسكُنُ فينَا، وَعَلَينا أن نحفظَ هَذا النّورَ مُضَاءً وَصَافيًا.

 

وَلَكِن إذا كانَ الْمِلحُ قَدْ فَسُدَ، فَهَذَا تَعبيرٌ عَن فَشَلِ الْمَسيحيِّ في عَيشِ دَعوتِه الْمَسيحيّة! فَعِوَضًا عَنْ أَنْ يُعطيَ العَالم طَعمًا، تَراهُ يأخُذُ هوَ مِنْ طَعْمِهَ، حَتَّى يَفْسَدَ وَيَفنَى! وَإذا كَانَ النّورُ يُخفَى أَو يُخمَد، فَهذَا أَيضًا تَعبيرٌ عَنْ إِخْفَاقِ الْمَسيحيِّ في عَيشِ دَعوتِهِ نُورًا للعالم، إِذْ سَمَحَ لِلظُّلمَةِ أَنْ تَغشَاه، وَللعَتمَةِ أَنْ تَملأَ نَفسَه! ولِذلِكَ قالَ الرّبُّ مُخاطِبًا نيقوديمس: ﴿إنَّمَا الدّينونَةُ هيَ أنَّ النّورَ جاءَ إلى العالَم، فَفضَّلَ النّاسُ الظّلامَ على النّور، لأنَّ أعمالَهُم كانَت سيّئة. فَكلُّ مَن يَعملُ السّيئاتِ يُبغِضُ النّور. وأَمّا الّذي يعمَلُ للحقّ، فيُقبِلُ إلى النّور، لِتُظهَرَ أعمالُهُ، وَقَدْ صُنِعَت في الله﴾ (يوحنّا 19:3). فَأينَ هيَ أَعمَالُنا وَمَا هِيَ طَبيعَتُها؟ أَصُنِعَت في النّورِ والبَهاء، أَمْ حِيكَت في الظَّلامِ وَالخَفَاء؟

 

الْمِلحُ يَا أَحبَّة يحفَظُ وَيُطهِّرُ وَيَشفي! أَلا نحفَظُ الأطْعِمَةَ وَنُطهِّرُها بالْمِلح؟ أَلَم يُلْقي أليشاعُ النّبيُّ في الْمَاءِ مِلْحًا، فُشُفيَ الْماءُ وَرَجعَ ماءً عَذبًا؟ (راجع 1ملوك 19:2-22). وَأَنتَ أَيُّها الْمَسيحي: هَلْ أَنتَ عُنْصُرُ حِفْظٍ وَتَطهيرٍ وَشِفَاء، في مَكانِكَ وَزَمَانِك؟ أَمْ أنَّكَ قَدْ فَسَدتَ، وَأَصَابَكَ العَطبُ والسَّقَم؟!

 

وَإذا كانَ الْمَسيحُ قَدْ خَاطبَ العُميانَ مِنَ اليهودَ، فَقال: ﴿أَنا نورُ العالَم. مَن يَتْبَعني لا يمشِ في الظّلام، بَل يكونُ لهُ نورُ الحياة﴾ (يوحنّا 12:8). فَهَل تَسيرُ أَنتَ في نورِ الْمسيحِ وَبِهَديِ ضِيائِه، أَم أَنّك أَعمَى القَلبِ كَفيفَ الضَّمير، كَسَائِرِ العُمْيِ، تَتَخَبَّطُ في ظُلمَتِكَ، تَائِهٌ في ضَلالِك؟! كَم هوَ سيءٌّ أنْ تكونَ مَسيحيًّا، وَلَكنَّكَ فَاسِدٌ بِلا نَفْع، وَمُظلِمٌ خَالٍ مِنَ النَّور! عِنْدَهَا كالْمِلحِ إِذَا فَسُدَ، تُطْرَحُ في خَارِجِ الدّار مُدَاسًا، وَقَدْ بَلَغتَ أَدْنى الْمَراتِبِ وَأَسفَلَ الدَّرَجَات!

 

وَفي هذا الشّأنِ، يَبْقَى لَنَا مَثَلُ الابنِ الضَّال أَروعَ مِثَال! فَمَهمَا وَصلَتَ مِن مَراتِبِ الفَسادِ وَدرجاتِ الضَّياع، تَبْقى دَارُ الآبِ دَومًا مَفْتوحةً، وَالأبوابُ مُشَرَّعَةً، وَالحِضنُ الإلهيُّ مُرَحِبًا بِعَودَتِك، مَتَى أَنْتَ طَلبتَهَا وَقَرَّرتَ القِيامَ بها!

 

مِن الْملحِ خُذوا العِبرَة. فَالْمِلحُ القَليل كَفيلٌ بِأنْ يُعطِيَ النَّكهَةَ للطّعامِ الكَثير! فَالْعِبرَةُ لَيسَت بالكثرةِ، بَلْ بالنّوعيّةِ الحَسَنَة وَالقيمَةِ الجيّدة. فَنَحنُ نُريدُ مَسيحيِّين نَوعًا، قبلَ أَن يَكونوا عَدَدًا. والْمسيحيّونَ، في هَذهِ البُقعةِ من الأرض، كانوا وَسَيبقونَ أَصْحَابَ قِيمَةٍ عالِيَة، بِإيمانِهم وَأَخلاقِهم وَعِلمِهم ورُقيِّهِم، وَمَدَى تَأثيرِهم في مُجتمعاتِهم، بِالرّغمِ مِن عَدَدِهم القَليل، لأنُّهم مِلْحٌ نَافِع، قَادِرونَ دَومًا أن يُعطوا الطَّعمَ الطَّيبَ لهذا الشّرق.

 

لم يُشبِّهنا الْمسيحُ بالقَمح مَع أنّه العُنْصرُ الأكثرُ في طعامِ تِلكَ الأيّام، ولم يُشبّهنا بالّلحمِ مع أنّه العُنصرُ الأغلى، بل اختارَ أنْ يُشبِّهَنا بالْملح! فنحنُ بالرَّغمِ مِن قِلّةِ عَدَدِنَا كَمَسيحينَ مَشرقّين، إلّا أنّنا نبقى الأصلَ والأساس، نَبقَى الجذرَ وَالتّاريخ.

 

كثيرٌ من الأدباءِ والشُّعراءِ الأقدَمين كانوا مسيحيّن، أَمثال زُهير بن أبي سُلمى شاعِر الْمُعَلَّقَات. حاتِم الطاّئي الذي يُضْرَبُ مَثَلًا في الكَرمِ والجود، كَانَ مَسيحيًّا. الْمَسيحيون السُّريان، الّذينَ عَاشوا في العراقِ وسوريا، سَاهَموا في تَثْقيفِ شعوبِ الْمنطِقة، إذْ تَرجَموا الفلسفةَ والعلومَ اليونانية إلى الّلغةِ العَرَبيّة. الْمَسيحيونَ العرب كانوا رُوَّادَ النهضةِ العربيةِ القوميّة والفكريّة، أمثالَ جبران خليل جبران وميخائيل نُعيمة ومي زيادة وبشارة الخوري، هؤلاء ساهموا بِفِكرِهم النّير في تنوير دربِ الحرية والاستقلالِ للشّعوبِ العربية، وفي تبديد ظلماتِ الجهلِ والغَبَاء. كَمَا أَنَّ الْمَسيحيين العَرب هُمْ أَوّل مَنْ أَنشَأَ الْمَطابِع مُعَزّزينَ الْمَعارِفَ والعُلوم.

 

أُولَى الْمَدَارس وَالجَامِعَات الّتي قامَت في الشّرق، وَأَنعَشَت الفِكرَ وَالثَّقَافة، وَنَوّرتِ النّاس، أَنْشَأتها الكَنيسةُ والْمَسيحيون، كالجامعة الأمريكية في بيروت. ولا ننسى أنَّ مَدارِسَنا التي أنشأَتها البطريركيةُ الّلاتينية، قَامَتْ قَبلَ قِيامِ إمارةِ شَرقِ الأردن، وَخَرَّجَت الكثيرَ من العُقولِ الّتي ساهَمَت في بُنيانِ هذا البَلد. وَنذكُرُ أيضًا دَورَ العَربِ الْمَسيحيّين في الحفاظِ عَلَى الّلغةِ العَربيّة وَإغنائِها، أَمثالَ إبراهيم وناصيف اليازجي وبطرس البُستاني.

 

فَحَقٌّ لنا يا أحبّة أن نَعرفَ تَاريخَنا الْمُشرِق والْمُشرِّف، بعيدًا عَنْ أَشْكَالِ التّزويرِ وَالتّهميش، وَكَأنَّنَا دُخلاء عَلَى هَذا الشّرق، أَو مِن مُخلَّفَاتِ الاسْتِعمار! نحنُ فِعلًا مِلحُ الأرضِ ونورُ العالم، روحيًّا وَإِنْسَانيًّا. نحنُ نورُ رَجاءٍ وَسطَ اليأس، نحنُ نورُ حُبٍّ وسطَ البُغض، نحنُ نورُ اعتدالٍ وسطَ التّطرّف، نحن نورُ سَلامٍ وَسطَ الحربِ، نحنُ نورُ حياةٍ وسطَ الموتِ. نحنُ ملحُ هذهِ الأرضِ بالذّات، هَذهِ رِسالتُنا وهذهِ دعوتُنا، وإذا فَسَدنَا يَفسدُ الشّرقُ وَينْطَفِئ.

 

ولِذلِك، نَتَّخِذُ دَومًا مِن كلماتِ بولسَ الرَّسول، في رسالتِه إلى أهلِ فيلبّي، شِعارًا وَنَهجًا: ﴿كُونوا بِلا لَومٍ وَلا شَائبةٍ، وَأَبناءَ اللهِ بِلا عيبٍ، في جيلٍ ضَالٍّ فاسِد، تُضيئونَ فيهِ ضِياءَ النّيراتِ في الكون﴾ (فيلبي 15:2)