موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢ فبراير / شباط ٢٠٢٣

"التلّمذة للملكوت" بين كاتبي نبوءة أشعيا والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (أش 58: 7- 10؛ مت 5: 13- 17)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (أش 58: 7- 10؛ مت 5: 13- 17)

 

مُقدّمة

 

المسيرة الكتابيّة الّتي يدعونا إليها مُدوني الكتاب المقدس بعهديه، تحملنا لتجميل حياتنا للأفضل. إذ بتأملنا في الكلمة الإلهيّة نبدأ بتوبة حقيقة فتنزع قوة الكلمة الكثير من الظلام الّذي قد يُغيّم على حياتنا لنستنير بقوة الكلمة الإلهيّة الّتي تُنيرنا وتكشف عنا ما هو غير مرئي وعظيم لأنه ينتمي للعالم الإلهي.

 

فإذا كانت التطويبات هي إعلان إنجيل ملكوت الله، فما هو إذن وجه تلّميذ هذا الملكوت؟ نجيب على هذا السؤال من خلال مقطعين؛ الأوّل بحسب نبؤة أشعيا والمقطع الثاني نستعين به من خطاب يسوع الأوّل من عظته على الجبل بحسب إنجيل متّى (5- 7) الّذي سنحللهما في هذا المقال. للإجابة على السؤال الّذي طرحناه عن هويّة تلّميذ الملكوت سنجد لدى اشعيا بداية لمسيرة تكشف عن هويّة هذا التلّميذ (اش 58: 7 - 10). يقدم اشعيا نموذج للتلّميذ الذي يحيا صومه حقة كالنور لأجل إعلان النّور الإلهي. أمّا لدى متّى (5: 13- 17) سنصغي ليسوع وهو المعلم الّذي بشكل مباشر يتحاور مع تلاميذه والجمع كاشفًا لهم أسرار التلّميذة ليس لمعلم يهودي أو بشري بل للعدف الّذي أتى هو من أجله وهو الملكوت. نعم الملكوت هو بمثابة مدرسة، لكل مؤمن اليوم. مدعوين في هذا المقال أنّ نسلك بحسب المدرسة الّتي تمّ افتتاحها في المعلم يسوع من خلال التعليم الجديد الّذي لا نهايّة له وجوهره أنّ نحيا الملكوت الّذي جسّده في ذاته ويرغب في مشاركتنا به وهو حياة الله الآب.

 

 

1. هويّة التلّميذ (أش 58: 7- 10)

 

في هذا المقطع الأشعيائي تأتي رسالة النبي في صيغة الـمُخاطب أيّ "أنت"، وهي بمثابة منهج يدعو فيه من الناحية العمليّة للإنسان الّذي ينتمي إلى الله كيفيّة أن يكون تلّميذ لله في واقعه. ويبدأ أن يسرد النبي بعض من التساؤلات البلاغيّة الّتي في الغالب يعرف اليهودي التَّقي إجابتها: «أَلَيسَ الصوم هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟» (58: 7- 8). وهنا يُعدد النبي ما يعيشه أي يهودي بسيط، عن معنى صوم التلّميذ المؤمن، مؤكداً له أنّ تقديمه الرعاية والاهتمام العادي والبسيط للفئات المهمشّة في زمننا ما هي إلّا نوع من التلمذة والدخول في مدرسة الملكوت الإلهيّة لأن هذا يرضي الرّبّ. ولكن في مرحلة ثانية يكشف النبي عن النعم الّتي تتجلى في حياة هذا التلّميذ بالرغم من بساطة أعماله.

 

 

2. إنعكاس النور الإلهي (اش 58: 8- 10)

 

الّذي يتمكن من النظر للآخر كقريب له، منتبهًا لإحتياجات "القريب" اليوميّة وليس فقط لذاته، هو كمَن يسير وراء المعلم الإلهي كعاكس للنور الّذي يبثّه الله فيه. نتفهم هذا من خلال قول اشعيا: «حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ. حينَئِذٍ تَدْعو فيَستَجيبُ الرَّبّ وتَستَغيثُ فيَقول هاءَنَذا إِن أَزَلتَ مِن أَبْنائِكَ النِّير والإِشارَةَ بِالإِصبَعِ والنُّطقَ بالسُّوء. إِذا تَخَلَّيتَ عن لُقمَتِكَ لِلجائِع وأَشبَعتَ الحَلقَ المُعَذَّب يُشرِقُ نوُركَ في الظُّلمَة ويَكونُ دَيجوُركَ كالظُّهْر» (58: 8- 10). يحمل النبي دعوة لكل تلّميذ للخروج من الإنغلاق على الذات وبالإنطلاق فيما يعود عليه بالنور والخير لأن المؤمن يسعى أن يسير بروح التلّميذ وراء الرّب ففي هذا الوقت، يُفجر الله كنز نعمه ويغدقها على تلّميذه لأنه شارك فيها القريب. لفظ "حينئذ" هو لفظ يتبعه عمليه واحد من قبل الإنسان والآخر من قبل الله. فكم حينئذ ننتبه لها في يومنا العادي البسيط؟

 

3. ملح الأرض والعهد (مت 5: 13- 15)

 

حين يتفوه المعلّم جميعنا مدعوين للصمت والإصغاء. في حديث يسوع التالي للتطويبات الّتي رأينا فيها حديثه الموجه لقلة قليلة من الجمع بزمنه، بالمقال السابق. نجده في هذا المقال يستعين برمزين فقيرين لُيبسط تعليمه مستخدمًا صيغة المخاطب بالجمع فيقول: «أَنتُم مِلحُ الأَرض، فإِذا فَسَدَ المِلْح، فأيُّ شَيءٍ يُمَلِّحُه؟ إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلاَّ لأَنْ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس. أَنتُم نورُ العالَم. لا تَخْفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل، ولا يُوقَدُ سِراجٌ وَيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال، بل عَلى المَنارَة، فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت» (5: 13- 17).

 

يقدم لنا مار متّى صورتين في هذا النص: الأولى صورة الملح والثانية صورة النور. ومع ذلك، لا يكفي الإشارة إلى هذين العنصرين، على الرغم من ثرائهما في معناهما الرمزي، يجب أيضًا أن نأخذ في الاعتبار الكلمات المصاحبة لهما. في الواقع، يقال إن التلاميذ ليسوا مجرد "ملح" و"نور"، لكنهم "ملح الأرض" و "نور العالم". نعني بكلمة "الأرض" أرض إسرائيل، و "العالم" نعني كل البشرية. لذلك هناك وجه للتلّميذ يتم كشفه داخل المجتمع – علينا تذّكر مجتمع متّى الّذي عاش بإسرائيل ويشعر بأنه جزء منه ويتجلى بدلاً من ذلك في الخارج.

 

في هذا التعلّيم يوجه يسوع حواره للمهمشين بل في واقع الأمر الراغبين في دخول مدرسة الملكوت الّتي أعلن عنها في أول كلماته لهذه العظة «طوبى للفقراء بالروح لأن لهم ملكوت السموات» (5: 2). وها هنا يدلنا على الطريق لهذه المدرسة الإلهيّة الّتي أفتتحها على الجبل وبمجانيّة دون دفع أقساط للتعليم. يسوع يأتي بجوارنا ويخاطب اليوم قلوبنا كاشفًا عن واقعنا البسيط فنحن بالفعل كالملح، رخيص الثمن، إلّا أنّ دوره جوهري في النظافة والحفظ وتذوق الطعام الطيّب. إذن طبيعة الملح تنتمي لكلّا منّا: أنا وأنت. ولكن الخطر هو أن يفقد الملح جوهريته.

 

في المقام الأول هناك هويّة تلّميذ الملكوت يتم معايشتها داخل مجتمعه. تشير صورة الملح إلى ما يعطي نكهة. في الكتاب المقدس، الملح على وجه الخصوص مرتبط بموضوع العهد لخاصيّة استمراره بمرور الوقت. في الواقع، تُستخدم العبارة العبرية "عهد الملح" للإشارة لشيء لا يمكن انتهاكه ودائمًا (راج عد 18: 19؛ 2 أخ 13: 5). في سياق التحالف، الملح يربط الطرفين بشكل دائم. للإشارة إلى الحفاظ على العهد مع الرّبّ، تمت إضافة الملح إلى قربان الذبائح. ونحن بالشرق نهتم بأنّ نتقاسم "العيش والملح" كعلامة للأخوة وقبول صداقة القريب. نكتشف من هذا السمّة الأوّلى الّتي يتسّم بها وجه تلّميذ الملكوت، أنّ يختار أن يصير "ملح الأرض"، بالأمانة للعهد مع الله ومع أولئك اّلذين هم جزء من مجتمعه وكنيسته. علينا أن نتسأل هل نعيش بأمانة كرجال ونساء التطويبات، كتلّاميذ للملكوت؟ هل نختبر في مجتمعاتنا المسيحية منطق "الأمانة والعدل والرحمة" "المختلف" (راج مت 23: 23)؟ إذا لم نحيا ذلك، فإن كلمة يسوع تحمل تحذير قوي: لننتبه، قدّ نفقد الجوهري ونصير بدون فائدة ولا نستحق إلّا أنّ نُداس. لا يكفي الكلام بالخارج بقدر ما نعيشها بداخل راقعنا وأسرنّا. داخل الكنيسة يمكن لتلاميذ الملكوت "إضفاء نكهة المسيح الطيّبة" على حياة مَن يرافقونا فنصير حقًا تلّاميذ الملكوت.

 

 

4. نّور الرّبّ بالعالم (مت 5: 16- 17)

 

هناك أيضًا هوية يتم معايشتها خارج المجتمع بقوله «هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات. لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَو الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل» (5: 16- 17) أن نكون نور العالم. وهو العنصر الثاني الذي يذكره المُعلّم، وبالتالي فهي مسألة توسيع للسمة الأوّلى. لا يمكن أن يكون هناك النّور بدون أن نصير كالملح. لكن هذه السمة الثانية "النّور"، التي لا تستطيع الاستغناء عن حياة لها نكهة وتضفي عليها نكهة، تضيف سمّة أساسيّة لهويّة تلّميذ الملكوت إذ لا يمكن أن ينغلق تلّاميذ الملكوت على ذاتهم بل يصيروا شهود للأمانة وللعدالة وللرحمة فيصيروا نّورًا بدورهم للجميع. في الكتاب المقدس، النّور له علاقة بالله، بقوة كلمته، فإن تلّاميذ الملكوت مدعوين ليكونوا نّور الرّب بعالمهم، ليس لأنهم أفضل من الآخرين، ولكن لأنّ وجودهم في حياة الآخر ينقل شيئًا عن الله.

 

 

الخلّاصة

 

بحثنا في مقالنا، أنّ نتقدم معكم أيها القراء الافاضل، لتسجيل حياتنا في "مدرسة الملكوت" لنصير تلاميذ حقيقيين هادفين للسير وراء المعلّم. ومن خلال نص أشعيا (58: 7- 10)، كشف لنا النبي عن أهميّة التلّمذة في واقع الحياة اليوميّة بجمالها وبتحدياتها. ولكن هناك النور الجديد الّذي سطع حول هويّة التلّميذ من خلال تقديم يسوع لصورتي الملح والنّور (مت 5: 13- 17). بالرغم من بساطة هاتي الصورتين إلّا إنه نجح كمعلّم في إضافة الكثير لحياتنا إذ أن ملح العهد مع الله لا يختلف عن الملح بالطعام فهو يعطي نكهة لدراستنا بمدرسة الملكوت، الّذي هو حياة الله. نحن اليّوم، مدعويّن لمعايشة إستباقيّة لما سنعيشه مستقبلاً، وعلينا أن نبدأه في حاضرنا: هنا والآن. وما علينا إلّا أن نقرّر بحريتنا أن نصير ملح ونّور فندخل في مدرسة الملكوت بشكل جذري ونهائي. دُمتّم، أيّها القراء الافاضل، تلاميذ مميزين في مدرسة الملكوت.