موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٣ أغسطس / آب ٢٠٢٢

البابا فرنسيس... مسلكٌ شجاع

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
البابا فرنسيس... مسلكٌ شجاع

البابا فرنسيس... مسلكٌ شجاع

 

نعيش اليوم في عالم مليء بالتحديات، وتاريخنا شاهد حقيقي على مسيرتنا إنْ كانت في السراط المستقيم أو كانت مزيَّفة. فقد جاء في رسالة قداسة البابا فرنسيس "كلّنا أخوة" أن التاريخ يُثبت أن العالم يتراجع، وإنسـان اليوم أمام مفترق طرق حقيقي، لا يبالي إلا بمصالحه وأنانيته. فالوقت والزمن اللذان نحياهما ما هما إلا زمن الخوف والكذب والنفاق والتشكّي من أمور لم تكن في الحسبان ولم يذكرها التاريخ مطلقاً - وإنْ ذكرها فلنشر المعلومات - وهذه الآلام والويلات العديدة التي نحملها إلى غيرنا حقيقة زمنية مؤلمة، عندها نسأل أو نتساءل: ماذا بإمكاننا أن نعمل؟ أو كيف يجب أن نتصرف؟ هل كما تعلّمنا أم كما يشاء زمن اليوم؟

 

نعم، إن العالم اليوم يمرّ بمرحلة جديدة وربما هذه المرحلة تحمل المزيد من الانقسامات، فأصبحت تكتّلات البشر تهيمن على الآخرين، فكثرت الأوبئة ومنها كورونا، كما تضاعفت الحروب رغم إدراكهم أن الحرب خسارة للطرفين المتحاربين، وازدادت عبودية الناس لأغنياء الزمن، وهذا ما أنتج توقف التقدم البشري الحقيقي وجعل أيضاً بناء الوطن والمواطن صعباً للغاية ومسؤوليةً مخيفة.

 

ومن خلال ذلك يأتي صوت قداسة البابا فرنسيس متّخذاً مواقف شفافة في إعلان الحق والعدل والمحبة من أجل السلام العالمي وتعايش الإنسان المختلف، لا بل أكثر من ذلك حيث قداسته يُظهر لنا كم هو عظيم طلب الصفح والغفران والعفو، ليس فقط عند المقدرة ولكن في كل زلّة نقترفها بحق الآخرين فكانت مسيرة مزيفة وإرهابية من أجل مصالح أنانية، وجَعْلِ الإنسان البريء عبداً أميناً بل بائساً بدل أن يكون عبداً بريئاً لا يفتش إلا عن الخير والعدل، ومؤمناً بأن كل إنسان خُلق على صورة الله ومثاله كما يقول سفر التكوين (27:1).

 

نعم، لقد توجّه قداسة البابا فرنسيس إلى كندا يوم الأحد 24 تموز 2022 ولغاية يوم السبت 30 تموز 2022 في زيارة حجّ وتوبة وهي تحمل شعار "السير معاً" للقاء الشعوب الأصلية. وفي لقائه مع تلاميذ المدارس الداخلية السابقة - والتي عُهد بها إلى الكنائس المسيحية - والذين غالباً ما كان يتمّ أخذهم بالقوة من منازلهم لتعلّم الثقافة الغربية، وفي هذه المرافق مُنع التلاميذ من التحدث بلغتهم الأمّ، كما عانى الطلاب أيضاً من سوء المعاملة وغياب الظروف الصحية والمساعدة الطبية، وكان في استقبال قداسته رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترود" والحاكمة العامة لكندا "ماري سيمون"، وقال قداسته للصحفيين "إنها رحلة توبة"، كما تطرق قداسته إلى تقارير المعاناة والحرمان والمعاملة التمييزية ومختلف أشكال الإساءة في المدارس الداخلية وكما كانوا ضحايا لأعمال العنف.

 

نعم، إن هذه الزيارة تحمل في طياتها طلباً للصفح والغفران من السكان الأصليين وهو ينطلق من قول المسيح "أحبوا أعداءكم" (متى44:5) وانطلاقاً من المسيح الذي هو الحق (يو4:6) مبيّناً أن حب الأعداء رسالة سامية يحملها مَن جَسَّدَ السماء في قلبه، وهو يعلم جيداً أن كل الثغرات ما هي إلا دفاعُهُ المستميت من أجل الإنسان وكرامته وحقّه في الحياة واختيار كرامته. فتعاليم البابا كلها تتميّز بمعانيها وليس بكلماتها فقط، فهو يعالج مسائل عديدة بجرأة وإيمان لا شبيه لهما وربما ذلك يُزعج البعض في هذا المجتمع العولمي وعبر فئات مختلفة دنيوية ودينية وأخرى، والذين يريدون أنْ يُسكِتُوا صوتاً يعلن حقيقةَ الحياة وكرامةَ الإنسان والعائلة وسموّ الرسالة المسيحية الإنسانية والتي يحملها ليدرك الذين أرادوا قتل المسيح ما هم إلا علامة لحقد وكراهية وأنانية ومصلحة تجاه عمل الخير، بينما الإنسانية يجب أولاً أن تفتش عن الجائع والبائس والمهمش والأبرص والمريض والمقعد والأعمى، ولا تجعل مجالاً للخطيئة أن تعشعش في قلوب الحاقدين والكارهين للحقيقة من أجل تدمير الإنسان وزوال حقّه في الحياة وإفساد كرامته البشرية وزرع بذور الشرّ والحقد في قلبه، لذلك على الإنسان – يقول قداسته – وعلى كل مؤسسة دينية كانت أو اجتماعية أن تنظر إلى أخطائها الماضية وربما الحاضرة أيضاً لتقديمها من أجل نقاء الرسالة التي تحملها، وهذا ما يُظهر أن الكنيسة لن تعدل أبداً عن أداء رسالتها الخلاصية مهما كلّفها الثمن، وستسعى لإزالة كل عائق في داخلها يمنع من أداء هذه الرسالة خدمةً للإنسان الآخر من أجل حقيقة الحياة التي يحياها بين إخوته البشر ومن أجل السير معاً.

 

وإذا ما رجعنا إلى الماضي القريب، نستذكر قداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني، نبيّ الرجاء، كم وكم دافع عن حقوق الشعوب طالباً ومانعاً وواقفاً بحزم أمام ما يحصل من انتهاكات وويلاتها العديدة التي تقع على أناس أبرياء فقراء لا يملكون إلا صوت الدعاء والطلب والتشفّع من ربّ السماء ليُبعد عنهم هذه الغيمة، فقد دعا قداسته الرئيس بوش بعدم شنّ الحرب في العراق على الشعب البريء، ولكن آذانه لم تسمع وعقله لم يحكّم مسيرة حياته، وجبروته لم يوقف ما كان مصلحةً له فكان ما كان من قتل وتدمير وتشريد وما وصل إليه حال البلاد كما نراه اليوم. والبابا بندكتس السادس عشر صرّح يوماً في المقابلة العامة قائلاً "إن العراق في قلبي". وكذلك ها هو اليوم البابا فرنسيس يقول في كلماته الأخيرة من زيارته للعراق الجريح "إن العراق سيبقى في قلبي" وما ذلك إلا صوت الحق.

 

نعم، إن البابا فرنسيس والشجاع هو ضد كل ما يُشرَّع من تعاليم قاتلة وتدمير لقِيَم الحياة، فقداسته لم يتكلم اليوم إلا حقيقة الإيمان ولم يشرح إلا سموّ الحياة وقيمها ولم يعلّم إلا العيش المشترك ومدّ الأيادي من أجل ديمومة الحوار وحقوق الطفولة والشباب وكبار السنّ والمرضى والمهمّشين والأشخاص الأكثر ضعفاً والبعيدين والمنسيين كما هي رسالة السينودس القادم عام 2023.

 

فاليوم كثير من الأشرار والعولميون يريدون أن يشوّهوا ديانة المسيح ويصوغونها على هواهم وأذواقهم ويسيّروا الكنيسة بحسب مصالحهم الدنيوية والعولمية فيكتبون ما يشاءون كذباً من أجل مصالحهم، ويرذلون وينبذون ما أوصى به المسيح وكنيسته.

 

نعم، ورغم ما يوجد من تشويه لحقيقة البابا وشجاعته المثالية الأمينة لتعاليم السماء ففي ذلك يهاجمون شخصه ورغم هذا الاعتداء المباشر يحمل قداسته أزاءهم الغفران وربما هذا يُزعج مضاجع الكثيرين والذين يشترون براءة الطفولة من أجل حفنة من أوراق خضراء وإنْ كانوا يبيعون القيم، فمتّى الإنجيلي يقول:"قلبهم قد غلظ وأذانُهُ ثقل سماعها، وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا ويسمعوا ويفهموا ويرجعوا فأشفيهم" (متى 15:13). ولكن لنعلم أن صوت الحق سينتصر وستبقى الكنيسة تحيا في أعماق أفئدتنا وسنبقى لها أمناء، وأوفياء لرؤسائنا القديسين، ومهما علا صوت الحقد والكراهية والمصلحة سوف لن يبقى إلا صوت المحبة والعدالة والخير، صوت الغفران عن الإساءة والصفح عن الرذيلة وطلب المسامحة عن العداوة والاعتذار عن الخطأ. إن ذلك هو الصوت الحقيقي الذي ننشده دائماً وهذا هو صوت الإنسان المهمش والضعيف والمنسي والمكروه والمنبوذ وما أكثرهم، إنهم مساكين الحياة ورسل السماء على هذه الفانية.

 

وهذا كله يعني الشجاعة بالتمام، فإنها شجاعة إيمانية يحملها قداسة البابا فرنسيس ليعلّمنا الاعتذار عن آخرين ارتكبوا انحرافات وأصابوا ويلات للآخرين وما ذلك إلا استلهام جديد لمنهج مسيحي معروف ورسالة إنسانية سامية، وهذا المنهج قائم على الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة والعفو والمسامحة وما ذلك إلا دعوة لنا جميعاً - في الدنيا والزمن، كبار المعابد والمجتمعات والذين يعتبرون أنفسهم متقدمي الشعوب وكبار المعابد - من أجل التعليم في مسيرة هذه الحياة، لذلك علينا أن نتعلّم ونعلّم، نتعلّم من قداسته هذه الرسالة ونعلّم الآخرين أننا بحاجة ماسة إلى الصفح والغفران عن مجموعات تلاعبت بحقوق الآخرين – وإنْ كذباً - من غير وجه حق. فحينما نحمل الحقيقة إلى صغارنا والرحمة إلى محتاجينا والسلام إلى الآخرين نكون في طريق السماء وأوفياء لدعوتنا مهما كنا كباراً ورؤساء ومسلَّطين فلا يجوز أبداً تلوث النفس البشرية والصورة الإلهية التي أمامنا في هذه الحياة، فالله خلق الإنسان حسناً (تك 31:1).

 

لنعود إلى مقالنا ونقول: إن عمل قداسة البابا فرنسيس هذا في رحلته إلى كندا ليلتقي الأناس الأصليين ما هو إلا عمل توبة وما ذلك إلا رصيد الإيمان الذي يحياه متسلّحاً بتعاليم المسيح الحي وغيرته على مسؤوليته وعدم ضياع الخروف الضال إنما يفتش عنه ليحمله على منكبيه (لو5:15) وعبر ذلك يكشف ما أبشع الأخطاء البشرية أو المؤسسات الدينية أو كبار الزمن حينما ينظرون إلى كبريائهم وينسون النظر إلى التعاليم التي آمنوا بها وخاصة حينما تُنتَهَك حرمة الإنسان عبر تأويل لنصوص مقدسة وجعلها من أجل أغراض دنيوية لا تمتّ بأية صلة عبر جوهر الأديان والإيمان، بل أكثر من ذلك عبر جوهر المحبة والحق في الحياة وهو تعليم لنا جميعاً لندرك أن حق الحياة عالمي، فليس من حق أحد أن يحرم شخصاً آخر من حقه في الحياة حتى لو لم تعترف به قوانين بلده.

 

لنعلم أنّ الحقوق غير قابلة للتصرف كي يعيش جميع الناس بكرامة، فالحرية واجب للجميع عبر معيشة لائقة، وهذا كله يدفعنا إلى التفكير في عالم قادم من غير خوف من مشاكل الدنيا وويلات الحياة وإلى أن نتسلّح بشجاعة الحياة والإيمان ونحمل الصفح والغفران طريقنا إلى الآخر، وهذا هو المسلك الشجاع لقداسة البابا فرنسيس، إنه حينما نُخطئ بحق الآخرين يجب أنْ نكون لهم عوناً في تصليح مسار حياتنا، وإعطاء الحق للذين بحقّهم كتبنا كذباً وشهدنا زوراً عليهم، وما هو لمصالحنا ولمراكزنا. فلنحمل الشجاعة بالمسيح الرب، ولنتقدم حاملين الصفح والغفران كما هو مسلك البابا فرنسيس، نعم وآمين.