موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

زِيارة مَريم لاليصابات وسرُّ المِيلاد المَجيد

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الرَّابع من المجيء: زِيارة مَريم لاليصابات وسرُّ المِيلاد المَجيد (لوقا 1: 39-45)

الأحَد الرَّابع من المجيء: زِيارة مَريم لاليصابات وسرُّ المِيلاد المَجيد (لوقا 1: 39-45)

 

النص الإنجيلي (لوقا 1: 39-45)

 

39 وفي تلكَ الأَيَّام قَامَت مَريمُ فمَضَت مُسرِعَةً إِلى الجَبَل إِلى مَدينةٍ في يَهوذا. 40 ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات. 41 فلَمَّا سَمِعَت أَليصاباتُ سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس، 42 فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: ((مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! 43 مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ 44 فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني 45 فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ)).

 

 

مقدمة


يَصِفُ لوقا الإنجيليُّ زيارةَ مريمَ العذراءِ لخالتِها أليصاباتَ المُسنّةِ، شقيقةِ أُمِّها حنّةَ، كامتدادٍ لبشارةِ الملاكِ لمريمَ العذراءِ وكتمهيدٍ لأحداثِ ميلادِ الربِّ. وأصبحت أليصاباتُ، بعدَ مريمَ العذراءِ، ثانيَ شخصٍ يَعتَرِفُ بتجسُّدِ يسوعَ، كلمةِ اللهِ، في أحشاءِ مريمَ البتولِ، إذ قالت: "مِن أَينَ لي هذا أَنْ تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟"، مُعلنةً بذلك أيضًا أُمومةَ مريمَ.

وتُؤكِّدُ زيارةُ مريمَ العذراءِ حقيقةَ التجسُّدِ من خلالِ تحيةِ السَّلامِ المُتبادَلةِ بين مريمَ وأليصاباتَ. إنَّها صورةٌ تمهيديةٌ تكشِفُ عن شخصِ السيدِ المسيحِ نفسِهِ، وعملِهِ في حياتِنا. ومن هنا تَكمُنُ أهميةُ البحثِ في وقائعِ النصِّ الإنجيليِّ وتطبيقاتِهِ.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 1: 39-45)

 

39 وفي تلكَ الأَيَّام قَامَت مَريمُ فمَضَت مُسرِعَةً إِلى الجَبَل إِلى مَدينةٍ في يَهوذا.

 

تشيرُ عبارةُ "وفي تلكَ الأَيَّام" إلى وقتِ بشارةِ مريمَ العذراءِ، حالما استطاعت التأهُّبَ للسَّفرِ مسافةَ أربعةِ أيّام. أَمّا عبارةُ "قَامَت" فتشيرُ في الإنجيلِ إلى البُعدِ الباطنيِّ والاستعدادِ النَّفسيِّ والنُّهوضِ والوَثبةِ الرُّوحيّةِ، كما حصلَ مع متَّى العشّارِ (لوقا 5: 28) والابنِ الشّاطرِ (لوقا 15: 18). أعطَتْ بشارةُ الملاكِ لمريمَ ديناميّةً إيمانيّةً جعلتها تقومُ وتنطلِقُ، فالبشارةُ هي قصّةُ دعوةِ مريمَ العذراءِ. العهدُ القديمُ مليءٌ بالبشاراتِ، كميلادِ شمشونَ وميلادِ صموئيلَ ودعوةِ أشعيا ودعوةِ إرميا؛ كلُّها مُحورها اللهُ وكلمةُ اللهِ الخلاصيّةُ. ونحنُ، هل يُحدِثُ فينا الإيمانُ مثلَ هذا التَّحوُّلِ والانطلاقِ، أَمْ نَظلُّ "نَجُرُّ المِكنَسةَ جَرًّا"، على حدِّ قولِ القدّيسِ منصورِ دي بول؟ أَمّا عبارةُ "مَريمُ"، في الأصلِ اليونانيِّ Μαρία، فهي مشتقّةٌ من اسمٍ عبريٍّ מִרְיָם (معناه "عِصيان")، وتُشيرُ إلى اسمِ العذراءِ، مريمَ أُمِّ يسوعَ المسيحِ، التي جاءت من سبطِ يهوذا ومن نسلِ داودَ (لوقا 1: 32 و69). كانَتْ لمريمَ العذراءِ أُختٌ واحدةٌ (يوحنا 19: 25)، وهي سالومةُ زوجةُ زَبدي وأُمُّ يعقوبَ ويوحنّا (متى 27: 56). وكانت العذراءُ مريمُ على صلةِ قرابةٍ بأليصاباتَ، أُمِّ يوحنّا المعمدانِ (لوقا 1: 36). وكانت مبارَكةً من النِّساءِ (لوقا 1: 28). في أثناءِ المدَّةِ التي كانت فيها مريمُ مخطوبةً ليوسفَ، أعلَنَ لها الملاكُ جبرائيلُ ميلادَ المسيحِ المُنتظَرِ منها (لوقا 1: 26-35 و2: 21). وفي بيتِ لحمَ، وفي المغارةِ، وضَعَتْ مريمُ ابنَها البِكرَ. ثم قدَّمَتِ المسيحَ في الهيكلِ (لوقا 2: 22-39)، واستقبلَتِ المجوسَ (متى 2: 11). وهربَتْ إلى مصرَ ثم عادتْ منها إلى فلسطينَ (متى 2: 14 و20). كانت تقومُ مريم بزيارةِ أورشليمَ لحضورِ عيدِ الفصحِ كلَّ سنةٍ (لوقا 2: 41). ونرى مريمَ في عرسِ قانا الجليلِ (يوحنا 2: 1-5). وعندَ الصَّليبِ، تحقَّقتْ فيها النُّبوّةُ التي تنبَّأَ بها سمعانُ الشَّيخُ حين قال: "وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ" (لوقا 2: 35). كانت مريمُ مواظِبةً مع تلاميذِ الرّبِّ وإخوَتِهِ في الصَّلاةِ (أعمالُ الرُّسُلِ 1: 14)، ويُقدِّمُها الكتابُ المقدّسُ كمَثلٍ أعلى للأُمَّهاتِ وللنِّساءِ قاطبةً: "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء!" (لوقا 1: 42). أمّا عبارةُ "فمَضَتْ مُسرِعةً" فتُشيرُ إلى مريمَ التي قَبِلَتْ بَشَارَةَ الْمَلَاكِ جِبْرَائِيلَ، تَنْطَلِقُ فَوْرًا فِي الطَّرِيقِ، ولم تمكُثْ في النَّاصرةِ بعدَ البشارةِ، لِتَتَعَرَّفَ عَلَى عَمَلِ اللَّهِ فِي حَيَاةِ نَسِيبَتِهَا ورغبةً في تهنئتِها بما أعلمَها الملاكُ به. مَنْ يَسْمَعُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْقَٰ كَمَا كَانَ. والانطلاقُ بسرعةٍ دليلٌ على فيضِ الحياةِ التي تملأُ الذين نالوا الخلاصَ، لأنَّ نعمةَ الخلاصِ لا تعرفُ التَّردُّدَ أو الإبطاءَ. الْاِنطِلاَقُ فِي الطَّرِيقِ يَقُودُ مريم، لِمُشَارَكَةِ الْخَلاَصِ التي نَالَتْه. وعبارةُ "مسرِعةً" تُشيرُ إلى كلمةٍ فصحيّةٍ؛ شعرتْ مريمُ بخلاصِ اللهِ، وذهبتْ للقاءِ الآخر. انطلقت مُسرِعةً بسببِ اشتياقِها الشَّديدِ لرؤيةِ العلامةِ التي أعطاها إيّاها الملاكُ جبرائيلُ: "وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصاباتَ قد حَبِلَتْ هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً"(لوقا 1: 36). انطلاقُها كان دلالةً على فرحِها وإيمانِها بوعدِ اللهِ ورغبتِها في خدمةِ خالتِها المُسنَّةِ التي تنتظرُ مولودَها، للوقوفِ إلى جانبِها ومساعدتِها بأعمالٍ مملوءةٍ بالمحبَّةِ والرَّحمةِ، ومشاركتِها خبرةَ الخلاصِ وأفراحَها على خُطى من جاء "ليَخْدِمَ لا ليُخدَمَ" (مرقس 10: 45). ويُعلِّق القديسُ أمبروسيوسُ الأُسقفُ: "أَسرَعَتْ إلى الجبَلِ، لا لِعدَمِ إِيمانِها بالنَّبَأ، ولا لأنَّها كانَتْ متردِّدةً في البِشارةِ التي سمِعَتْها، ولا لأنَّها كانَتْ تشُكُّ في الحالَةِ التي أُعلِمَتْ بها، بل لأنَّها ابتهجَتْ بوعدِ الله، ورغِبَتْ في الخدمةِ، فأسرَعَتْ فرِحَةً" (القديسُ أمبروسيوسُ الأُسقفُ، CCL 14، 39-42). النَّعَمُ الحقيقيّةُ التي نقولُها للرّبِّ حين نقبَلُه في حياتِنا تجدُ ضمانتَها وبرهانَها في انطلاقِنا نحوَ الآخرِ، في خدمتهِ ومحبَّتِه. أمّا عبارةُ "الجَبَل"، في الأصلِ اليونانيِّ ὀρεινήν (معناها "منطقةٌ جبليّةٌ")، فتُشيرُ إلى أحدِ مقاطعاتِ اليهوديّةِ الأحدَ عشر، حيثُ جاءت مريمُ من النَّاصرةِ إلى عينِ كارمَ، مسافةَ 120 كم. وهو المكانُ الذي تمّت فيه الزِّيارةُ قبل ألفَي عامٍ بحسبِ التَّقاليدِ القديمةِ. أمّا عبارةُ "مَدينةٍ في يَهوذا" فتُشيرُ إلى عينِ كارمَ بناءً على التَّقاليدِ المتواترةِ، وبعضُ الباحثينَ يُشيرونَ إلى مدينةٍ قُربَ مدينةِ حَبرونَ لأنَّ تلكَ الأرضَ وُهِبَتْ لهارونَ الكاهنِ (يشوع 21: 11). وهي مسكنُ زكريّا الكاهنِ وأليصاباتَ، والدي يوحنّا المعمدانِ، علماً أنَّ منطقةَ يَهوذا كانت مركزًا للدِّينِ اليهوديِّ. هذه هي رحلةُ مريمَ من النَّاصرةِ إلى جبالِ يهوذا؛ تختصرُ مسيرةَ حياتِها كلَّها، مسيرةَ الإيمانِ التي نسيرُها كلَّ يومٍ خلفَ الرَّبِّ. دربٌ طويلٌ وشاقٌّ، إنّما يبقى الرَّجاءُ ضمانةَ خلاصِنا، حيثُ نعلمُ أنَّ اللهَ يقودُنا، ويعتني بنا، وينتظرُنا.

 

40 ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات

 

تشيرُ عِبارةُ "دَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا" إلى دُخولِ مَريمَ إلى بَيتِ زَكَرِيَّا بَعدَ اجتيازِها المَناطِقَ الجَبليَّة، مِثلَما أُدخِلَ تابوتُ العَهدِ إلى بَيتِ عُوبيدَ أدُوم بَعدَ اجتيازِهِ المَناطِقَ الجَبليَّة (2 صموئيل 6: 10). إنَّ رِسالةَ يَسوعَ، الكَلِمةِ المُتجسّدِ في مَريمَ، قد انطَلَقَت مِنهَا. وهكذا أَصبَحَت مَريمُ هي أَوَّلَ المُبَشِّرينَ بالمَسيح، إنَّها الحامِلَةُ الأُولى لِلبُشرى السَّعيدَة: «ما أَجمَلَ على الجِبالِ قَدَمَيِ المُبَشِّرِ، المُخبِرِ بِالسَّلامِ، المُبَشِّرِ بِالخَيرِ، المُخبِرِ بِالخَلاصِ» (أشعيا 52: 7). تَحمِلُ مَريمُ إلى اليَهوديَّةِ السَّلامَ والسَّعادةَ والخَلاصَ. ويُعلّقُ القدّيسُ أَمبرُسيوس قائِلًا: "مَن كان أَرفعَ مَنزِلةً يَزورُ الأَقَلَّ؛ مَريمُ ذَهَبَت إلى أليصاباتَ، وذلكَ بِحَسَبِ المَنطِقِ الإلهيّ الكَبير، الَّذي يَطلُبُ الصَّغيرَ ويَبحَثُ عَنهُ، كَما جاءَ في تَسبيحِ زَكَرِيَّا، أَبو يُوحنّا: «تَبارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسرائيلَ، لأَنَّهُ افتَقَدَ شَعبَهُ وافتَداهُ» (لوقا 1: 68)." زيارَةُ مَريمَ لأليصاباتَ تُعطِي نَموذجًا لِما يَجِبُ أَن تَكونَ عَليهِ زِياراتُنا." أمَّا اسمُ "زَكَرِيَّا" في الأَصلِ اليونانِيّ Ζαχαρίας، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِن العِبريَّةِ: זכריה (مَعناهُ "ذَكَرَهُ اللهُ" أَو "مَذكورُ الله"). ويُشيرُ إلى زَوجِ أليصاباتَ، وهو كاهِنٌ مِن فِرقَةِ أَبِيّا (لوقا 1: 5)، وأَبُو يُوحنّا المَعمَدان. وَقَد ذُكِرَت صِفاتُهُ وصِفاتُ امرأَتِهِ بأبسطِ العِبَاراتِ وَأَتَمِّها وُضُوحًا: "وكانا كِلاهُما وَرِعَيْنِ، بارَّيْنِ، سالِكَيْنِ في جَميعِ وَصايا الرَّبِّ، وباذِلَيْنِ وُسْعَهُما لِيَحصُلا على نِعمَةِ الرُّوحِ القُدُسِ" (لوقا 1: 6). أمّا مَولِدُ يُوحنّا فأُعلِنَ بِطَريقَةٍ عَجيبةٍ خارِقَةٍ للعادةِ، إلّا أَنَّ زَكَرِيَّا شَكَّ، وطلبَ عَلامَةً غَيرَ اعتياديَّةٍ دَفعًا لِمَا في نَفسِهِ مِن الرّيبَة، فَكانَت آيَتُهُ أَن فَقَدَ قُوَّةَ النُّطقِ وَبَقِيَ صامِتًا إلى اليَومِ الثّامِنِ بَعدَ مِيلادِ الصَّبي، إِذ دَعاَهُ "يُوحنّا" حَسبَ قَولِ المَلاكِ لَهُ. وَفي الحالِ انطَلَقَ لِسانُهُ، وَعادَت إليهِ قُوَّةُ النُّطقِ، فَأَخذَ يَشكُرُ اللهَ وَيَحمَدُهُ، مَملوءًا مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ ومُسَبِّحًا الرَّبَّ بِنَشيدٍ أَشبَهَ بِالتَّسابيحِ العِبرانيَّةِ القَديمَةِ (لوقا 1: 57-80). وَرَدَ اسمُهُ أَيضًا في القُرآنِ: «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا» (سورة مَريمَ 7). أمَّا عِبارةُ "فَسَلَّمَت" في الأَصلِ اليونانِيّ ἠσπάσατο (مَعناها "حَيَّت")، فَتُشيرُ إلى تَحيَّةِ سَلامٍ، وَتُتَرجَمُ بِمَعنى الفَرَح. وَبِهَذا السَّلامِ هَنَّأَت مَريمُ أليصاباتَ، مِمّا يُرفَعُ العارُ عَنها، لأَنَّها كانَت عاقِرًا. فَفي المُجتَمَعِ اليَهوديِّ آنذاك، كانَت تُقاسُ قِيمَةُ المَرأَةِ بِقُدرَتِها على إِنجابِ الأَطفالِ، وكانَ التَّقَدُّمُ في السّنِّ دُونَ إِنجابٍ يُعْتَبَرُ عارًا اِجتِماعيًّا في المُجتَمَعِ اليَهوديِّ آنذاك. وتُذَكِّرُنا هذِهِ العِبارَةُ بِقَولِ الرَّبِّ يَسوعَ لِتَلاميذِهِ: «وإِذا دَخَلتُمُ البَيتَ فَسَلِّموا علَيه» (متّى 10: 12). ويُعِيدُ النَّصُّ ذِكْرَ التَّحِيَّةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ (لوقَا 1: 40، 41، 44).  إنَّ كِتابَ العَهدِ الجَديدِ هو كِتابُ السَّلام، حَيثُ تَكرَّرَت كَلِمَةُ "سَلام" 88 مَرَّةً فيه. فإذا ما كُنّا في نِعمَةٍ، فَلا نَتعالَ، ولا نَنظُرُ إلى الآخَرينَ مِن عُلوّ. أمَّا عِبارةُ "أليصابات" بِالصّيغَةِ اليونانيَّةِ Ἐλισάβετ، فَهي مُشتَقَّةٌ مِن اللَّفظَةِ العِبريَّةِ אֱלִישֶׁבַע (مَعناها "اللهُ يُقسِمُ" أَو "يَمينُ الله"). وَتُشيرُ إلى اسمِ اِمرَأَةٍ تَقِيَّةٍ بارَّةٍ مِن سِبطِ لاوي وَمِن بَيتِ هارونَ، مِمَّا يُلَمِّحُ إلى أَنَّها جاءَت مِن عائِلَةٍ كَهَنوتيَّةٍ مُقَدَّسَةٍ (خُروج 6: 23). وَأليصاباتُ، بِوَحْيٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، اِعْتَرَفَت بِأُمومَةِ مَريمَ للعَذراءِ لِلمَسيحِ المُنتَظَرِ، فَدَعَت مَريمَ: "أُمُّ رَبِّ"» (لوقا 1: 43). فَكانت أَليصاباتُ مُمَثِّلَةً للعَهدِ القَديمِ، في حينِ تُمَثِّلُ مَريمُ العَهدَ الجَديدَ؛ إِذ سَمِعَت كَلِمَةَ اللهِ وَآمَنَت بِها، وَقَبِلَتها في قَلبِها وَحَمَلَتها إلى الآخَرين. يُمكِنُ للرَّبِّ يَسوعَ أَن يَذهَبَ إلى بَيتِ زَكَرِيَّا في عينِ كارمَ إِذا لَم تَجلِبْهُ أُمُّهُ إلى هُناك؟ نَحْنُ أيضًا مَدْعُوُّونَ بِدوْرِنا لِلنَّظَرِ إِلَى مَرْيَمَ الْيَوْمَ، الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ ذَاتِهَا وَتَنْطَلِقُ لِلِقَاءِ الْآخَرِينَ لِنَكُونَ قَرِيبِينَ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ وَمِنْ كُلِّ رَجُلٍ، لِنُوَصِّلَ بُشْرَى الْخَلَاصِ، حَتَّى لَا يَشْعُرَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ مَتْرُوكٌ أَوْ وَحِيدٌ.

 

41 فلَمَّا سَمِعَت أَليصاباتُ سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس

 

تشيرُ عِبارةُ "سَمِعَت" إلى سَماعِ أليصاباتَ الصَّوتَ بالأُذُن، وأمَّا الذي قَبِلَ النِّعمةَ أوَّلًا فهُوَ يُوحنّا جَنينُها، إذ تَهَلَّلَ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس. كانت أليصاباتُ أَوَّلَ مَن سَمِعَ صَوتَ مَريمَ، لكنَّ يُوحنّا كانَ أَوَّلَ مَن تأثَّرَ بِنِعمَةِ الرُّوحِ القُدُس. وَبِمُجرَّدِ إِصغاءِ أليصاباتَ لِسَلامِ مَريمَ، تَمَّت أَحداثٌ عَجيبَةٌ: ارتِكاضُ الجَنينِ مُبتَهِجًا، وامتلاءُ أليصاباتَ بِالرُّوحِ القُدُس، وشَهادَتُها لأُمومَةِ مَريمَ لِرَبِّها. أَمَّا عِبَارَةُ "سَلَامَ" فَتُشِيرُ إِلَى الْبَرَكَةِ الْمَسِيحَانِيَّةِ حَسَبَ لُغَةِ لُوقَا الْإِنْجِيلِيِّ." أمَّا عِبارةُ "الجَنينُ"، فتُشيرُ إلى يُوحنّا المَعمَدانِ في بَطنِ أُمِّهِ أليصاباتَ، والجَنينُ هُوَ ثَمَرَةُ الحَملِ في الرَّحِمِ حتَّى نِهايَةِ الأُسبوعِ الثّامِنِ. وأمَّا عِبارةُ "ارتَكَضَ"، في الأَصلِ اليونانِيّ σκιρτάω (مَعناها "تَحَرَّكَ")، فتُقابلُها في اللُّغةِ العِبريَّةِ יִּרְקַד أي «رَقَصَ»، وتُشيرُ إلى ارتِكاضٍ خاصٍّ بِحَركَةٍ غَيرِ عادِيَّةٍ للجنين، حتَّى نَسَبَتْها أليصاباتُ إلى مَجيءِ مَريمَ. وَهي ذاتُ الكَلِمَةِ الّتي استُخدِمَت حِينَ رَقَصَ داوُدُ النَّبيُّ فَرِحًا أَمامَ تابوتِ العَهدِ المُقدَّسِ (2 صموئيل 6: 16). ارتَكَضَ يُوحنّا المَعمَدانُ فَرَحًا في بَطنِ أُمِّهِ أليصاباتَ بِسَبَبِ حُضورِ يَسوعَ في بَطنِ أُمِّهِ مَريم. "لَمْ يَكُنْ لِقَاءُ مَرْيَمَ بِألِيصَابَاتَ فَحَسْبَ، بَلْ كَانَ أَيْضًا لِقَاءَ الطِّفْلَيْنِ، اللَّذَيْنِ يُعْلِنَانِ بِحَيَاتِهِمَا سِرَّ عَمَلِ اللَّهِ، الَّذِي تَحْمِلُهُ الْمَرْأَتَانِ فِي أَحْشَائِهِمَا.  الرَّحِمُ الَّذِي كَانَ عَقِيمًا، أَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى الِٱرْتِكَاضِ بِفَرَحٍ لَا يُوصَفُ. "وَيُعلِّقُ القِدّيسُ يُوحنّا الذَّهَبِيُّ الفَم قائلًا: "لَم يَكُنِ الطِّفلُ يَستَطيعُ بَعدُ أَن يَصرُخَ، لكنَّهُ كانَ يُسمِعُ بِأَعمالِهِ". وَتُلَمِّحُ هَذِهِ اللَّفظَةُ "ارتَكَضَ" إلى مَريمَ العَذراءِ الَّتي هِيَ تابوتُ العَهدِ الجَديدِ الَّذي يَحتَوِي على حُضورِ كَلِمَةِ اللهِ المُتَجَسِّدِ. مَريمُ هِيَ "تابوتُ العَهدِ الجَديد"، حَيثُ يَسكُنُ اللهُ (2 صموئيل 6: 2-11)، وَحَيثُ أَنَّ اللهَ يُريدُ أَن يَسكُنَ، مِنَ الآنَ وصاعِدًا، في قُلوبٍ حَيَّةٍ عامِرَةٍ بِالإيمانِ وَالفَرَح. تَدلُّ هَذِهِ العِبارَةُ أَيضًا على أَنَّ المَسيحَ أَسمى مِن يُوحنّا، مُنذُ كانَ جَنينًا في بَطنِ أُمِّهِ. أمَّا عِبارةُ "امتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس"، فَتُشيرُ إلى حُلولِ روحِ النُّبوءَةِ في العَهدِ القَديمِ على أليصاباتَ، وَاعتِرافِها بِمَريمَ العَذراءِ أُمًّا لِلمَسيح. وَحُلولُ الرُّوحِ القُدُس جَعَلَها تَفهَمُ، وَتُؤمِنُ، وَتَختَبِرُ شَخصِيًّا عَمَلَ الرَّبِّ في حَياتِها. حَلَّ الرُّوحُ القُدُس على أليصاباتَ روحَ النُّبوءَة، كَما كانَ للأنبياءِ القُدَماءِ وَلِمَريمَ أُختِ مُوسى (خُروج 15: 20)، وَلِشُيوخِ إِسرائيلَ (عَدَد 11: 27)، وَلشاوُلَ المَلِكِ (1 صموئيل 10: 6). ويُعلِّقُ العَلامَةُ أوريجانوس قائِلًا: «امتَلأَت أليصاباتُ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وَذلِكَ لأَجلِ ابنِها يُوحنّا، الّذي كانَ لا يَزالُ في بَطنِ أُمِّهِ وَامتَلأَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وَإِذا تَقَدَّسَ الابنُ بَعدَ ذلِك، امتَلأَت أليصاباتُ أَيضًا مِنَ الرُّوحِ القُدُس". امتَلأَت أليصاباتُ بِالرُّوحِ القُدُسِ بَعدَ أَن حَمَلَت، بَينَما كانَت مَريمُ مُمتَلِئَةً بِالرُّوحِ القُدُسِ قَبلَ الحَمل. أليصاباتُ المُسنَّةُ العاقِرُ آمَنَت وَفَرِحَت لأَنَّ أُمَّ رَبِّها أَتَت إِلَيها وَزارَتها. فَبَعَثَ اللِّقاءُ على الفَرَح، وَفَرحةُ اللِّقاءِ هِيَ عيدُ الرَّبّ. عَلِمَت أليصاباتُ أَنَّ ابنَ مَريمَ العَذراءِ سَيَكونُ أَعظَمَ مِنِ ابنِها، لأَنَّ يُوحنّا سَيَكونُ مُرسَلًا أَمامَ ابنِ مَريمَ. لِيَتَنا في زِياراتِنا وَلِقاءاتِنا مَعَ الآخَرينَ نَحمِلُ إِلَيهِم مَسيحَنا القُدُّوس، الَّذي يُبهِجُ أَحشاءَهُمُ الدَّاخِلِيَّةَ، وَيُلهِبُ روحَهُ القُدُسَ فيهِم.

 

42 فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ"

 

تشيرُ عبارةُ "هَتَفَتْ" في الأصلِ اليونانيِّ ἀναφωνέω (معناها هتفتْ، ويُستَعمَلُ في التوراةِ بارتباطهِ دائماً برُتبٍ دينيَّةٍ محورها تابوتُ العهد) إلى صرخةِ أليصاباتَ أو بالأحرى إلى أنشودتِها التي تُلمِّحُ مرةً أخرى أنَّ مريمَ العذراءَ التي هي بمثابةِ تابوتِ العهدِ الجديدِ لحضورِ كلمةِ الله (1 أخبار 15: 28). ولأنَّ أليصاباتَ امتلأَتْ بالروحِ القدسِ، فإنَّ كلماتَها هي كلماتٌ نبويَّةٌ قادرةٌ على تفسيرِ علاماتِ وجودِ اللهِ في مريم. صرخت أَلِيصابَاتُ ليس مِنْ فَمِها فَحَسب، إنما أيضًا من ْقَلْبِها، الَّلتَيْنِ يَسْكُنُهُمَا ٱلرُّوحُ الْقُدُسُ. ٱلرُّوحُ الْقُدُسُ يُنِيرُ نَظَرَةَ أَلِيصابَاتِ. ٱلْجَسَدُ هُوَ بِمَثَابَةِ مَكَانِ الْعَلَاقَاتِ وَالْلِقَاءَاتِ فِي عَمَلِ الْخَلَاصِ، إِذَا تَرَكْنَا ٱلرُّوحَ اْلقُدُسَ يَعْمَلُ فِيهِ. أمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّساءِ! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ"، فتشكِّلُ مع تحيَّةِ الملاكِ جبرائيلَ لدى البشارةِ جزءاً من الصلاةِ المشهورةِ للعذراءِ "السلامِ الملائكي". وهي تُذكِّرُنا بالأيامِ التي سبقتْ عيدَ الميلادِ عندما كانَ يسوعُ في أحشاءِ مريم. وها هو قلبُ الأمِّ يخفقُ قربَ قلبِهِ، ويخفقُ بدمٍ بشريٍّ وحيد. والمباركةُ هي فعلُ شكرٍ عميقٍ إلى مريمَ ويسوعَ ابنِها. الأمُّ مُبارَكةٌ وابنُها مُبارَك. ويُعلِّقُ الأبُ رينيه لورانتان، الخبيرُ بالكتاباتِ عن سيرة سيدتِنا مريمَ العذراءِ: "كان بإمكانِ أليصاباتَ أن تهتفَ: مباركٌ ثمرةُ بطنِكِ"، ولكنَّها – بوحيٍ من الروحِ القدسِ – أسبقتِ التبريكَ ليسوعَ بالتبريكِ لأمِّهِ العذراءِ، وذلك لإكرامِ الأمِّ التي تسبقُ دوماً أبناءَها في النظامِ الطبيعيّ. أمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّساءِ!" فتشيرُ إلى إحدى صفاتِ مريمَ؛ أنَّها مُبارَكةٌ لإنعامِ اللهِ عليها بالبركةِ التي لم يَهَبْها لغيرِها من النساء، وذلك بسببِ نعمةِ أمومتِها الحقّةِ، حيث أصبحتْ حوّاءَ الجديدةَ التي نالتِ البركةَ والحياةَ بدلَ حوّاءَ الأولى التي استحقَّتِ اللعنةَ والشقاءَ كما وردَ في سفرِ التكوين. حوّاءُ ماتتْ بسببِ رغبتِها المتكبّرةِ في أكلِ ثمرةِ الحياة، ومريمُ العذراءُ أطاعتِ الربَّ، فحلَّتْ ثمرةُ الحياةِ في أحشائِها، ثمرةٌ دعتها أليصاباتُ "مُبارَكة". وفي سفرِ يهوديتَ نجدُ نفسَ المباركة: "بارَككِ، يا بُنَيَّة، الإِلهُ العَلِيُّ فَوقَ جَميعِ النِّساءِ اللَّواتي على الأَرضِ" (يهوديت 13: 18). وهذه البركةُ تُذكِّرُنا أيضاً بنشيدِ دبورةَ النبيَّةِ: "لْتُبارَكْ بَينَ النِّساءِ يا عَيْل (اِمرَأَةُ حابَرَ القَينِيّ)، لْتُبارَكْ بَينَ جَميعِ السَّاكِناتِ في الخِيامِ!" (قضاة 5: 24). وأمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ"، فتشيرُ إلى يسوعَ، الثمرةِ المُبارَكةِ، الذي هو سببُ مباركةِ مريمَ "مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّساء!". فيسوعُ هو الثمرةُ المباركةُ بحيثُ تُصبِحُ مريمُ شجرةَ الحياةِ الجديدةِ، المزروعةَ في وسطِ الجنةِ تُقدِّمُ ثمرتَها للأجيالِ كلِّها، والأجيالُ كلُّها تُكرِّمُها من أجلِ الثمرةِ التي تُعطيها. وتدلُّ هذه العبارةُ أيضاً على مريمَ العذراءِ التي أصبحتْ بمثابةِ تابوتِ العهدِ الحاوي حضورَ اللهِ. إنَّها مسكنُهُ الجديدُ، هي قدسُ الأقداسِ الحيُّ الجديدُ "ألمْ يَقُلْ الملاك جبرائيل لها: قُدرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ؟" (لوقا 1: 35). فكما كانَ يهتفُ داودُ الملكُ أمامَ تابوتِ العهدِ بقولهِ: "كَيفَ يَنزِلُ تابوتُ الرَّبِّ عِندِي؟" (2 صموئيل 6: 10)، هكذا تهتفُ أليصاباتُ أمامَ مريمَ، تابوتِ العهدِ الجديدِ: "مِنْ أينَ لي أنْ تأتيني أُمُّ ربِّي؟". مريمُ حقّاً هي تابوتُ العهدِ الجديدِ حيثُ يسكنُ اللهُ بتجسُّدِ يسوعَ المسيحِ في أحشائِها. وكما أقامتْ مريمُ عندَ أليصاباتَ نحوَ ثلاثةِ أشهرٍ (لوقا 1: 56)، هكذا "بَقِيَ تابوتُ الرَّبِّ في بَيتِ عوبيدَ أَدومَ الجَتِّيِّ ثلاثةَ أَشْهُرٍ" (2 صموئيل 6: 11). وهنا ستكونُ مريمُ الصورةَ المستقبليَّةَ عن الكنيسةِ التي سيسكنُها القربانُ إلى الأبد. إنَّ اللهَ فضَّلَ قلبَ الإنسانِ على أيِّ بيتٍ يسكنُهُ من الحجارةِ، فهذه دعوةٌ لنا أنْ نَجعلَ من قلوبِنا مغارةً لميلادِ المسيحِ على مثالِ الأمِّ البتولِ مريم. أمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ" فتشيرُ إلى جزءٍ من الخبرةِ اليوميَّةِ لدى إنسانِ العهدِ القديم. نستقبلُ القريبَ ونودِّعُهُ "فنباركُهُ"، بمعنى أنَّنا "نحيِّيهِ" (تكوين 47: 7). وتدلُّ المباركةُ على الوحدةِ وعلى علاقةِ الحياةِ، وهذا أمرٌ خاصٌّ بعلاقاتِنا في الشرقِ. أما كلمةُ "مُبارَكَةٌ" على فمِ أليصاباتَ فتدلُّ على تمجيدٍ للهِ وشكرٍ له، وإقرارٍ بجميلِه بسببِ أعمالِه ومعجزاتِه. وبهذهِ البركةِ عبَّرَتْ أليصاباتُ عن الوحدةِ بينَ الأمِّ مريمَ وابنِها يسوعَ. هي بركةٌ مزدوجةٌ؛ يسوعُ ومريمُ يشتركانِ معاً في البركةِ الإلهيةِ. مريمُ هي المُبارَكةُ، ويسوعُ الذي فيها هو المُبارَكُ، وكِلاهما يأتيانِ باسمِ الربِّ لإعلانِ الملكوتِ المسيحانيِّ. فبركةُ الربِّ تبلُغُ البشرَ بواسطةِ مريمَ ويسوعَ المُتَّحدَينِ اتّحاداً لا ينفصم. هناك ارتباطٌ وثيقٌ بين مريمَ بابنِها في شخصيتِها وطبيعتِها وتاريخِها، لذلك فهي ليستْ أداةً مُجرَّدةً من كلِّ شخصيةٍ أو مسؤوليةٍ، بل هي شريكةٌ لإعلانِ الملكوتِ. أمَّا عبارةُ "ثَمَرَةُ بَطنِكِ"، فتشيرُ إلى يسوعَ المسيحِ، كما سبقَ كثيرٌ من رجالاتِ العهدِ القديمِ الذين كُرِّسوا للربِّ "وهم في بطونِ أمهاتِهم" مثل شمشونَ (قضاة 13: 5)، وإرميا (إرميا 1: 5)، وعبدِ اللهِ (أشعيا 49: 1). يعني ذلك أنَّ اللهَ سبقَ فاختارَهم لرسالتِهم، كما اختارَ بولسَ الرسولَ: "لكِنْ لَمَّا حَسُنَ لَدَى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذْ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعاني بِنِعمَتِهِ" (غلاطية 1: 15). تحدَّثتِ المرأتانِ عن نعمِ اللهِ، وزيَّنَ الوالدانِ الأحشاءَ الوالديةَ بسرِّ التقوى وبنِعَمِهِ.

 

43 مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟"

 

تشيرُ عبارةُ "مِنْ أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي" إلى إعلانِ أليصاباتَ أمومةَ مريمَ لربِّها، بالرغمِ من عدمِ وجودِ أيةِ ظاهرةٍ لهذا الحدثِ الإلهيِّ سوى إصغائِها لسلامِ مريم. إنَّ هذا الإعلانَ يُعبِّرُ عن فعلِ سُجودٍ وعرفانٍ جميلٍ للخالقِ. ولمَّا أتَتْ مريمُ لزيارةِ أليصاباتَ، عَرَفَتْ هذهِ بواسطةِ الروحِ القُدُسِ أنَّ ابنَ مريمَ العذراءِ هو المسيحُ المُنتَظَر، وآمَنَتْ بذلكَ وفرِحَتْ بهِ، بالرغمِ من أنَّ حَمْلَ مريمَ العذراءِ يبدو مُستَحيلًا. ولكنَّ سؤالَ أليصاباتَ إشارةٌ إلى أنَّ الحَمْلَ البتوليَّ هو أمرٌ ممكنٌ وليسَ مُستَحيلًا على اللهِ. وبهذا الإعلانِ تؤكِّدُ أليصاباتُ باسمِ العهدِ القديمِ أنَّ الرجاءَ المسيحانيَّ قد تحقَّقَ في أحشاءِ مريم. ويُعلِّقُ الأبُ العَلَّامة  رينيه لورانتان قائلاً: "كانَ بإمكانِ أليصاباتَ أنْ تقولَ متسائلةً: "مِنْ أَيْنَ لِي أَنْ تأْتِيَ رَبِّي إِلَيَّ؟" بدلَ سؤالِ "مِنْ أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي؟". فالمسيحُ الربُّ الجنينُ يَحملُ والدتَهُ التي هي "بنتُ ابنِها"، كما يقولُ الأديبُ الإيطاليُّ دانتيه، ويسوعُ هو "الكَلِمَةُ الذي بهِ كانَ كلُّ شيءٍ"، بما فيهِ أُمُّه. ولكنَّ الروحَ القُدُسَ أَلهمَ أليصاباتَ احترامَ الوالدةِ وإكرامَها – لا على حسابِ ألوهيَّةِ الابنِ الجنينِ – بما أنَّ الجنينَ الإلهيَّ ما كانَ ليتحرَّكَ لولا تَحرُّكُ والدتِه الطَهورِ من الناصرةِ إلى عَيْنِ كارِم. فلا عَجَبَ أنْ يَقِفَ القديسُ كيرلسُ الكبيرُ رافعًا الترنيمَ لمريمَ أمامَ آباءِ مَجمَعِ أفسسَ، قائلاً: "السلامُ لمريمَ والدةِ الإلهِ، الكَنْزِ المَلَكِيِّ للعالمِ كُلِّه، إكليلِ البَتوليَّةِ، الهيكلِ غيرِ المَفهومِ، المَسْكَنِ غيرِ المحدودِ، الأمِّ والعذراء. السلامُ لكِ يا مَنْ حَمَلْتِ غَيْرَ المُحْوَى في أحشائِكِ البتوليَّةِ المقدَّسةِ". أمَّا عبارةُ "مِنْ أَيْنَ لِي" فتشيرُ إلى فُرصةٍ عظيمةٍ لأليصاباتَ لا تَستحقُّها أنْ تأتي "أُمُّ الرَّبِّ" إليها. ويُشبِهُ هذا القولُ كلامَ يوحنا المعمدانِ ليسوعَ عندما أتَى ليَعتَمِدَ على يَدِهِ: "أَوَ أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ؟" (متى 3: 14). ويُعلِّقُ القديسُ أمبروسيوس قائلاً على لسانِ أليصاباتَ: "أيُّ فَضْلٍ لي؟ أو أيُّ عملٍ قُمْتُ بهِ؟ أو أيُّ حقٍّ هو لي؟ ... فإنِّي أَشعُرُ بالمعجزةِ وأتلمَّسُ السِّرَّ". عَلِمَتْ أليصاباتُ أنَّ ابنَها سيكونُ عظيمًا (لوقا 3: 15)، لكنها عَلِمَتْ أنَّ ابنَ مريمَ سيكونُ أعظمَ منه. أمَّا عبارةُ "رَبِّي" في الأصلِ اليونانيِّ κυρίου μου (معناها "سيِّدي") فتشيرُ إلى لَقَبِ "الربِّ"، وهو أحدُ أسماءِ المسيحِ الذي يَدُلُّ على أنَّ يسوعَ هو المسيحُ، ويُوحي بما لسيادتِهِ المَلَكِيَّةِ من طابعٍ إلهيٍّ (أعمالُ الرُّسُلِ 2: 36)، ولسُمُوِّ المسيحِ المدعوِّ "رَبِّي"، كما جاءَ في تفسيرِ إنجيلِ متى للمزمورِ 110: "قالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عن يَميني حتَّى أَجعَلَ أَعْداءَكَ تَحتَ قَدَمَيْكَ" (متى 22: 44). كانت أليصاباتُ الشخصَ الأوَّلَ الذي يُنادي يسوعَ في الإنجيلِ بكلمةِ "κύριος"، أي "رَبّ". وإنَّ مريمَ ليستْ أُمَّ الربِّ فقط، بل أُمُّ "رَبِّي". إنَّها أُمُّ الربِّ الذي خَلَّصَها، ونَزَعَ عنها الخِزيَ، وأَنْعَمَ عليها برحمتِهِ. ويقولُ بولسُ الرسولُ في هذا الصددِ: "لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقولَ: يَسوعُ رَبٌّ إِلَّا بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" (1 قورنتس 12: 3). فيسوعُ هو المسيحُ المُنتظَرُ، أي المسيحُ المَلِكُ الذي أنبأتْ بهِ الكُتُبُ المُقدَّسةُ، وأعلنهُ المُرسَلونَ وأثبَتوهُ لليهودِ إذْ: "كانوا لا يَنفَكُّونَ كُلَّ يَومٍ في الهَيكَلِ وفي البُيوتِ يُعَلِّمونَ ويُبَشِّرونَ بِأَنَّ يَسوعَ هو المسيحُ" (أعمال الرُّسُلِ 5: 42). ويتضمَّنُ لَقَبُ "رَبّ" اسمَ المسيحِ القائمِ من بينِ الأمواتِ والذي انتَصَرَ على الموتِ. ويُطلِقُ سفرُ أعمالِ الرُّسُلِ على اللهِ اسمَ "الرَّبّ"، ولكنَّهُ يُطلِقُهُ على يسوعَ أيضًا، كما فعلَ إنجيلُ لوقا: "فَلَمَّا رآها الرَّبُّ" (لوقا 7: 13). وأعلَنَتِ الجماعةُ المسيحيَّةُ الأولى حقيقةَ أنَّ "الرَّبَّ هو يسوعُ المسيحُ"، إذْ كانَ بولسُ الرسولُ: "يُعلِنُ مَلَكوتَ اللهِ ويُعَلِّمُ بِكُلِّ جُرأَةٍ ما يَختَصُّ بِالرَّبِّ يسوعَ المسيحِ، لا يَمنَعُهُ أَحَدٌ" (أعمال الرُّسُلِ 28: 31)، ليَستَطيعَ جميعُ الناسِ أنْ يُؤمِنوا بهِ (أعمال الرُّسُلِ 11: 17). إلَّا أنَّ يسوعَ الرَّبَّ هو ابنُ اللهِ أيضًا (أعمال الرُّسُلِ 9: 20). وفي المسيحِ يسوعَ الذي ماتَ وقامَ، والذي هو رَبُّ الكُلِّ، يُعرَضُ الخلاصُ لكلِّ مَن يُؤمِنُ بهِ، يهوديًّا كانَ أمْ وَثَنيًّا: "ولَهُ يَشهَدُ جَميعُ الأَنبِياءِ بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ بِهِ يَنالُ بِاسمِهِ غُفرانَ الخَطايا" (أعمال الرُّسُلِ 10: 43). أمَّا عبارةُ "أُمُّ رَبِّي" فتشيرُ أوَّلًا إلى أُمِّ يسوعَ الذي هو المسيحُ المُنتَظَرُ، وهو الرَّبُّ الإلهُ المُتجسِّدُ. وهي أُمُّ الربِّ الذي خَلَّصَ أليصاباتَ، ونَزَعَ عنها العارَ، وجعلَها تَنتَظِرُ مولودًا، حتى في عمرِ الشَّيخوخةِ، فأَنْعَمَ عليها برحمتِهِ إذْ ظَلَّتْ أَمِينَةً للهِ. وقد افتَتَحَ يوحنا المعمدانُ رِسالَتَهُ بالدِّلالةِ على المسيحِ الرَّبِّ بلسانِ أُمِّهِ (لوقا 1: 43). استَعمَلَ لوقا الإنجيلي 19 مرَّةً لَفظَ "الرَّبّ" في إنجيلِهِ، وأكثرَ من 40 مرَّةً في سفرِ أعمالِ الرُّسُلِ، لأنَّ سيادةَ يسوعَ تجلَّتْ بعد قيامتِهِ. وما سيقولُهُ يوحنا فيما بعدُ عن المسيحِ، تقولُهُ أليصاباتُ الآنَ لمريمَ. لو حَبَّذا أنْ نستقبِلَ مَجيءَ يسوعَ كما استقبلتْ أليصاباتُ مريمَ، بنَظرةِ الإيمانِ التي مَكَّنتْها من رؤيةِ بركةِ اللهِ مُجدَّدًا في عَملِ التاريخِ.

 

44 فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني.

 

تشيرُ عبارةُ "إِنْ وَقَعَ صَوْتُ سَلامِكِ" إلى صوتِ مريمَ الذي يُبشِّرُ بيسوعَ، والذي هو علامةٌ منَ الرُّوحِ القُدُسِ التي تحقَّقَتْ لأليصاباتَ بما عَلِمَتْهُ سابقًا، وهو أنَّ مريمَ هي "أُمُّ رَبِّي". يُعيدُ لوقا الإنجيليُّ مرَّةً أُخرى ما قالَهُ: "فَلَمَّا سَمِعَتْ أَليصاباتُ سَلامَ مَريَم، ارْتَكَضَ الجَنينُ في بَطْنِها، وامْتَلَأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" (لوقا 1: 41). ويُعلِّقُ العلامةُ أوريجانوسُ قائلاً: "في البِدءِ، لم يُعطِ الرَّبُّ يسوعُ المسيحُ كنيستَهُ أنْ تَعرِفَهُ إلَّا عَبرَ صَوْتِهِ. لقد بَدَأَ بإطلاقِ صَوْتِهِ عَبرَ الأَنبياءِ؛ فمِنْ دونِ أنْ يَظهَرَ، أسمَعَهُم صَوْتَهُ فقط". أمَّا عبارةُ "ارْتَكَضَ الجَنينُ ابْتِهَاجًا في بَطْني" فتُشيرُ إلى إعادةِ ما قالَهُ لوقا سابقًا (لوقا 1: 41) مع إضافةٍ صغيرةٍ ومُهِمَّةٍ وهي كلمةُ "ابْتِهَاجًا". والابتهاجُ يُشيرُ إلى سببِ ارتكاضِ يوحنا المعمدانَ وأُمِّهِ أليصاباتَ. إنَّ لقاءَ الرَّبِّ لم يجلبْ لأليصاباتَ ولا لطفلِها الخوفَ أو القلقَ، بل جَلَبَ الفَرَحَ. فهذا الفرحُ الذي تحلَّتْ بهِ أليصاباتُ دليلٌ أكيدٌ على أمانتِها لله. إنَّ مريمَ تنقُلُ الفرحَ إلى منزلِ خالتِها، لأنَّها "تحملُ" المسيحَ. ويسوعُ يُقدِّسُ يوحنا المعمدانَ من خلالِ أُمِّهِ مريمَ. فقد تذوَّقَ يوحنا المعمدانُ طَعْمَ الفرحِ الحقيقيِّ وهو ما يزالُ في بَطنِ أُمِّهِ أليصاباتَ. وهو أوَّلُ شخصٍ – بعدَ العذراءِ – استقبَلَ البِشارةَ السارَّةَ، وقد شهدَ شهادتَهُ الأخيرةَ بعدَ ذلك بثلاثينَ عامًا بفرحِهِ لِصَوْتِ يسوعَ: "مَن كانَتْ لَهُ العَروسُ فهُوَ العَريس. وأَمَّا صَديقُ العَريسِ الَّذي يَقِفُ يَستَمِعُ إِلَيهِ فإِنَّهُ يَفرَحُ أَشَدَّ الفَرَحِ لِصَوْتِ العَريسِ. فهوذا فَرَحي قد تَمَّ" (يوحنا 3: 29). ولذلكَ يُطلِقُ التقليدُ على يوحنَّا المَعْمدانَ لَقَبَ "نَبيِّ الفَرَحِ". فكُلُّ نَفْسٍ يَغمُرُها صَوْتُ كَلِمَةِ اللهِ تكونُ سَعيدةً ومُرتاحةً حينَ تَشعُرُ بحضورِهِ.

 

45 فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ:

 

تشيرُ عبارةُ "فَطوبَى لِمَن آمَنَتْ" إلى تَطويبِ مريمَ، لأنَّ علاماتِ إيمانِها وابتهاجِها ظَهَرَتْ على وجهِها، حتى تَحقَّقَتْ أليصاباتُ أنَّها واثقةٌ بوعدِ اللهِ وأنَّها شريكةٌ للمؤمنينَ في فوائدِ مواعيدِهِ تعالى. العلامةُ المُميِّزَةُ لمريمَ هي إيمانُها. مريمُ هي امرأةٌ جديدةٌ وضَعَتْ ثِقتَها وآمنَتْ أنَّ عَمَلَ اللهِ فيها هو بركةٌ وحياةٌ. كَلِمَةُ التَّطْوِيبِ هِيَ نَتِيجَةُ السَّلَامِ الَّذِي تَحْمِلُهُ مَرْيَمُ، لَيْسَ فَقَطْ بِتَحِيَّتِهَا، وَلَكِنْ فِي أَحْشَائِهَا. فَهِيَ تَحْمِلُ ٱبْنَ اللَّهِ، حَامِلَ السَّلَامِ للبَشرَّية جَمعاء.  أمَّا عبارةُ "طوبَى" فتشيرُ إلى إعلانٍ وتهنئةٍ من أجلِ حالةٍ من السعادةِ أو الفرحِ. طوَّبَتْ أليصاباتُ مريمَ العذراءَ لأجلِ الإلهِ الذي تَحمِلُهُ في بَطْنِها، وطوَّبَتْها أيضًا لأجلِ إيمانِها. فالسُّعداءُ هم الذينَ يَرَوْنَ ويَسمَعُونَ ويتقبَّلونَ كَلِمَةَ اللهِ ويضعونَها موضِعَ العَمَلِ. هم الذينَ يُؤمِنونَ دونَ أنْ يَرَوْا. فكُلُّ نَفْسٍ إذا آمنَتْ يُمكِنُها أنْ تَحْمِلَ وتَلِدَ كَلِمَةَ اللهِ، وتَعترِفَ بأعمالِهِ. ويُعلِّقُ الأَخُ ماكس توريان مِنْ تيزيه: "مريمُ هي المرأةُ المُختارَةُ من بين جميعِ النساءِ، وهي فَوقَهُنَّ جميعًا. إنَّها المرأةُ الأُولى، إنَّها الكُلِّيَّةُ الطُّوبى، ما مِنْ أَحَدٍ قَبلَها بُورِكَ كما بُورِكَتْ، لا ولنْ يُبارَكَ أَحدٌ مِثلَها. مريمُ أُمُّ المسيحِ، لها وحدَها تَمامُ البَرَكَةِ والسَّعادةِ، في جميعِ الأَزْمِنَةِ". أمَّا عبارةُ "لِمَن آمَنَتْ" فتشيرُ إلى مريمَ العذراءِ التي آمَنَتْ بكلامِ الملاكِ عن مَولِدِ الطِّفلِ يسوعَ، في حينِ شَكَّ زَكَرِيَّا ولم يُؤمِنْ بكلامِ الملاكِ (لوقا 1: 18). آمَنَتْ مريمُ بكلماتِ الملاكِ وقَبِلَتْ أنْ تَحْمِلَ الطِّفلَ، حتى في ظُروفٍ بشريَّةٍ مُستَحيلَةٍ، لأنَّها آمَنَتْ أنَّ اللهَ قادِرٌ على عَمَلِ المُستَحيلِ. وكانَ إيمانُ مريمَ من أَمثِلَةِ الإيمانِ الذي ذكرَهُ بولسُ الرسولُ: "الإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الَّتي تُرْجى، وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (العبرانيين 11: 1). لمْ تَلتَفِتْ مريمُ إلى الموانِعِ التي قد تُعيقُ إِتمامَ الوَعدِ، بل نَظَرَتْ إلى قُدْرَةِ الواعدِ تعالى. إنَّ عَمَلَ اللهِ هو أنْ يُبارِكَ ويُخلِّصَ، بينما عَمَلَ الإنسانِ هو الإيمانُ باللهِ الذي يُبارِكُ ويُخلِّصُ. ويُعلِّقُ المَجمَعُ الفاتيكانيُّ الثاني: "تقدَّمَتْ مريمُ في غُربَةِ الإيمانِ"، وفي هذا الصَّدَدِ قالَ يسوعُ: "طوبَى لِلَّذينَ يُؤمِنونَ ولم يَرَوا" (يوحنا 20: 29). الإيمانُ وحدَهُ يُجعَلُ اللهَ حاضِرًا في العالَمِ. مريمُ تَدعُونا إلى التَّجاوبِ معَ اللهِ بالإيمانِ، لا بالضَّحكِ كما عمِلَتْ سارةُ امرأةُ إبراهيمَ (تكوين 18: 9-15)، ولا بالخوفِ كما فَعَلَ مَنوحُ أَبُو شَمشونَ (قُضاة 13: 22)، ولا بالشَّكِّ كما فَعَلَ زَكَرِيَّا، بل بالقَبولِ التِّلقائيِّ الخاضِعِ. لِيَكُنْ رُوحُ مريمَ في كُلِّ واحدٍ منَّا لِيُمَجَّدَ اللهُ، ولِيَكُنْ رُوحُ مريمَ في كُلِّ واحدٍ منَّا ليَبتَهِجَ باللهِ. إنْ كانتِ القدِّيسةُ مريمُ قد صارَتْ مُمثَّلَةً للبشريَّةِ المؤمِنةِ أو مُمثَّلَةً للكنيسةِ، فلأنَّها قَبِلَتِ الإيمانَ بوَعدِ اللهِ وانحَنَتْ لحُضورِ كَلِمَةِ اللهِ فيها. ويُعلِّقُ المَجمَعُ الفاتيكانيُّ الثاني: "إنَّ المِثالَ الكامِلَ للحياةِ الرُّوحيَّةِ والرَّسولِيَّةِ هو الطُّوباوِيَّةُ العذراءُ مريمُ" ("رِسالةُ العَلمانيِّين"، 4). أمَّا عبارةُ "فَسَيَتِمُّ ما بَلَغَها مِنْ عِندِ الرَّبِّ" فتُشيرُ إلى ما عَلِمَتْهُ مريمُ بوَحيِ الرُّوحِ القُدُسِ. وأمَّا عبارةُ "فَسَيَتِمُّ" في الأصلِ اليونانيِّ (ὅτι ἔσται)، فتُفيدُ السَّبَبِيَّةَ، وتُشيرُ إمَّا إلى سَبَبِ إِتمامِ وَعدِ اللهِ لمريمَ، بمعنى: "طوبَى لِمَن آمَنَتْ لأنَّ سَيَتِمُّ ما بَلَغَها مِنْ عِندِ الرَّبِّ"، وبالتالي يُصبِحُ إتمامُ وَعدِ اللهِ لمريمَ مُرتبِطًا بإيمانِها، وإمَّا تُشيرُ إلى أنَّ إتمامَ وَعدِ اللهِ هو سببُ سَعادَةِ مريمَ وفَرَحِها، وبالتالي تُصبِحُ التَّرجَمَةُ: "طوبَى لِمَن آمَنَتْ: إنَّ سَيَتِمُّ ما بَلَغَها مِنْ عِندِ الرَّبِّ". إعلانُ أليصاباتَ لِمَا حَصَلَ معها هو فِعلُ إيمانٍ واعترافٌ بعَظَمَةِ تَدخُّلِ اللهِ في حياتِها وحياةِ مريمَ وابنِها يسوعَ. لا إيمانَ دونَ عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ، ولا إيمانَ دونَ شهادةٍ، ليسَ بالأعمالِ فقط، بل بالإعلانِ. لقد شَهِدَ الجَنينُ (يوحنا) لوجودِ الرَّبِّ قبلَ أنْ يُولَدَ، وشَهِدَتْ أليصاباتُ المُسِنَّةُ لأعاجيبِ الرَّبِّ في حياتِها، والبَتولُ مريمُ قد حَمَلَتِ الرَّبَّ الجَنينَ وانتَقَلَتْ بهِ إلى الآخَرينَ. ولا إيمانَ دونَ فَرَحٍ، فالفَرَحُ يُميِّزُ وجودَنا كمؤمنينَ بالمسيحِ. فالمسيحُ جاءَ لِيُعطِيَنا الفَرَحَ، ولِيَكونَ فَرَحُنا تامًّا (يوحنا 15: 11). كما استقبلت مَرْيَمُ إِلْيَصَابَاتِ بِالنَّظَرَةِ الإِيمَانِيَّةِ، كَذَٰلِكَ لْنَسْتَقْبِلَ يَسُوعَ عَلَى غَرَارِهَا فِي عَمَلِهِ فِي تَارِيخِ الْخَلاَصِ فِي الْبَشَرِيَّةِ."

 

 

ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 1: 39-45)

 

بعدَ دِراسةِ وقائِعِ النَّصِّ الإنجيليِّ نَستَنتِجُ أنَّ النَّصَّ يَتَمحورُ حولَ زِيارةِ مَريمَ لأليصابات. وتُعَدُّ هذه الزِّيارةُ تَكملةً لِبِشارةِ المَلاكِ جبرائيلَ لِمَريمَ العَذراءِ بِحَبلِها البَتوليِّ بِيَسوعَ المسيح؛ إذ أعطى المَلاكُ لِمَريمَ عَلامةً على أنَّ الحَبلَ البَتوليَّ أمرٌ مُمكِن، "ها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصاباتَ قد حَبِلَتْ هي أَيضًا بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَتْ تُدعَى عاقِرًا" (لوقا 1: 36). وتُؤكِّدُ زِيارةُ مَريمَ العَذراءِ حَقيقةَ التَّجَسُّدِ مِن خِلالِ لِقاءِ مَريمَ، أُمِّ المُخلِّصِ المُنتظَر، وأليصاباتَ، أُمِّ أَكبَرِ أَنبِياءِ اللهِ، والسَّلامِ المُتبادَلِ بينَهُما. ومِن هُنا نَتَساءَلُ: كيفَ أنَّ سَلامَ مَريمَ يُؤَكِّدُ حَقيقةَ التَّجَسُّدِ الإِلهيِّ؟ وكيفَ أنَّ سَلامَ أليصاباتَ يُؤَكِّدُ حَقيقةَ التَّجَسُّدِ الإِلهيِّ؟

 

1) كيفَ أنَّ سَلامَ مَريمَ يُؤَكِّدُ حَقيقةَ التَّجَسُّدِ الإِلهيِّ؟

 

يقولُ لوقا الإنجيليُّ: "فلمَّا سَمِعَتْ أليصاباتُ سَلامَ مَريَمَ، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وامتَلأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" (لوقا 1: 41). كما أنَّ حضورَ اللهِ في تابوتِ العهدِ قد جَعَلَ داودَ المَلِكَ يَثِبُ ويرقُصُ (2صموئيل 6: 16)، كذلك سَلامُ مَريَمَ لحُضورِ المسيحِ، كَلِمَةِ اللهِ الذي تَحمِلُه، مَلأَ خالتَها أليصاباتَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وأيقَظَ الفَرحَ في جَنينِها، يوحنَّا، الذي رَقَصَ يُوحَنَّا أَيْضًا أَمَامَ مَرْيَمَ الَّتِي تَحْمِلُ الرَّبَّ فِي أَحْشَائِهَا. كلامُ الأمِّ (العذراءِ) يَنقُلُ كلامَ ابنِها (يسوعَ) ويَمنَحُ الرُّوحَ القُدُسَ لأليصاباتَ. هذه الوَحدةُ بينَ الأمِّ وابنِها تُؤَكِّدُ حَقيقةَ التَّجسُّدِ. كَلِمَةُ اللهِ أَخَذَ جَسَدًا مِنْ مَريَمَ العَذراءِ، إنَّهُ حَقًّا ابنُ مَريَمَ، ومَريَمُ هي حَقًّا أُمُّ كَلِمَةِ اللهِ. فالأمُّ وابنُها مُتَّحِدانِ في الرِّسالةِ.

 

مَريَمُ في سَلامِها إلى أليصاباتَ الحامِلِ في بَطنِها الجَنينِ، يوحنَّا المَعمَدانِ، هي أوَّلُ المُبَشِّرينَ بالمَسيحِ. إنَّها أوَّلُ مَن حَمَلَتْ بُشرى الخَلاصِ، كما جاءَ في نُبوءةِ أَشعيا: "ما أَجمَلَ على الجِبالِ قَدَمَيِ المُبَشِّرِ، المُخبِرِ بِالسَّلامِ، المُبَشِّرِ بِالخَيرِ، المُخبِرِ بِالخَلاصِ، القائِلِ لِصِهْيَونَ: قد مَلَكَ إِلهُكِ" (أشعيا 52: 7). تحملُ مريمُ معها السلامَ والسعادةَ والخلاصَ، فيما تقولُ إنَّ ملكوتَ اللهِ قد أتى. فكانت أليصاباتُ، رمزًا للعهدِ القديمِ، أوَّلَ المُبشَّرين، إلى حدٍّ أنَّ ابنَها الجَنينَ ارتَكَضَ ابتِهاجًا في بَطنِها. ويُعلِّقُ الفيلسوفُ واللاهوتيُّ الفرنسيُّ جان غيتون (Jean Guitton) على مشهدِ الزيارةِ فيقولُ: "كأنِّي بالأشخاصِ (مريم وأليصابات) في مشهدِ الزيارةِ قد رُفِعوا فوقَ الأرضِ، وخرجوا من ذواتِهم في نَشوةٍ. ويبدو للحظةٍ واحدةٍ، كما في مشهدِ التجلِّي، وكأنَّ ما يُقيِّدُ النَّفسَ بالجسدِ قد حُلَّ، فظهرتْ خَليقةٌ جديدةٌ وراءَ الخليقةِ القديمةِ. ولكن دونَ انخطافٍ ولا أُعجوبةٍ. إنَّ ما نُلاحِظُه من حيويةٍ واهتزازٍ، ومن فرحٍ يفوقُ الفرحَ، إنَّما هو فعلُ الرُّوحِ القُدُس" (لوقا 1: 15، 41).

 

"فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجًا في بَطني" (لوقا 1: 44).  كرَّرَ لوقا الإنجيليُّ هذه الآيةَ مرَّةً أُخرى، لكن بصيغةِ المُتكلِّمِ، مع إضافةٍ صغيرةٍ ومهمَّةٍ وهي كلمةُ "ابتِهاج"، إنَّ مريمَ وابنَها لم يَجلِبا لأليصاباتَ ولطِفلِها الخوفَ أو القلقَ، بل جَلَبا الفَرحَ والابتهاجَ. يسوعُ المُخلِّصُ الحاضِرُ في مريمَ، ومن خلالِ مريمَ يُحدِثُ شُعاعًا في نَفسِ أليصاباتَ وابنِها يوحنَّا، فيَمتلِئُ كلٌّ منهما بالرُّوحِ القُدُسِ وفَرحِ الخلاصِ. هل لزيارتِنا هذا البُعدُ الرُّوحيُّ حيثُ نَسمحُ للرَّبِّ أن يكونَ حاضرًا فينا ويَمنَحَ ذاتَهُ لِمن نَزورُهم للخدمةِ، أو للصَّداقةِ، أو للمُؤاساةِ؟

 

 

2) كيفَ أنَّ سَلامَ أليصاباتَ يُؤَكِّدُ حَقيقةَ التَّجَسُّدِ الإِلهيِّ؟

 

في البِشارةِ، لم يُعلِنِ الملاكُ جبرائيلُ عن الوقتِ الذي فيهِ يَتَحقَّقُ كلامُه حولَ الحَبلِ البَتوليِّ لمَريَمَ بيسوعَ المسيحِ، إلَّا أنَّ هذا السِّرَّ يُثبِّتُ ويَظهَرُ حِسِّيًّا وقتَ الزِّيارةِ. فإنَّ أليصاباتَ تُؤكِّدُ باسمِ العَهدِ القَديمِ أنَّ الرَّجاءَ المسيحانيَّ قد تَحقَّقَ في أحشاءِ مريمَ البَتولِ، وذلكَ من خِلالِ تَحيَّتِها لمَريَمَ العذراءِ. ويُمكِنُ أن نَقسِمَ سَلامَ أليصاباتَ إلى ثلاثةِ أجزاءٍ:

 

الجزءُ الأوَّل: "هَتَفَت أليصابات بِأَعلى صَوتِها "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ" (لوقا 1: 42).

 

إنَّ كلمةَ "مُبارَكة" هي كلمةُ تَمجيدٍ للهِ وشُكرٍ لهُ لمريمَ وابنِها. إنَّها بَرَكةٌ لأُمومةِ مَريَمَ العَذراءِ، إذ إنَّ اللهَ اختارَها ومَيَّزَها مِن بينِ جميعِ النِّساءِ لتكونَ أُمَّ المسيحِ. فَالخَلاصُ يأتي مِن خِلالِ المرأةِ. إنَّما هذا لا يَعني أنَّ المرأةَ هي المُخلِّصُ، بل المُخلِّصُ هو يسوعُ المسيحُ. لكنَّ مريمَ، مِثلَ كلِّ أُمٍّ، مُرتبِطَةٌ بابنِها في شَخصيَّتِها وتاريخِها ورِسالتِها. ولذلكَ فإنَّ البَرَكةَ المُزدَوَجةَ: "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ" (لوقا 1: 42)، تُوحي باشتراكِ يسوعَ ومَريَمَ في عَمَلِ الخَلاصِ. فبَرَكةُ الرَّبِّ تَبلُغُ البَشَرَ بواسطةِ مَريَمَ ويَسوعَ المُتَّحِدَيْنِ اتِّحادًا وَثيقًا.

 

وشَهِدَتْ أليصاباتُ، وهي مُمتَلِئةٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، بهُتافِها لحُضورِ اللهِ في أحشاءِ مَريَمَ، وقد مَلأَ الرُّوحُ القُدُسُ قَلبَها وقادَها للتَّسبيحِ على غِرارِ أولئكَ الذينَ يُسَبِّحونَ اللهَ أمامَ تابوتِ العَهدِ في المَقدِسِ مِثلَ داودَ النبيِّ (2 صموئيل 6: 16). ومِن هذا المُنطَلَقِ، فإنَّ مَريَمَ بِمَثابةِ تابوتِ العَهدِ الحاوي حُضورَ اللهِ. أَلَمْ يَقُلْ لها الملاكُ: "قُدرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ" (لوقا 1: 35)؟

 

إنَّ الهُتافَ الذي تُطلِقُه أليصاباتُ أمامَ ظُهورِ الخَلاصِ النِّهائيِّ في مَريَمَ هو هُتافُ فَرَحٍ بمَجيءِ المسيحِ وبكَثرةِ الأبناءِ الذينَ سيُولَدونَ إلى الإيمانِ بهِ، كما جاءَ في نُبوءةِ أَشعيا: "إِهتِفي أَيَّتُها العاقِرُ الَّتي لم تَلِدْ، إِندَفِعي بِالهُتافِ وآصرُخي أَيَّتُها الَّتي لم تَتَمَخَّضْ، فإِنَّ بَني المَهْجورةِ أَكثَرُ مِن بَني المُتَزَوِّجةِ" (أشعيا 54: 1). إنَّهُ هُتافٌ عظيمٌ، لأنَّهُ أينما حَلَّت مَريَمُ العَذراءُ المُمتَلِئةُ نِعمةً تَملأُ كُلَّ شيءٍ بالفَرَحِ. وقد أَبدى الأخُ ماكس ترويان من جَماعةِ تيزيه إعجابَهُ بمَريَمَ فقالَ: "مَريَمُ هي المَرأةُ المُختارةُ مِن جَميعِ النِّساءِ، وما مِن أحدٍ قَبْلَها بُورِكَ كما بُورِكَتْ، ولنْ يُبارَكَ أحدٌ مِثلَها. مَريَمُ أُمُّ المسيحِ، لَها وَحدَها كَمالُ البَرَكةِ والسَّعادةِ".

 

الجزءُ الثانيُ: "مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟" (لوقا 1: 43).

 

استدرَكَت أليصاباتُ هذا الحدثَ العظيمَ كفُرصَةٍ لا تَستَحقُّها، فأكمَلَت هُتافَها: "مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟" (لوقا 1: 43). وهنا نَجِدُ إشارةً إلى قَولِ داوُدَ النبيِّ، حيثُ يَدعو المسيحَ رَبًّا بوَحيٍ مِنَ الرُّوحِ: "قالَ الرَّبُّ لِسَيِّدي: اِجلِسْ عن يَميني حتَّى أَجعَلَ أَعداءَكَ مَوطِئًا لِقَدَمَيكَ" (مزمور 110: 1). ويُفسِّرُ يسوعُ المسيحُ لِليَهودِ هذا القَولَ قائلًا: "كيفَ يَقولُ النَّاسُ إِنَّ المسيحَ هو ابنُ داوُد؟ فداوُدُ نَفْسُه يَقولُ في سِفْرِ المَزاميرِ: قالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اِجلِسْ عن يَميني حتَّى أَجعَلَ أَعداءَكَ مَوِطِئًا لِقَدَمَيكَ. فداوُدُ يَدعوهُ رَبًّا، فكيفَ يَكونُ ابنَه؟" (متَّى 22: 44). يُلمِّحُ المسيحُ في هذا المزمورِ إلى ألوهيَّتِه وتَسامِيِه. ولذلكَ فإنَّ يسوعَ المسيحَ تَجَسَّدَ حَقًّا، هوَ حَقًّا ابنُ مَريَمَ، وهيَ حَقًّا أُمُّ اللهِ.

 

أليست مَريَمُ مَسكِنَ العَلِيِّ الذي يُظَلِّلُها اللهُ العَلِيُّ بِقُدرَتِهِ؟ أليستْ هي تابوتَ العَهدِ الجديدِ الحامِلِ "حُضورَ اللهِ"؟ تَتَّضِحُ عَقيدَةُ الكَنيسةِ الكاثوليكيَّةِ على ضَوءِ صَرخةِ أليصاباتَ: "مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟". هذا السُّؤالُ نَجدُهُ أيضًا في سُؤالِ داوُدَ عن تابوتِ العَهدِ: "كَيفَ يَنزِلُ تابوتُ الرَّبِّ عِندي؟" (2 صموئيل 6: 9). مَريَمُ تُكرَّمُ لأنَّها أُمُّ المَسيحِ وحامِلَتُه، وُجودُ مَريَمَ لَدى أليصاباتَ هو وُجودُ الرَّبِّ لَدَيها، ووُجودُ مَريَمَ في حَياتِنا يَعني وُجودَ الرَّبِّ مَعَنا. مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ هذا السُّؤالُ نَجدُهُ أيضًا في سِفرِ صَموئيلَ الثَّاني، وهو ما يُؤكِّدُ ما قُلنا سابِقًا؛ فداوُدَ قد صَرَخَ أيضًا: "مِن أَينَ لي أَن يَحلَّ تابوتُ الرَّبِّ عِندي؟" (2 صم 6: 9). هُنا يَجِدُ الإكرامُ لمَريَمَ مَعنَاهُ الحَقيقيَّ؛ مَريَمُ تُكرَّمُ لأنَّها تابوتُ العَهدِ، حامِلَةُ الابنِ.

 

وفي الحَقيقةِ، يَسوعُ، ابنُ اللهِ وهوَ جَنينٌ في بَطنِ مَريَمَ، يَزورُ الآنَ أليصاباتَ. وأليصاباتُ بالرُّوحِ القُدُسِ تُخاطِبُ مَن تَفَوَّقَت على النِّساءِ في القَداسَةِ والطُّهرِ، واستَحَقَّت أن تَحمِلَ الثَّمَرَ المُبارَك: يَسوعَ. وهُنا تَتَكلَّمُ أليصاباتُ بالرُّوحِ القُدُسِ وتُسَمِّي العَذراءَ أُمَّ الرَّبِّ أي "أُمَّ اللهِ"، لأنَّ "الرَّبُّ هو اللهُ وقَد أَنارَنا" (مزمور 118: 27). هُنا أليصاباتُ تَنطِقُ بالرُّوحِ وتُعلِنُ أُمومَةَ مَريَمَ لِرَبِّها، بالرَّغمِ مِن عَدَمِ وُجودِ آيَةٍ ظاهِرَةٍ لِهذا الحَدَثِ الإلهيِّ. إنَّما شَهادَةُ أليصاباتَ بأُمومَةِ العَذراءِ لِرَبِّها انطِلاقًا مِن إصغائِها لِسَلامِ مَريَمَ. وجاءَت شَهادَةُ أليصاباتَ أنَّ ابنَ مَريَمَ هو الرَّبُّ بالرَّغمِ مِن أنَّهُ لا يَزالُ في بَطنِ أُمِّهِ، وذلكَ بِقُوَّةِ وَحيِ الرُّوحِ القُدُسِ. لكن لَم يُلقَّبْ يَسوعُ بِـ"الرَّبِّ" إلَّا بَعدَ القِيامَةِ (أعمالُ الرُّسُلِ 2: 36) بَعدَ أنِ انتَصَرَ على المَوتِ. ولَم تَكتفِ أليصاباتُ أَنْ تَدعُوَ مَريَمَ أُمَّ الرَّبِّ، بَل تَدعُوها "أُمَّ رَبِّي"، وتَعني بِذلكَ أُمَّ اللهِ الذي خَلَّصَني ونَزَعَ عَنِّي العارَ ورَحِمَني. فهذِهِ البَرَكَةُ التي تَحمِلُها القِدّيسةُ الفائِقَةُ القَداسَةِ مَريَمُ هيَ الثَّمَرَةُ المُبارَكَةُ، وهيَ التي تَجعَلُ مَجيءَ القِدّيسةِ مَريَمَ إلى أليصاباتَ شَرَفًا عَظيمًا لا تَستَحِقُّه أليصاباتُ. فَهَل نُصغي نحنُ لإلهامِ الرُّوحِ القُدُسِ في حَياتِنا؟

 

الجزءُ الثَّالِثُ: "فَطوبى لِمَن آمَنَتْ: فَسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبِّ" (لوقا 1: 45).

 

تابَعَت أليصاباتُ سَلامَها بتحيَّة: "فَطوبى لِمَن آمَنَتْ: فَسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبِّ" (لوقا 1: 45). إذا كان عَمَلُ اللهِ أنْ يُبارِكَ ويُخلِّصَ، فإنَّ عَمَلَ الإنسانِ هو أنْ يُؤمِنَ باللهِ الذي يُبارِكُ ويُخلِّصُ، فيُصبِحَ الإنسانُ مُبارَكًا. وهكذا فإنَّ مَريَمَ العَذْراءَ وَضَعَت ثِقَتَها باللهِ وآمَنَتْ بعملِهِ في حَياتِها، فأصبَحَت مُبارَكةً. والإيمانُ هو دَوْمًا فِعلُ انطِلاقٍ نَحوَ الآخَرِ، هو خُروجٌ مِنَ الوَحدةِ والعُزلةِ والانطِلاقِ؛ إنَّهُ مُختَصَرُ حياةِ مَريَمَ، آمَنَتْ فانطَلَقَت نَحوَ أليصاباتَ في خِدمَتِها ومحبَّتِها.

 

أَجَل، آمَنَت مَريَمُ العَذْراءُ بِبِشارةِ المَلاكِ جِبرائيلَ لها أَنَّها سَتَلِدُ ابنَها يسوعَ بِقُدرَةِ الرُّوحِ القُدُسِ، إذ قالَت: "أَنا أَمَةُ الرَّبِّ، فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لوقا 1: 38). استَحَقَّت مَريَمُ العَذْراءُ الطوبى والسَّعادةَ، لأنَّها آمَنَتْ بِكلامِ اللهِ وعَمِلَت بِهِ. ولا يُشيرُ هذا الكلامُ إلى تَواضُعٍ بقدْرِ ما هوَ كلامُ إيمانٍ وثِقَةٍ ومحبَّةٍ. إنَّ رِسالةَ الإلهِ المُتجسِّدِ في مَريَمَ قد انطَلَقَتْ مِنها. وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ المَجمَعُ الفاتيكانيُّ: "إنَّ المِثالَ الكامِلَ للحياةِ الرُّوحيَّةِ والرَّسوليَّةِ هو الطوباويَّةُ العَذْراءُ مَريَمُ. فإنَّها، وإن عَاشَت حياةً عائليَّةً، قد ظَلَّت على اتِّصالٍ وَثيقٍ بِابنِها، وما زالَت مُشتَرِكَةً بصُورةٍ تامَّةٍ في العَمَلِ الخَلاصِيِّ بِطَريقَةٍ فَريدةٍ" (قَرار مَجمَعيّ في رِسالةِ العِلمانيِّين، 4).

 

تَدعونا زيارةُ مَريَمَ العَذْراءِ إلى الإيمانِ بمَولودِ بَيتَ لَحمَ، ونحنُ لا نُدرِكُه، وأنْ نَراهُ على ضَعفِهِ إلهًا قَديرًا، كما آمَنَت أليصاباتُ، وآمَنَ يوحنَّا وهوَ في أحشاءِ أُمِّهِ. تَدعونا أليصاباتُ إلى اللُّجوءِ بإيمانٍ وتَواضُعٍ وثِقَةٍ إلى اللهِ، وتَدعونا أنْ نَبتَهِجَ بِدُنُوِّ مَريَمَ ويَسوعَ مِنَّا، كما ابتَهَجَت أليصاباتُ وابتهَجَ ابنُها يوحنَّا. إنَّهُ القَديرُ والحَنونُ الذي يَستَجيبُ الدُّعاءَ، ولا يُخيِّبُ الرَّجاءَ، وتَدعونا زيارةُ العَذْراءِ أيضًا أنْ نَنقُلَ إلى النَّاسِ بُشرى يسوعَ كما نَقَلَتْها، وأنْ نَشكُرَ اللهَ على عَظائِمِهِ فينا، كما شَكَرَتْ. وأَخيرًا، تَدعونا لِقاءُ العَذْراءِ مع نَسيبَتِها أليصاباتَ إلى قَبولِ الآخَرينَ والتَّرحيبِ بِهِم، مُتَذَكِّرينَ وَصيَّةَ يَسوعَ: "مَن قَبِلَكُم قَبِلَني أَنا" (متى 10: 40).

 

نَطلُبُ أَخيرًا مِنَ العَذْراءِ أنْ تَزورَنا كما زارَت نَسيبَتَها أليصاباتَ، فَنُحَيِّيها بِتَحيَّةِ المَلاكِ جبرائيلَ وتَحيَّةِ أليصاباتَ وتَحيَّةِ الكَنيسةِ قائِلين: "السَّلامُ لَكِ يا مَريَمَ العَذْراءُ المُمتَلِئَةُ نِعمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ، مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ، ومُبارَكٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ يَسوعُ. يا قِدِّيسَةَ مَريَمَ، يا والِدَةَ اللهِ، صَلِّي لأَجلِنا نَحنُ الخَطأة، الآنَ وفي ساعَةِ مَوتِنا. آمين."

 

 

3) أين تمَّت زيارةُ العذراءِ لنسيبَتِها أليصابات؟ عين كارم؟

 

بِناءً على التَّقاليدِ المُتَواتِرَةِ، فإنَّ زيارةَ العذراءِ إلى أليصاباتَ تمَّت في عينِ كارم. وتُبَيِّنُ السِّجِلَّاتُ العُثمانيَّةُ سَنَةَ 1596 أَنَّ عينَ كارم كانَت قَريَةً مِن ضَواحي القُدسِ، ولم يَتَجاوَزُ عَدَدُ سُكَّانِها 160 نَسَمَةً. وكانَت تُؤدِّي الضَّرائِبَ على عَدَدٍ مِن الغِلالِ والثِّمارِ. وهي إحدى أربعَ عشرةَ قَريَةً مِمَّا يُسمَّى بقرى "بني حَسَن"، أي السُّلطانِ حَسَن سَيِّدِ بني هِلال. لكنَّ بَعضَ الباحِثينَ رَبَطوا مَكانَ الزِّيارةِ في " بيتِ عُيون" في مِنطَقَةِ الخَليلِ التي سَكَنَ فيها يوحنَّا المَعمَدانُ. إلَّا أَنَّ أغلَبَ الباحِثينَ يُركِّزونَ على قَريةِ عينِ كارم.  ومِن هُنا سَنَبحَثُ عَن اسمِ القَريةِ ومَوقعِها وسُكَّانِها ومَعالِمِها الأثريَّةِ.

 

الاسم: اختلفَ الباحِثونَ في أَصلِ الاسمِ؛ حيثُ إنَّ العَرَبَ يُرجِعونَهُ إلى "عينِ المَكارم"، واليهودُ يُرجِعونَهُ إلى "עין כרם"، أي "نَبْعُ الكَرْمِ". وقَد يَرجِعُ الاسمُ إلى أَهمِّ يَنابيعِ المياهِ في القَريةِ "عينِ كارم"، حيثُ أُطلِقَ اسمُها على البَلدةِ. وذَكَرَ الباحِثونَ أَنَّ القَريةَ تَقومُ على مَوقِعِ "بيتِ كار"، بِمَعنى الخِرفانِ، المذكورِ في العَهدِ القَديمِ (1 صموئيل 7: 11).

 

الموقعُ: الجُغرافيُّ: تقَعُ عينُ كارم في سِلسِلَةِ جِبالِ يَهوذا، مِنَ الجِهَةِ الغَربيَّةِ لِمَدينَةِ القُدسِ، على بُعدِ ثَمانيةِ كيلومتراتٍ، وتَبعُدُ كِيلومتِرًا واحِدًا عن قُرى المالحَةِ والجورَةِ والوَلبَةِ. وتُعَدُّ إحْدى ضَواحي مَدينَةِ القُدسِ. كما تَبعُدُ عينُ كارم عَن النَّاصِرَةِ نحوَ 120 كيلومترًا؛ وكانَت تُقطَعُ مَشيًا على الأقدامِ في مُدَّةٍ تَتراوَحُ بينَ أَربَعَةِ أو خَمسَةِ أَيَّامٍ. وتَبلُغُ مِساحَةُ أَراضيها 15029 دونمًا.

 

وعلى الرَّغمِ مِن وُقوعِها في المُرتَفَعاتِ الغَربيَّةِ، فهي مِنطَقَةٌ جَبَلِيَّةٌ مَكسُوَّةٌ بِأَشجارِ السَّروِ والصَّنوبرِ، وبَعضُ الأَراضي المُستوِيَةِ في الشِّمالِ، ولا سيَّما في مِنطَقَةٍ تُدعَى "المَرْج"، وتُستَنبتُ فيها الخُضرَواتُ والأَشجارُ المُثمِرَةُ مثلَ اللَّوزِيَّاتِ والتُّفَّاحِ. وقَد زُرِعَ الزَّيتونُ وسِواهُ مِنَ الأَشجارِ المُثمِرَةِ والكَرْمَةِ على المُنحَدَراتِ الجَبَلِيَّةِ.

 

وَتَرتَفِعُ عينُ كارم عن سَطحِ البَحرِ حَوالي 500 إلى 600 م. يَختَرِقُها وادي أَحمَد مُتَّجِهًا نَحوَ الغَربِ، وتَكثُرُ فيها يَنابيعُ المياهِ، وأَهمُّها عينُ كارم. وتَمتازُ بِمُناخٍ مُعتَدِلٍ، أَمَّا صَيفُها فَهُوَ جافٌّ مُعتَدِلٌ. لِذلِكَ يُعَدُّ مَوقِعُ عينِ كارم مَوقِعًا صِحِّيًّا اهتَمَّ بِهِ البُولونيُّونَ قُبَيلَ الحَربِ العالَميَّةِ الثَّانِيَةِ، وأَنشَأَت إسرائيلُ فيهِ مُستَشفى هَداسا في مَنطَقَةِ بِئْر القَف قُربَ مَنطَقَةِ مَراحِ الهَوا والدَّوامَة.

 

تعدادُ السُّكَّانِ: بَلَغَ في سَنةِ 1596 عَدَدُ السُّكَّانِ العَرَبِ في عَينِ كارم نحوَ 160 نَسَمَةً، بِحَسَبِ السِّجِلَّاتِ العُثمانيَّةِ. وفي سَنةِ 1922 بَلَغَ تِعدادُهُم 1735 نَسَمَةً. أَمَّا في سَنةِ 1931، فَبَلَغَ تِعدادُهُم نحوَ 2637 نَسَمَةً. وفي سَنةِ 1945، بَلَغوا نحوَ 3180 نَسَمَةً، مِن بَينِهِم 2510 مِنَ المُسلِمينَ و670 مِنَ المَسيحيِّينَ. وكانَ السُّكَّانُ يَتَألَّفُونَ مِن خَمسِ حَمائِلَ، لِكُلٍّ مِنها حَوشٌ يَجتَمِعُ فيهِ أَبناءُ الحَمُولَةِ لِلسَّمَرِ والاحتِفالِ بِالمُناسَباتِ الخاصَّةِ.

 

وأَخيرًا، في سَنةِ 1948، بَلَغَ تِعدادُ سُكَّانِها العَرَبِ نحوَ 4000 نَسَمَةٍ. وكانُوا يَعمَلونَ، فَضْلًا عنِ الزِّراعَةِ، في الصِّناعاتِ الحِرَفِيَّةِ وفي صِناعاتٍ خَفيفةٍ أُخرى، كَمَصنَعِ تَعبِئَةِ المياهِ المَعدنيَّةِ الذي كانَ في القَريةِ. أَمَّا اليومَ، فمُعظَمُ سُكَّانِها مِنَ اليَهودِ.

 

عبر التاريخ:

 

بعدَ تَقسيمِ الأَرضِ بينَ أَسباطِ إِسرائيلَ الاثنَي عَشَرَ، سَلَّمَ يَشوعُ قَريةَ عينِ كارم إلى سِبطِ يَهوذا (يَشوع 15: 59). ويُشيرُ سِفرُ إِرميا إلى القَريةِ بِاسْمِ "بيتِ الكَرم" (إِرميا 6: 2). أَمَّا التَّقليدُ المَسيحيُّ، فيَذكُرُ عينَ كارم على أَنَّها مَوطِنُ زكَرِيَّا، وهوَ زَوجُ أليصاباتَ. وزَكَرِيَّا وأليصاباتُ هُما والِدا يُوحَنَّا المَعمَدانِ سابِقِ المَسيحِ. فَكانَ زَكَرِيَّا مِن نَسْلِ هارونَ وسُلالَةِ الأَحْبارِ، وبَينَما كانَ يُحرِقُ البَخورَ في الهَيكلِ، تَرَاءى لهُ مَلاكٌ يُبَشِّرُهُ بِأَنَّ زَوجَتَهُ التي كانَت عاقِرًا سَتَلِدُ ابنًا يُسمِّيه يُوحَنَّا (لوقا 1: 5 -25). يُخبِرُنا الإِنجيلُ أَنَّ المَلاكَ جِبرائيلَ عِندَما بَشَّرَ مَريَمَ العَذْراءَ بِمَولِدِ المَسيحِ، أَعطاها عَلامَةً إِلَهيَّةً أَنَّ أليصاباتَ خالَتَها حَبِلَت بابنٍ في شَيخوخَتِها، لِأَنَّهُ "ما مِن شَيءٍ يُعجِزُ اللهَ" (لوقا 1: 36).

 

يَصِفُ الإِنجيلُ زِيارةَ مَريَمَ لأليصاباتَ في عينِ كارم، لكنَّهُ لَم يَذكُرِ اسمَ القَريةِ. إِلَّا أَنَّ الحَفريّاتِ كَشَفَت هُويَّتَها حَيثُ شُيِّدَت المَزاراتُ: كَنيسَةُ الزِّيارةِ وكَنيسَةُ يُوحَنَّا المَعمَدانِ (لوقا 1: 39 -45).

 

وفي العَصرِ البِيزَنطِيِّ في القَرنِ الخامِسِ، شَيَّدَ البِيزَنطِيُّونَ في القَريةِ مَزارًا تَخليدًا لِذِكرى القِدّيسةِ أليصاباتَ. ويَذكُرُ تَقويمُ القُدسِ أَنَّ المَسيحيّينَ في ذلِكَ العَهدِ كانوا يُنَظِّمونَ حَجًّا سَنَوِيًّا إلى مَزارِ أليصاباتَ في عينِ كارم.

 

أَمَّا في القَرنِ الثَّاني عَشَرَ، فَقَد أَقامَ الصَّليبيّونَ مَزارًا آخَرَ للقِدّيسِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ. وفي أَوائِلِ القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، ذَكَرَ الرَّحّالَةُ البِريطانيُّ جيمس بَكنغهام وُجودَ المَسيحيّينَ في هذِهِ القَريةِ الصَّغيرَةِ، وأَنَّ شَجَرَ الزَّيتونِ يَكثُرُ في الأَودِيَةِ المُتاخِمَةِ لَها.

 

ويُشيرُ كِتابُ "مَسحِ فِلَسطينَ الغَربيَّةِ" إلى أَنَّ مَأوًى روسيًّا كانَ في طَورِ البِناءِ سَنةَ 1882، في أَقصى غَربِيِّ القَريةِ.

ومَع بِدايَةِ القَرنِ العِشرينَ، تَوصَّلَ نَفَرٌ غَيرُ قَليلٍ مِن أَبناءِ هذِهِ القَريةِ إلى احتِلالِ مَناصِبَ بارِزَةٍ، كَالشَّيخِ عيسَى مَنون الذي تَبوَّأَ في الأَزهَرِ الشَّريفِ في مِصرَ مَنصِبَ عَميدِ كُلِّيَّةِ أُصولِ الدِّينِ سَنةَ 1944، وعميدِ كُلِّيَّةِ الشَّريعَةِ في سَنةِ 1946. وقيلَ إِنَّ عينَ كارم كانَت مَقرَّ القِيادَةِ السِّرِّيِّ الذي أَدارَ مِنهُ الزَّعيمُ الفِلَسطينيُّ الشَّهِيرُ عَبدُ القادِرِ الحُسيني عَمَليّاتِهِ أَثناءَ الثَّورَةِ العَرَبِيَّةِ الكُبرَى (1936-1939).

 

وفي عامَ 1948، هَرَبَ بَعضُ سُكَّانِ القَريةِ عَقِبَ مَجزَرَةِ دَير ياسين، التي تَبعُدُ عن عينِ كارم 2.5 كيلومترًا فقط في اتِّجاهِ الشَّمالِ الشَّرقيِّ. وفي نِهايَةِ كانونَ الأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ نَفسِها، استَقَرَّت نَحو 150 عائِلَةً يَهوديَّةً في قَريةِ عينِ كارم، التي باتَت تابِعَةً لِبَلدِيَّةِ القُدسِ الغَربيَّةِ الإِسرائيليَّةِ. وعينُ كارم مِنَ القُرى القَليلَةِ جِدًّا التي سَلِمَت أَبنيَتُها، على الرَّغمِ مِن تَهجِيرِ سُكَّانِها.

 

وفي سَنةِ 1949، أَنشَأَ الإِسرائيليّونَ مُستَعمَرَتَيْ بَيت زَايِت وإيفِن سْبِير على أَراضي القَريةِ. كَما أُنشِئَت فيها في سَنةِ 1950 مَدرَسَةُ عينِ كارم الزِّراعيَّةُ. وضُمَّت أَراضِيها إلى بَلدِيَّةِ القُدسِ الإِسرائيليَّةِ.

وتُعَدُّ عينُ كارم بِفَضلِ أَماكِنِها المُقَدَّسَةِ ومَوقِعِها الصِّحِّيِّ مُنتَجَعًا سِياحِيًّا كَبيرًا ومَحَجًّا لِلزُّوَّارِ مِن جَميعِ أَنحاءِ العالَمِ.

 

الأماكن الأثرية في عين كارم:

 

أهم الأماكن الأثرية في عين كارم هي مزار القديس يوحنا المعمدان ومزار الزيارة.

 

مزار القديس يوحنا المعمدان:

 

يبدو مَزارُ القدّيسِ يوحنا المعمدان، الذي بناه الصليبيّون، كأنّهُ قَلعَةٌ، لكنَّ العربَ حوَّلوهُ بقيادةِ صلاحِ الدّينِ الأيّوبيِّ إلى خانٍ. وفي القرنِ السّابعِ عَشَرَ، استعادهُ المسيحيّونَ ليكونَ مكانًا للعبادة، وشرعَ الآباءُ الفرنسيسكانُ في ترميمِهِ. أمَّا البناءُ الحاليُّ فيعودُ إلى نهايةِ القرنِ الماضي.

 

ويَشاهدُ الزّائرُ في داخلِ الكنيسةِ، في الجهةِ الشّماليّةِ، مَغارةً طبيعيّةً كانت مَسكنًا لزكريّا ومكانَ مَولِدِ يوحنّا المعمدان. وبهذهِ المُناسَبةِ سَبَّحَ زكريّا الرَّبَّ بنشيدِهِ المعروف: «تَبَارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ» (لوقا 1: 67-79).

 

وعُثِرَ أثناءَ التَّرميم تَحْتَ مَدْخَلِ الكنِيسَةِ عَلَى مَزَارٍ يَعُودُ إلى القَرْنِ الخَامِسِ أو السَّادِسِ يَحْتَوي عَلَى قَبْرَيْنِ مِنَ العَهْدِ الرُومَانِيّ مَحْفُورَينِ فِي الصَّخْر. وتَشْهِدُ الكِتَابَةُ اليُونَانِيَةُ المَنْقُوشَةُ عَلَى الفُسَيفَسَاء بِأَنَّ هَذَيْنِ القَبْرَيْنِ يَخْصَّانِ المَسِيحِيِينَ الشُهَدَاء. وفِي القرْنِ السَّابِعِ أو الثَّامِنِ أشَارَتِ العِبادَةُ المَسِيحِيَّةٟ إلى أَنَّ هَذهِ القُبُورِ هي قُبُورُ أطفَالِ بَيْتِ لَحْمَ الشُهَدَاءِ الَذِينَ سَفَكَ هِيرُودُسُ المَلِكُ دِماءَهُم.

 

وبجانبِ هذه الكنيسةِ، اكتُشِفَت كنيسةٌ أُخرى تعودُ إلى عهدِ البيزنطيّين، مبنيّةٌ على مِعصَرةٍ رومانيّة. وقد اكتشفَ الأبُ العلّامةُ سالرُ الفرنسيسكانيُّ (Saller)، أثناءَ التّنقيباتِ تحتَ ساحةِ الكنيسةِ، تمثالًا من المَرمرِ يعودُ لإلهةِ فينوسَ (Venus)، وهي إلهةُ الرّومانيّينَ القديمةُ، التي ارتبطَت منذُ القرنِ الثّاني ق.م بآلهةِ اليونانيّينَ أفروديت، وهي إلهةُ الحُبِّ والجَمالِ والخُصوبةِ عندَ الإغريق. كما ارتبطت برمزيّةِ قدومِ الرّبيعِ وتجديدِ الطّبيعة. وعُثِرَ أيضًا على قِطعةٍ من تمثالٍ تخصُّ أدونيسَ (Adonis)، وهو شخصيّةٌ أُسطوريّةٌ تُعتَبَرُ تجسيدًا لإلهٍ يموتُ ويُبعَثُ من جديد، ما يرمزُ إلى دَورةِ الحياةِ والمَوتِ والخُصوبة. إضافةً إلى مجموعةٍ من الأواني التي تعودُ إلى عهدِ هيرودُس، وُجِدَت في مَغارةٍ قريبة.

 

مَزارُ كنيسةِ الزّيارةِ:

 

قبلَ الوصولِ إلى كنيسةِ الزّيارةِ، يُشاهِدُ الزّائرُ على يَسارِهِ جامعًا مَبنيًّا فوقَ نبعِ ماءٍ. ويَذكُرُ التّقليدُ المسيحيُّ أنَّهُ هناكَ تمَّ اللّقاءُ بينَ سيّدَتِنا مَريمَ العَذراءِ ونسيبَتِها أليصاباتَ، وكانت أليصاباتُ حُبلى في الشَّهرِ السّادسِ.

ومُنذُ القرنِ الرّابعَ عَشَرَ، دُعِيَ هذا المكانُ باسمِ "نَبعِ العَذراءِ"، ويُسمَّى أيضًا "عينَ مَريمَ". وهو مسجدٌ ذو مئذنةٍ، ثمَّ سُمِّيَ المسجدَ العُمَريَّ تَيَمُّنًا بعُمرَ بنِ الخطّابِ، ثاني الخُلفاءِ الرّاشدين.

 

ويُشاهِدُ الزّائرُ في فِناءِ الكنيسةِ نَشيدَ العَذراءِ «تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي» (لوقا 1: 46-55) مَكتوبًا بمُعظمِ لُغاتِ العالَمِ الحَيَّةِ. ويُقسَمُ مَزارُ الزّيارةِ إلى كنيستينِ، الواحِدةِ فَوقَ الأُخرى: الكنيسةِ السُّفلَى والكنيسةِ العُليَا.

 

أ) الكنيسةُ السُّفلَى:

 

تعودُ الكنيسةُ السُّفلَى إلى العَهدِ البِيزَنطيّ، ولمّا جاءَ الصّليبيّونَ في القرنِ الثّاني عشرَ شيّدوا فَوقَها كنيسةً أُخرى. وكَشَفَت الحَفريّاتُ، تحتَ إشرافِ الأبِ الفرنسيسكانيّ، عن مَسكنٍ ودَكاكينَ وقَلعةٍ للحِمايةِ مُحاطَةٍ بالكنيسة. وقد تَحوَّلَت في عامِ 1500 إلى مَساكنَ عربيّةٍ حتّى عامِ 1679، عندما قامَ الآباءُ الفرنسيسكانُ بِشِرائِها.

 

أمّا البناءُ الحاليُّ فقد أَشرَفَ عليهِ المهندسُ أنطونيو بارلوتسي عامَ 1939، مُراعِيًا المُخطَّطَ القَديمَ. وتَحوي الكنيسةُ السُّفلَى مَغارَةً فيها ثلاثةُ رُسومٍ جِداريّةٍ زَيْتيّةٍ تُمَثّلُ مَشْهَدَ الزّيارةِ، ومَشهَدَ أليصاباتَ تُخفي القدّيسَ يُوحنّا من جُنودِ هيرودس، ومَشهَدَ زكريّا الكاهنِ يُبَخّرُ هَيْكَلَ الرَّبِّ.

 

وهُناكَ في أقصَى اليَمينِ يوجد بِئرٌ قَديمةٌ، وصَخرةٌ لَجَأَت إليها أليصاباتُ هَربًا مِن جُنودِ هِيرودُسَ، الّذينَ أرادوا قَتلَ يُوحنّا المَعمَدانِ مَع أطفالِ بَيتِ لَحمَ، وَفقًا لإنجيلِ يعقوبَ المَنحولِ مِن القرنِ الثّاني.

 

ب) الكنيسةُ العُليا:

 

كُرِّسَت الكنيسةُ العُليا لتكريمِ سيّدتِنا مَريمَ العَذراءِ عَبرَ تاريخِ الكنيسة. ويُشاهِدُ الزّائرُ في الصّدرِ فَوقَ الهَيكَلِ، لوحةً فُسَيفسائيّةً تُمثّلُ العَذراءَ مُحاطَةً بقدّيسي السّماءِ ومؤمِني الأرض. وعلى الجُدرانِ الجانبيّةِ، تُوجَدُ خَمسُ لَوحاتٍ جِداريّةٍ زَيْتيّة:

 

اللّوحةُ الأُولى: تُمثّلُ القدّيسَ دون سكوت الفرنسيسكانيّ في مؤتمرِ السوربونِ في باريس، وهو يُدافعُ عن عَقيدةِ "الحَبَلِ بلا دَنَس" (1854)، التي تَنُصُّ على أنّ العَذراءَ مَريمَ وُلِدَت دونَ أن تَرِثَ الخَطيئةَ الأصليّةَ، أي خَطيئةَ آدمَ وحوّاءَ التي وَرِثَها الجِنسُ البَشريّ. وذلكَ ليسَ بِطاقاتِها الذّاتيّةِ، بل باستحقاقاتِ ابنِها يسوعَ المسيح، نَظرًا للمَكانةِ التي سَتحتَلُّها مَريمُ بأن تَكونَ أُمًّا لله. وصفَها لوقا الإنجيليُّ: «الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً» (لوقا 1: 28).

 

اللّوحةُ الثّانية: تُمثّلُ مَعركةَ ليبانت (Lepante)، وكان "ليبانت" مِيناءً عُثمانيًّا في اليونانِ على خليجَي باتراس-قورنتس. وَقَعَت هذِهِ المَعركةُ البَحريّةُ في 7 تشرينَ الأوّلِ عامَ 1571 بينَ العُثمانيّينَ وتَحالُفٍ أُوربّيّ (البابا بيوس الخامس، إسبانيا، البُندقيّة، وبعضُ الدُّويْلاتِ المسيحيّة)، وانتهَت بهزيمةِ العُثمانيّين.

 

اللّوحةُ الثّالِثة: تُصوّرُ عُرسَ قانا الجليلِ (يوحنّا 2: 1-12)، حيثُ حَوَّلَ يسوعُ الماءَ خَمرًا خِلالَ مناسبةِ زواجٍ في قَريةٍ، وذلكَ طَلبًا لأُمّهِ مَريم. وهيَ أُولى مُعجزاتِ يسوعَ المَسيح.

 

اللّوحةُ الرّابِعة: تُصوّرُ حِمايةَ العَذراءِ للكنيسة.

 

اللّوحةُ الخامِسة: تُصوّرُ عَقيدةَ "مَريمَ والِدَةَ الله" (Θεοτόκος)، كما أَعلَنَها مَجمَعُ أفسُس عامَ 431 م. ومَصطَلحُ "مَريمُ والدةُ الله" هو مَصطلحٌ لاهوتيٌّ مَسيحيٌّ يُطلَقُ على السيّدةِ مَريمَ العَذراء. وهوَ مُركّبٌ من كَلِمَتَيْن باليونانيّة: Θεός (الإله) وτόκος (الولادة)، أي "والدةُ الإله. ويُشيرُ هذا المَصطلحُ إلى أنّ مَريمَ العَذراءَ والِدةُ اللهِ حَسَبَ الجَسدِ، وليست والدةَ اللاهوتِ في الله. ولذلك أدانَ مَجمعُ أفسُسَ بُدعَةَ العَقيدةِ النّسطوريّةِ، التي تَدّعي أنّه لا وُجودَ لاتّحادٍ بينَ الطّبيعَتَيْن البشريّةِ والإلهيّةِ في شَخصِ يسوعَ المَسيح، بل تُعتبَرُ صِلتُهُ بالألوهةِ مُجرّدَ صِلَةٍ خارجيّة. فبِحسبِ النّسطوريّةِ، مَريمُ لَم تَلِدْ إلهاً بل إنسانًا فَقط، حَلَّت عليهِ كَلِمةُ اللهِ أثناءَ العِمادِ وفارَقَتهُ عندَ الصّليب. وهذا خِلافًا لِما تُؤمِنُ بِهِ المَسيحيّةُ التّقليديّة، التي تُقِرُّ بوجودِ أقنومِ الكَلِمَةِ المُتجسّدِ ذي الطّبيعَتَيْنِ الإلهيّةِ والبَشريّة. أَضافَ مَجمَعُ أفسُسَ أيضًا القِسمَ الأَخيرَ مِن الصّلاةِ المَشهورَةِ للعَذراءِ في المَسيحيّةِ، وهو: "يا قَديسةَ مَريمَ، يا والدةَ الله، صَلّي لأجلِنا نَحنُ الخطأة، الآنَ وفي ساعةِ مَوتِنا." وهوَ كإقرارٌ مِن آباءِ الكنيسةِ بمُصطلَحِ "والدةِ الله" وبعَقيدةِ شَفاعَةِ العَذراءِ.

 

ويَتَرَنَّمُ المَسيحيّونَ عادةً في هذا المَزارِ بنَشيدِ "تُعَظّمُ نَفسي الرّبَّ" (لوقا 1: 46-56)، الذي يَتَغَنّى بِعَظمةِ مَريمَ وتَواضُعِها لَدى زيارَتِها إلى أليصابات.

 

 

الخلاصة:

 

يَروي الإنجيلُ زيارةَ مَريمَ العَذراءِ لخالتِها أليصاباتَ، والدةِ يوحَنّا المَعمَدانِ في عينِ كارمَ بَعدَ أن حَمَلَت في أَحشائِها المُبارَكةِ السيّدَ المسيح. إنَّ اللّقاءَ بينَ الوالدَتَيْن هو في الواقِعِ بينَ الوَلدَيْن، اللّذَيْنِ هُما في خِدمةِ الرِّسالة. فيوحَنّا يَنالُ الرّوحَ وهوَ في بَطنِ أُمّهِ، كما أَنبأَ المَلاكُ أَباهُ زكريّا: "سيَكونُ عَظيمًا أَمامَ الرّبّ، ولَن يَشرَبَ خَمرًا ولا مُسكِرًا، ويَمتَلِئُ مِنَ الرّوحِ القُدُسِ وهوَ في بَطنِ أُمِّهِ" (لوقا 1: 15). ويوحَنّا يَفتَتِحُ رِسالَتَهُ بِالدَّلالَةِ على المَسيحِ بِلِسانِ أُمّهِ: «مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟» (لوقا 1: 43).

 

إنَّ المَسيحَ لَم يَكُنْ في أَحشائِها المُبارَكةِ لِتُخفيَهُ أو تُحجِبَهُ عن النّاسِ، بل لِتُعطِيَهُ كُلَّ يَومٍ إلى أن يَصِلَ بِها اليَومُ الذي تُعطيهِ فيه العَطاءَ الكامِلَ على الصَّليبِ لخَلاصِ جَميعِ النّاس. ومِن هذا المُنطَلَق، فإنَّ زيارةَ سيّدتِنا مَريمَ العَذراءِ تُعَلِّمُنا أَن نُؤمِنَ بِدَورِنا، وأن نَسيرَ على خُطى العَذراءِ أُمِّنا، وأن نُؤمِنَ بِمَولودِ بَيتِ لَحمَ مُخلّصًا وإِلهًا، وأن نَبتَهِجَ بِدُنُوِّهِ مِنّا، كما ابتَهَجَت مَريمُ العَذراءُ وأليصابات. وأن نَنقُلَهُ إلى النّاسِ بُشرى الخَلاصِ، وأن نَشكُرَ للهِ عَظائِمَهُ فينا، كما شَكَرَت مَريمُ العَذراءُ ونسيبَتُها أليصابات. وبِعِبارَةٍ أُخرى، كَلِمةُ الله سَكَنَت في الإنسانِ وصارَ "ابنَ الإنسان"، ليُمكِّنَ الإنسانَ مِن أَن يُدرِكَ الله، ويَجعَلَ إقَامةَ اللهِ في الإنسانِ أَمرًا مُمكِنًا حَسَبَ رِضَى مَشيئَةِ اللهِ الآب.

 

في زِيارَةِ مَريمَ العَذراءِ لِنسيبَتِها أليصاباتَ نَجِدُ دَعوَتَنا المَسيحيّةَ: يَتَدَخَّلُ اللهُ في حَياتِنا، يَدعُونا، فَنُؤمِنُ ونَقبَلُ الدَّعوَةَ، نَثِقُ باللهِ، ونَضَعُ هذِهِ الدَّعوَةَ في خِدمةِ الآخَرينَ، نَحمِلُ إِلَيهِم كَلِمَةَ اللهِ ونُبَشِّرُ بِها، لا بِالكَلامِ فَقَط، بَل خُصوصًا بِالعَمَلِ، بِالمَحبَّةِ وبالخِدمةِ.

 

نَختَتِمُ بِتَأمُّلٍ مع بَطريركِ القُسطنطينيّة بروكليس (446)، وهوَ يَصِفُ زيارَةَ سيّدتِنا مَريمَ العَذراءِ لأليصابات: "لقد فَهِمتِ يا مَريمُ كيفَ أَنَّ أليصاباتَ أَصبَحَت أُمًّا وهيَ عاقِرٌ في شَيخوخَتِها. اِذهَبي إلى بَيتِ أليصاباتَ فَتَعرِفي أُمَّ مَن أَنتِ! وعِندَما تَشعُرينَ بِابتهاجِ يوحَنّا المَعمَدانِ، سَتَفهَمينَ كَيفَ سَتُطوِّبُكِ جَميعُ الأجيال. وأليصاباتُ العاقِرُ سَتَكتَشِفُ فيكِ، أَنتِ البَتول، ثَمَرَةَ الحَياةِ، يَسوع. تُحَيّيكِ أُمُّ يوحَنّا، وهي مُفعَمَةٌ بِالفَرَحِ، كأُمِّ الرَّبّ. وبهذا تُعلِنُ الخَليقَةُ تَأنُّسَ الخالِقِ، ويُصبِحُ النَّبيُّ (المَعمَدان) رَمزَ السَّيِّد، والمُعمِّدُ رَمزَ المُعمَّد، ومَن وُلِدَ مِن أُمٍّ أَرضيّةٍ رَمزًا لِذاكَ الّذي وُلِدَ مِنَ الآبِ قَبلَ كُلِّ الدُّهور."

 

 

دُعاء

 

أيّها الإلهُ الأزليُّ القدير، الذي أوحيتَ إلى القدّيسةِ مَريمَ البَتول، وهي حامِلٌ بابنِكَ المُتجسّدِ، أن تَخرُجَ إلى زيارَةِ أليصاباتَ وهي حامِلٌ بيوحنّا وتَخدُمَها، اجعَلنا نَهتِفُ بفَرَحٍ مع أليصابات: "طوباكِ يا مَريمُ العَذراءُ، لأنَّ فيكِ تَجسَّدَ يسوعُ المَسيحُ رَبُّنا"، وأن نَبتَهِجَ في حَضرَتِكِ كيوحنّا، فَنَتَقَدَّسَ ويَتَمَجَّدُ بِنا اسمُكَ المُبارَكُ، فَتُعَظّمُكَ نُفوسُنا إلى دَهرِ الدّهرين، آمين.