موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٢

توفي البابا بندكتس.. لكن الكرسيّ ليس شاغرًا

البابا بندكتس السادس عشر والأب رفعت بدر، عمّان 2009

البابا بندكتس السادس عشر والأب رفعت بدر، عمّان 2009

الأب رفعت بدر :

 

هي سابقة في نصوص النعي للحبر الأعظم أن يقال وفاة البابا "السابق" بندكتس السادس عشر، ذلك أنه باستقالته عام 2012 قد أعرب للعالم عن تواضع جم، وعن أمور لم تحصل منذ ما لا يقل عن ستمائة عام، حين أقدم البابا بندكتس على التخلي عن قيادة سفينة القديس بطرس ليسلمها لربان آخر، لذلك فالأمور اليوم في الفاتيكان ليست كما حصل يوم الثاني من نيسان عام 2005، على سبيل المثال، حين توفي البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني، ودخلت الكنيسة يومها بما يسمى بفترة "الكرسي الشاغر" Sede Vacante.

 

ليس الكرسي شاغرًا إذن في هذه المرحلة، وسفينة القديس بطرس ليست بحاجة إلى ربان جديد، ولن يكون هناك ما يسمى بالكونكلاف أو إجراءات انتخاب بابا جديد بعد مراسيم الجنازة، هذا ما صنعه بندكتس السادس عشر في حياته، وهو أمر بطولي سيذكره التاريخ، ذلك أن التخلي عن السلطة ليس بالأمر السهل، وقد رأينا في حياتنا المعاصرة كيف كان التخلي عن السلطة لدى الكثير من البلدان دمويًا، وصاحبه الكثير من التوترات والتقاتلات.

 

إن السلطة الروحية تختلف عن السلطة السياسية مع أن البابا هو رئيس دولة معترف بها في الأمم المتحدة، والتواضع هو السمة الرئيسة لصاحب اي سلطة روحية، والمثل الذي ضربه البابا بندكتس سيبقى في تاريخ الكنيسة مرحلة هامة وسيؤسس للكثير مثلها في المستقبل.

 

نستذكر اليوم هذا البابا الذي انتقل إلى ديار النور، مع آخر يوم من هذه السنة 2022، لنشكر الرب على نعمه وعطاياه التي بعث بها للكنيسة من خلال هذه الشخصية التي عرفت بالحكمة والعلم، ليس فقط بالتحصيل العلمي والتعليم، وإنما بالكتابات التي تعتبر اليوم في الجامعات الكاثوليكية تحديدًا من أهم الوثائق التي تدرس لجميع المساقات اللاهوتية.

 

في الأردن نستذكر زيارة البابا بندكتس السادس عشر عام 2009، حين أمضى لدينا أربعة أيام متواصلة واستقبله جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، وأجرى العديد من الفعاليات التي ما زلنا نعيشها لليوم، وهي: وضع حجر الأساس لكنيسة المعمودية في المغطس، ووضع حجر الأساس للجامعة الأميركية التابعة للبطريركية اللاتينية، وزيارة ومباركة مركز سيدة السلام لذوي الحاجات الخاصة، واللقاء التاريخي مع العلماء المسلمين في مسجد الحسين بن طلال.

 

وفي عام 2010، وكانت الفكرة قد انطلقت من زيارة الأردن والأرض المقدسة وبالأخص كنيسة القيامة والمهد والناصرة، دعا البابا الى سينودس (مجمع عام) عرف بسينودس الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، وحضره جميع أساقفة العالم للتشاور حول المسيحية في الشرق الأوسط، وفي عهد لم تكن فيه قد أتت الكثير من الصعوبات والتحديات والاضطهادات في بعض البلدان للمسيحيين، فكان ذلك السينودوس وهو المجمع العام بمثابة تحذير لما سيحصل وبالأخص في الموصل عام 2014، وكذلك الهجرة للمسيحيين من سوريا، وكذلك التفجيرات التي حصلت في الكثير من كنائس مصر الشقيقة. قال البابا بندكتس في الإرشاد الرسولي الذي وقعه في لبنان في عام 2012: "بأن الشرق الأوسط بدون مسيحيين أو بعدد قليل منهم فقط ليس الشرق الأوسط"، وقال أيضا عن الحرية الدينية بأنها "تاج الحريات كلها".

 

نقرأ هذا الكلام عن المسيحية في الشرق، بعدما حذر الملك عبد الله الثاني قبل أيام من التناقص والصعوبات الجمة والمضايقات التي تحصل للمسيحيين في القدس وفي منطقة الشرق تحديدًا، وقد كان العديد هنالك من التعاون بين حاضرة الفاتيكان والأردن في عهد البابا بندكتس، من أجل الحفاظ على الهوية العربية المسيحية في الشرق الأوسط.

 

نستذكر اليوم هذه الشخصية ونقدّرها جيدًا ونطلب من الرب له الرحمة ونطلب أيضًا العزاء للكنيسة، لقداسة البابا فرنسيس، وهو لربما البابا الأول في التاريخ الذي يترأس جنازة سلفه، والسبب هو تواضع ذلك السلف الذي آثر أن يزهد في السلطات الدنيوية ويسلمها إلى البابا فرنسيس. وعلى مدار السنوات السابقة كان البابا الحالي يعتبر البابا السابق والصامت في مقره في داخل الفاتيكان بأنه الجد الكبير المصلي من أجل الكنيسة، ومن أجل السلام في العالم.

 

رحم الله هذا البابا القديس، وأنعم على الكنيسة برجال دين مخلصين مثله، يقومون بمسؤولياتهم على أكمل وجه، وبالأخص بالتواضع الذي غلف هذه الشخصية التي سيذكرها العالم على مدار العقود والقرون المقبلة، كونه عاش بمحبة كبيرة وحكمة غزيرة وبالأخص بزهد وتواضع جليلين.