موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٣

بين «حارة» أبو عوّاد و«الحارة»

لوحة جدارية (غرافيتي) على جدار أحد شوارع مدينة عمان

لوحة جدارية (غرافيتي) على جدار أحد شوارع مدينة عمان

الاب رفعت بدر :

 

في عام 1981 أذكر عند انتقالنا من السكن من بلدة الوهادنة، شمال الأردن، إلى عمّان، اشترى والدي –رحمه الله- أول جهاز تلفزيون لنا 20 بوصة، وكانت فرحتنا غامرة جدًا بأن نملك تلفزيونًا وإن كان أبيض وأسود، ذلك أنّه في بلدة الوهادنة لم يكن عندنا كهرباء، وعندما انتقلنا إلى عمّان فرحنا لهذه النعمة الكبيرة.

 

كان التلفزيون الأردنيّ هو المسيطر على الساحة، وكانت هنالك القناة الثانيّة، ومن يملك ثمن الشبكة يستطيع أن يأتي بمحطات أخرى تتسلل إلينا من الدول المجاورة. لذلك كنا نحضر الأخبار يوميًا ونشاهد المسلسل الذي يأتي بعد الأخبار، ومن أوائل المسلسلات كان «حارة أبو عوّاد». كم كنّا نسرّ بهذا المسلسل الأردنيّ الاجتماعي، النقدي اللاذع أحيانًا، ولكن في النهاية كنا نسرّ بالكوميديا والمقالب البريئة التي يقوم بها نبيل المشيني «أبو عوّاد»، وبالدروس والعبر التي كان يغدقها علينا في نهاية كل حلقة.

 

كانت «حارة أبو عوّاد» حارة إنسانيّة فيها الطيبة والبساطة والفقر، ولكن كان فيها الاتكال على نعمة الرّب، وتشبه كلّ قرانا العزيزة في ذلك الوقت. وكيف نتذكر الإرشادات والتوجيهات التي كانت تبديها الممثلة أطال الله في عمرها عبير عيسى، وغيرها من الفنانين الذين تسبب المسلسل في شهرتهم، وبالأخص فناننا القدير موسى حجازين «سمعة»، وربيع شهاب وغيرهما...

 

عدت بالذاكرة إلى هذا المسلسل عند مشاهدتي لمسلسل «الحارة» الذي عرض على شاشة نيتفليكس العالميّة، بإنتاج أردني وبدعم من الهيئة الملكيّة للأفلام. هنالك بالطبع فرق زمني شاسع بين «حارة أبو عوّاد» عام 1981 وبين الحارة عام 2023. وهنالك تغيرات جذريّة قد حصلت بين أمس واليوم. ولكننا بعد أربعين سنة ونيّف لم نعد قادرين على أن ننتج الطيبة والألفة بين الناس. في «حارة» أبو عواد كانت الناس تتعلّم القيم الأساسيّة في الحياة، ولا نخرج من أية حلقة من المسلسل دون أن يكون هنالك تفاؤل وأمل ومصالحة وابتسامة يقولها «مع شي غاد» أبو عواد. لكن اليوم، وفيما نحترم طبعًا التطوّر السينمائي والتقني في وسائل الإعلام، حيث الفيلم يركّز على الإبداعات السينمائية والتكنولوجيّة الهائلة، ناهيك عن الترجمة والدبلجة لهذا العمل، فصار هنالك اختلاف كبير ما بين طريقة إنتاج المسلسل في ذلك الزمان «على الأبيض والأسود»، وطريقة إنتاج الأعمال العالميّة التي تتبع تعاليم شركة تجاريّة معينة.

 

لا أنتقد هذا الفيلم من باب أنّه يسلّط الضوء على الآفات الإجتماعيّة، وهي موجودة طبعًا في مجتمعنا كما في مجتمعات العالم. وقد تغيّرت الأحوال من «حارة أبو عوّاد» إلى «الحارة»، لكننا حتمًا نريد أن نسلّم الأجيال المقبلة قبسًا من التفاؤل وضياءً من الأمل. وأن يكون إعلامنا، وأفلامنا ومسلسلاتنا قادرة على إعطاء ومضة من الطيبة والحنان، والدروس البريئة التي كانت «حارة أبو عواد» تقدمها لنا، ولم نجدها مع كل أسف في «الحارة» الحالية التي برز الغائب الأكبر فيها هو جو العائلة الدافئ والمريح والآمن. فالعائلات في فيلم اليوم، تختلف عن مسلسل الأمس، وما عادت أبًا وأمًا وأولاد وبنات. وإنّما هي عصابة وتكتلات وبارات، والكلّ يركّز على البذخ المادي، حتى وإن جاء سرقة أو من عالم الليل المريع. نتألم حقًا من هذه الصور الموجودة في الواقع والمعروضة عبر النتفلكس. لكننا حتمًا نراهن على أنّ الخير ما زال موجودًا، وعلينا أن نعرضه أيضًا في أفلامنا وإنتاجاتنا السينمائية. حتمًا، إنّ جيل اليوم لم يعرف طيبة حارة أبي عوّاد، وعلينا أن نعمل جاهدين لإنقاذ تلك الطيبة.

 

ختامًا، أعود هنا إلى ما قاله البابا فرنسيس في رسالة الإعلام السنويّة الـ57 والتي صدرت قبل أيام، في عيد القديس فرنسيس السالسي، كاتب الطيبة والحنان، الذي أحيا العالم في 28 كانون الأوّل الماضي مرور 400 عام على وفاته، وتميّز بكتاباته الداعية الى الأمل والفرح والرجاء.

 

قال البابا فرنسيس: «لكي نكون قادرين على التواصل وفقًا للحقيقة في المحبة، علينا أن نُنقّي قلوبنا. بالإصغاء والتكلّم بقلب نقيّ فقط يمكننا أن نرى أبعد من المظاهر، وأن نتخطى، حتى في مجال الإعلام، الضوضاء المبهمة التي لا تساعدنا على تمييز التّعقيد الموجود في العالم الذي نعيش فيه».

 

نعم، نعيش في «ضوضاء مبهمة» أحيانًا، لكنّنا بحاجة إلى وضع «بهارات» المحبّة في كلّ ما نعرضه، وبالأخص على الشاشات العالمية.