موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ سبتمبر / أيلول ٢٠١٧
معًا نصلي... من شرم الشيخ إلى سانت كاترين

إميل أمين - خاص أبونا :

على أرض الفيروز.. أرض سيناء الشاهد على الحوار بين السماء والأرض، حيث كلم الله تعالى نبيه موسى، فصار كليم الله، تنطلق في الأيام القليلة القادمة (28-30 سبتمبر ايلول الجاري) تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي أعمال ملتقى الأديان، تحت شعار "هيا نصلي معًا".

يعن لنا أن نتوقف أمام الشعار الجميل الذي يحمل في مضامينه حقيقة مصر الولادة، ونسيجها الاجتماعي، وسبيكتها الحضارية، ففي الوقت الذي تتصاعد فيه موجات العنف والتناحر، وفي زمن الشوفينيات والقوميات والهويات المتقاتلة، كما اشار اليها الاديب اللبناني الفرنسي الكبير امين معروف، وفي اوقات الصدامات العقائدية تحت مظلة "ملاك الحقيقة المطلقة"، وسط هذا كله تخرج من وسط ارض مصر المحروسة دعوة صادقة تشبه الدعاء بأن هذا هو وقت الصلاة معًا.

الملتقى الذي تدعو اليه مصر اتباع الاديان السماوية ستدور احداثه ما بين مدينة شرم الشيخ السياحية الشهيرة بوصفها مدينة للسلام، وبين مدينة سانت كاترين العريقة في رحاب جبل موسى او جبل الطور، حيث تسلم موسى النبي لوحي العهد.

يستلفت النظر ان الرؤية المصرية هنا تستدعي اكثر من معطى معًا، فهي الى جانب اظهار وجه مصر الحضاري وبناءها التكتوني الانساني الحضاري، من مصر الفرعونية فالقبطية مرورا بمصر الاسلامية، الافريقية، البحر متوسطية، مصر ذات المعدة القادرة على هضم كافة الحضارات والثقافات، بجانب هذا كله نرى مصر الخلاقة ايمانيًا منذ اخناتون ودعوته المبكرة للتوحيد والبحث عن الاله الواحد وصولا الى ايمانها بالمسيحية ومن بعد الاسلام، وقد عاشت اليهودية على اراضيها، وما كان رحيل اليهود المصريين الا لاسباب سياسية تتصل باشكالية الصهيونية واحتلال اراضي عربية بالقوة المسلحة وهذه قصة اخرى.

بدعوة مصر ابناء ابراهيم للتلاقي والصلاة معًا، من شرم الشيخ الى سانت كاترين، تؤكد مصر المحروسة انها داعية سلام حقيقي لا منحول، فعوضًا عن ارض سيناء التي شهدت حروب مسلحة واريقت عليها دماء احفاد ابو الاباء، ها هو هناك مجال للتعايش، والتصافح ان لم نقل التعانق. خطوات أولية لا بد منها تجاه الاخر، تزيل الجفاء وتنزع التعالي والكبرياء، خطوات تتيح للاجيال القادمة البناء والنماء والازدهار، انطلاقًا من ان الاديان توحد ولا تفرق، وتشرح ولا تجرح.

والثابت ان فكرة الملتقى التي نحن بصددها تعيد التذكير بطرح قديم كان قد فكر فيه الرئيس الاسبق انور السادات "مجمع الاديان" في وادي الراحة بارض الفيروز.

مبكرًا أدرك الرئيس السادات ان سيناء مهبط الوحي لا يجب ان تكون علامة للخصام، بل ارضًا للسلام، وقد حرص على اقامة استراحية خشبية صغيرة ياوي اليها في بعض ايام العام لا سيما خلال شهر رمضان، وقد ذهب حلمه الى ما هو ابعد بكثير، اي اقامة كنيسة ومسجد وكنيس على تلك الرقعة من ارض الفيروز لتكون شاهدا لامكانية التعايش الانساني لاسيما بين المنادين بالتوحيد، وقد كانت رؤية السادات المستقبلية لمدينة سانت كاترين بنوع خاص هي تحويلها الى مركز عالمي للديانات السماوية الثلاث، وقد انتهى من اعداد دراسة فكرة انشاء مجمع الاديان وتم الانتهاء من اعداد الرسومات الهندسية، لكن يد الغدر غيبت الرئيس السادات، وضاعت الفكرة في وسط زحام الحياة.

والشاهد ان الملتقى الذي سينطلق خلال الايام القليلة القادمة، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان مصر رائدة وستظل في الدعوة للسلام، بوصفه المسار المؤكد للامن والامان، والحدث عينه يذكرنا بمقولة اللاهوتي السويسري الكبير هانز كينج بانه لا سلام بين البشر من دون سلام بين الاديان، وقد شهدت مصر الاسابيع القليلة الماضية نصرًا سلاميًا جديدًا تمثل في احداث مصالحة لا تغيب عن اعين الناظرين بين الفصائل الفلسطينية المتباينة، كمقدمة لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الذي طال.

ولعل الذين تابعوا كلمة الرئيس السيسي من على منصة الجمعية العامة للامم المتحدة الاخيرة، قد توقفوا كثيرا امام دعوته لان يسود الامن المواطن الاسرائيلي وبنفس القدر يتمتع المواطن الفلسطيني بالسلام، دون جور او ظلم، وبلا تهديد او شكوك متبادلة بين الاطراف وبعضها البعض، ما يعني ان مصر كما كانت رائدة في الدعوة للسلام قبل اربعة عقود، ها هي تفعل من جديد.

هيا نصلي معًا، تذكير بما تنطوي عليه الاديان التوحيدية بنوع خاص من اهمية للسلام، اذ في بذرة كل دين من الاديان الثلاثة محتوى ومضمون للسلام لا يمكن انكاره، وربما بات في حاجة الى مسح غبار التشدد والتطرف، التمذهب والتعصب من عليه، وليس مطلوب تماهيًا او بلورة رؤية عقائدية واحدة، او تحويل مسار الواحد الى الاخر قسرًا او طوعًا، ففي الكنائس عبر اقطار العالم باسره، يلتفت المؤمنون بعضهم الى الاخر قائلين: "سلام لك". وانت حين تدلف الى اي متجر او بيت او مسجد في اية بقعة او رقعة من العالم الاسلامي، تلقي التحية القائلة "السلام عليكم" والجواب عليها هو ذاته دومًا "وعليكم السلام".

اما اليهود في اسرائيل فيبدوؤن الحديث ويختتمونه بتحية "شالوم "(سلام) المجردة. كما ان كل واحد من الاديان يعلم اتباعه ان يحيوا الاصدقاء والغرباء بقبول حسن وبذراعين ممدوتين بحرارة.. ان السلام لهو الفاتحة وهو الخاتمة.

تقتضي المصارحة والمصالحة الاعتراف باننا اسرى ثقافتنا بدرجات متفاوتة، كما يلفت زاكري كارابل في مؤلفه الشيق "أهل الكتاب.. التاريخ المنسى لعلاقة الاسلام بالغرب"، ويمكن القول ان الصورة الحالية للعلاقات ما بين اتباع الاديان التوحيدية سلبية بدرجة او باخرى أيضًا، ومن هنا تاتي اهمية مثل هذا الملتقى، الذي يذكرنا بانه عبر قرون طوال كان هناك تعاون فعال وتسامح متبادل وربما صدامات بين ابناء واحفاد خليل الله، لكن رغم ذلك مضت القافلة الانسانية وها هي تتوقف ما بين شرم وسانت كاترين لتنظر الى الامام في امل والى الماضي عبر محاولة التعلم من تجاربه، وتجاوز الاخطاء.

السطور المتواضعة المتقدمة هي مقدمة لحدث كبير وقيم وثمين سوف تشهده ارض الفيروز وسنوالي قراء ابونا بتفاصيله، انها مصر طائر الفينق الذي ينهض من جديد للقيام بدورها الايماني والانساني والحضاري، مصر التي يظنها الناظر انها ماتت فاذ بها تصحو وتطلب من الجبل ان ينقلع ويرمي نفسه في اليم فيطيع طاعة تامة، مصر ارض الوحي ومهبط الايمان، مهما حاولت جماعات الاصولية الظلامية او العلمانية الجافة المسطحة ان توردها موردًا غير الذي سلكه آتون قبل بضعة آلاف من السنين، عبر رحلة البحث الايمانية الحقيقية التي تؤمن بان الانسان هو القضية وان الانسان هو الحل مهما كان من شكله او جنسه، لونه او دينه.

معًا نصلي على الطريق من شرم الشيخ الى سانت كاترين.