موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الثلاثاء، ١٨ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٦
مسيحيو الشرق، شرقيو الغرب!

زيرالدا حداد – الغد الأردنية :

بات هاجس الهجرة لدى مسيحيي الشرق أكثر إلحاحًا مما كان عليه من قبل؛ إذ تكاد لا تخلو أسرة مسيحية من أفراد هاجروا للغرب، بينما ينتظر باقي أعضاء الأسرة اللحاق بهم. ووفق إحصاءات تبناها المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام، فإن نسبة المسيحيين في الشرق الأوسط العام 1914 بلغت 15% من عدد السكان الإجمالي، أما اليوم فهي لا تتعدى 4%، عداك عن بعض الهجرات القسرية في العراق والشام. فما الذي يحدث؟

قد يقول قائل إن حالهم حال ما يحدث للجميع؛ إذ إن كل أطياف المجتمع يعانون تحت وطأة الإرهاب والفساد، ويكتوون بغلاء الأسعار وتفشي البطالة، بل وحتى سُنّة العراق وسورية يتعرضون لتهجير ممنهج في محاولة لإعادة رسم الخريطة الديموغرافية في المنطقة. وهذه جميعها أسباب منطقية قد تساهم في هجرة المسيحيين أيضًا، والتي تبدو أوسع نطاقًا مقارنة بنسبتهم المتواضعة أصلا.

لكن عاملا لا يقل أهمية عن تلك العوامل بات يشكل اليوم محركًا رئيسًا لهجرة مسيحيي الشرق وأقلياته الدينية الأخرى على حد سواء. إذ عاد هاجس "الهوية" يطفو على السطح من جديد، في ظل تأرجح الهوية المدنية الشاملة، خصوصًا أثناء مخاض عسير جاء به "الربيع العربي".

فلطالما شكلت الهوية وعاء متكاملا للسمات الإثنية والدينية والثقافية والوطنية، ووفرت بالتالي حجر زاوية ترتكز عليه الشعوب، وصمام أمان، محددة فردية الشخص وعلاقته مع الجماعات من خلال سمات ديناميكية متغيرة.

مما لا شك فيه أن هجرة المسيحيين المتزايدة باتت تحمل في ثناياها هاجسًا وجوديًا ورحلة بحث عن هوية أوسع شمولية، آملين بالنزوح من خانة "الأقلية الدينية" إلى جزء لا يتجزأ من وجودية الوطن، كحال النهضة الثقافية التي قام بها العرب أواخر الحكم العثماني، والتي شكل فيها مفهوم الهوية الشامل دورًا أساسيًا في نهضة المجتمع، ولعب فيها أيضًا المسيحيون العرب دورًا مهمًا في مواجهة سياسة التتريك، وفي سبيل تطوير الحضارة والثقافة العربيتين.

اليوم، يرحل مسيحيو الشرق إلى الغرب، ويرحل في حقائبهم عبق الشرق بأطيافه وألوانه. كما ترحل روحه في وجدانهم؛ فتراهم يشكلون مجتمعات خاصة بهم محافظة على عادات وقيم أجدادهم، حتى لو اصطدمت في بعض أوجهها بالثقافة الغربية؛ فيأكلون ما نأكل، ويتألمون لما نتألم، ويضحكون لما نضحك، ومع كل ولادة طفل جديد تعود الملامح الشرقية لتفرض نفسها من جديد شاهدة على هوية لكنها إثنية هذه المرة، تلاحق أقدارهم أينما رحلوا!

وكما قال جبران خليل جبران في كتاب "العواصف": "أنا غريب وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة غير أنها تجعلني أفكر أبدًا بوطن سحري لا أعرفه".