موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الجمعة، ٣ يوليو / تموز ٢٠١٥
ما هو الموقع الخالد الذي زاره اربعة بابوات في 50 سنة ؟

بقلم المطران سليم الصايغ :

بمناسبة اعلان المغطس ضمن لائحة المواقع التراثية الانسانية الخالدة، يطيب لنا في موقع ابونا، أن ننشر المقال التالي ، من كتاب المطران سليم الصايغ، حول الاثار المسيحية في الاردن، وبالاخص الفصل الذي يتحدث فيه عن موقع ألمعمودية - المغطس، وهو الموقع الذي زاره اربعة بابوات في فترة الخمسين سنة الماضية .
.
مكان المعمودية

كانت الأماكن التي تقدست بحضور المسيح، محط تكريم المسيحيين منذ العهد الرسولي. وكان رسل المسيح وتلاميذه الأدلاء الأُوَل الذين كانوا يرشدون التلاميذ الجدد إلى الأماكن المسيحية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ألم تكن الجلجلة هناك حدثاً عاماً ملموساً، معروفاً لأهل المدينة ولكل من يعرف المدينة، "بالقرب من الطريق" (مرقس 15: 29) على مرأى من كل العابرين؟ والقبر الذي وُضِع فيه يسوع ألم يكن هناك في البستان المجاور؟ ومريم أم يسوع ألم تكن هناك لترشدهم إلى مكان ولادة المسيح؟ والأماكن حيث كان يوحنا يُعمّد ألم تكن معروفة من قِبَل الآلاف الذين تعمدوا منه، وكثيرون منهم آمنوا وأصبحوا تلاميذ المسيح القائم من القبر؟

المسيحيون أبناء الأرض المقدسة، يعتبرون أنفسهم ورثة الإيمان المسيحي، ويحتفظون بذكرى الأنبياء، ويحافظون على الأماكن المقدسة حيث تم التجسد والفداء، وحيث كرز وعمّد يوحنا المعمدان. وكانوا أدلاء لإخوتهم في الإيمان الذين كانوا يأتون من بعيد، لزيارة الأماكن المقدسة. وبالنسبة لهم، كان نهر الأردن، وبيت عنيا عبر الأردن، ومكان صعود إيليا إلى السماء في العاصفة، والقدس، وبيت لحم، والناصرة، كانت أماكن مقدسة، موضوع تأمل وتعبّد. وكان المسيحيون يأتون في رحلات حج إلى هذه الأماكن الرائعة، ليعيشوا روحيا تاريخ إيمانهم، ويستحمون في الأردن.

بعد استيلاء تيطس على القدس، أمر بنصب تمثال للإله فينوس على الجلجلة، وتمثال لجوبتير على القبر المقدس، وتمثال لادونيس على مغارة الميلاد في بيت لحم. هذه الرجاسات منعت المسيحيين من القيام بالحج، ولكن موقع الأماكن المقدسة بقي مُسلّمة تاريخية.

ومع الإمبراطور قسطنطين وأمه القديسة هيلانة، تم تشييد بناء مستدير مقبب فوق القبر المقدس، وكاتدرائية كبيرة إلى الشرق من البناء المستدير المقبب. وأما الجلجلة فتُركت في الهواء الطلق. وأقيمت كاتدرائية فوق مغارة بيت لحم، وأخرى على جبل الزيتون. ومنذ ذلك الوقت، اكتظت ضفتا الأردن بالكنائس والأديرة وتكاثر النساك، لاسيما في الجانب الشرقي من النهر، بالقرب من نبع وادي الخرار (سفساطة وفقاً لخارطة مادبا).

من المستحيل تحديد مكان معمودية المسيح بالضبط، ولكن بالاعتماد على معطيات الإنجيل والتقليد المسيحي، نستنتج ما يلي:

- ورد في إنجيل متى 3: 5-6 أن المسيح اعتمد من يوحنا المعمدان. وأكد لوقا قائلاً: "وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل، واعتمد من يوحنا في الأردن" (لوقا 1: 9). وللوقت إذ صعد من الماء رأى السماوات قد انفتحت، والروح مثل حمامة، قد نزل واستقر عليه. وكان صوت من السماء قائلاً: "أنت ابني الحبيب بك سررت" (لوقا 1: 10-11).

- هذه الروايات، مع ذلك، تترك فضوليتنا تتضور جوعاً. فمنذ الأجيال الأولى تساءل المسيحيون في أي مكان من النهر اعتمد يسوع؟ وفقاً لتقليد العهد الرسولي، يوحنا عمد يسوع في الأردن، عند المكان الذي فيه يلتقي الطريق الروماني المنحدر من أورشليم بالنهر، ويصل إلى مدن شرقي النهر أي إلى ليفياس، وحسبان ومادبا وربة عمون، والقرى المجاورة. ففي هذا المكان كان يوحنا يعمد. ومن هذا المكان اجتاز العبرانيون النهر إلى أريحا، بقيادة يشوع بن نون.

- إن الآثار المكتشفة في هذه الأماكن، تثبت أن المسحيين بعد حقبة الاضطهادات، إحياء لذكرى معمودية المسيح، شيدوا كنائس وأديرة على الضفة الشرقية للنهر، قُرب المخاضة حيث اعتمد يسوع. وفي الوقت الحاضر يمكن رؤية آثار ثلاث كنائس على بُعد مائة متر من النهر، وعلى مسافة كيلومتر من تل النبي إيليا. لقد لحقت الأضرار الجسيمة بالكنيسة الأولى التي أقيمت على الضفة الشرقية للنهر، من جراء الفيضانات. وحوالي نهاية القرن الخامس أمر الإمبراطور أنسطازيوس الأول (491-518) بتشييد كنيسة أقيمت على قناطر، تفادياً للفيضانات. من هذه الكنيسة يستطيع المرء أن ينزل بواسطة الأدراج إلى النهر للاستحمام، وأخذ الماء للذكرى. ونصب هذا الامبراطور أيضاً صليباً كبيراً في وسط النهر. وكشفت حفريات حديثة عن آثار هذه الكنيسة، بالإضافة إلى كنيستين أخريين تقعان إلى الشرق من النهر. وفيما بعد، تابع الإمبراطور يوستينانوس (527-565) باهتمام بالغ ترميم الكنيسة.

شهادة الحجاج

إن التسهيلات التي يجدها مسافرو اليوم، لم تكن معروفة في قديم الزمان. وكان الحج المسيحي يُعتبر دائماً زمناً مؤاتياً بامتياز، للصلاة والتوبة. فالحاج يكتشف الكتاب المقدس، بأبعاده الجغرافية والتاريخية. و"كلمة الله"، "يسوع، الإله المتأنس" يصبح له، رفيق حياة أكثر حضوراً. ويعود الحاج إلى بيته حاملاً نعمة خاصة، نعمة الأماكن المقدسة.

إهتم المسيحيون بشكل خاص بالأماكن المقدسة الواقعة بالقرب من مخاضة المعمودية، تخليداً لذكرى عبور الشعب العبراني ودخوله إلى أرض الميعاد، ولذكرى معمودية المسيح، وصعود النبي إيليا في العاصفة. وترك لنا بعض الحجاج وصفاً لحجهم، نورد فيما يلي بعض هذه الشهادات:

- في القرن الثالث، شرعت المسيحية بالإهتمام علمياً بالأماكن المقدسة. اورجينوس (185-253) مُفسّر الكتاب المقدس واللاهوتي الشهير، المولود في الإسكندرية، قَدِم إلى فلسطين، ليطلع على الأماكن المقدسة، ويتابع خطوة خطوة المسيح والأنبياء. ولكنه خلط بين بلدة "بيت عنيا" عبر الأردن وبلدة "بيت عبارا" اللتين كانتا قريتين في موضعين يختلف أحدهما عن الآخر. وجود أحداهما لا يعني نفى الأخرى. وقد يكون موقع بلدة "بيت عبارا" على الجانب الغربي من الأردن. وبمواجهتها على الجانب الشرقي للنهر، كانت تقع "بيت عنيا عبر الأردن" قريباً جداً من وادي الخرار.

- في نهاية القرن الثالث وبداية الرابع للميلاد، لم يكتف المؤرخ الكنسي الشهير اوسابيوس القيصري (265-340) بكتابة "تاريخ الكنيسة"، بل دوّن أيضاً بكتابه Onomasticon أسماء أماكن الكتاب المقدس. فكتابه هذا، هو فهرس لهذه الأسماء التي رتبها بحسب الحروف الهجائية وبحسب أسفار الكتاب المقدس. ومما لا شك فيه أن مصممي خارطة مادبا الفسيفسائية كانوا مطلعين عليه ومتأثرين به جداً.

- يروي أوسابيوس القيصري أن ألاسقف ملتينوس من سردينيا، كتب في القرن الثاني للميلاد يقول: "توجهت إلى الشرق، وزرت الأماكن المذكورة في الكتاب المقدس. وهكذا أصبح كل شيء واضحاً لي، باكتشافي معناه الحقيقي". ويروي أيضاً أنه في بداية القرن الذي عاش فيه، حالما توقفت الاضطهادات، طالب المسيحيون بأماكنهم المقدسة المرتبطة بذكرى المسيح، ولاسيما بالأماكن التي في القدس، وبيت لحم، ومخاضة الأردن حيث اعتمد يسوع. وقد اختار المؤمنون المسيحيون هذا المكان ليعتمدوا فيه. فالكثيرون من المنضمين الجدد إلى المسيحية كانوا يأتون ليعتمدوا في الأردن، وكثيرون من المسيحيين كانوا يأتون ليغطسوا فيه إحياء لذكرى المسيح الذي اعتمد على يد يوحنا المعمدان في هذا المكان بالذات.

- في القرن الرابع، جاء يحج إلى الأماكن المقدسة رجل مثقف من مدينة بوردو في فرنسا، لم يُفصح عن اسمه، ولكنه ترك لنا رواية الحج الذي قام به بعنوان: "الطريق من نهر الغارون إلى القدس"، لاستعمال حجاج بلاد فرنسا. ولهذا الدليل الديني والسياحي قيمة لا تثمن. وقد حضر هذا الحاج تدشين كاتدرائية القبر المقدس عام 333 للميلاد، وزار مكان معمودية المسيح في مخاضة الأردن.

- الحاجة ايجيريا، سيدة اسبانية من القرن الرابع للميلاد، زارت الأماكن المقدسة عام 381 ووصلت إلى القدس في عيد فصح عام 381 وعادت إلى بلادها في اليوم التالي لعيد الفصح عام 384. خلال هذه السنوات الثلاث زارت الأماكن المقدسة الموجودة في سائر الأراضي المقدسة.

- القديس ايرونيموس (347-420) قرر أن يعيش حياة نسكية في فلسطين. وقد ابتدأ بزيارة الأماكن المقدسة في القدس، ومواقع نهر الأردن بالقرب من أريحا. كان يؤكد في كتاباته، أن في نهاية القرن الرابع، كان الكثيرون من الحجاج يأتون لزيارة الأماكن المقدسة، من الهند، الحبشة، إيطاليا، فرنسا، بريطانيا، اسبانيا والبرتغال.

- يذكر الحاج ثويودوسيوس، من القرن السادس وحجاج آخرون غيره، مكان معمودية المسيح، ويقولون أنه على بُعد خمسة كيلومترات إلى الشمال من البحر الميت. ويذكرون أيضاً التلة الصغيرة الواقعة شرقي النهر، بالقرب من مكان معمودية يسوع، والتي صعد منها إيليا النبي إلى السماء في العاصفة. ويذكر ثويودوسيوس أيضاً الكنيسة التي شادها الإمبراطور انسطاس الأول على قناطر، تفادياً للانجرافات التي تُسببها فيضانات النهر خلال فصل الشتاء. فالفيضانات ألحقت أضراراً جسيمة بكنائس بنيت سابقاً. ويذكر حجاج آخرون أيضاً العامود الذي يعلوه صليب والذي كان قائماً في وسط النهر.

- حاج من مدينة بياشنسا الايطالية، في عام 570 وبمعية مجموعة من المواطنين قام بزيارة للأماكن المقدسة، وترك لنا عنها بيان رحلته. لقد ابتدأ بزيارة الأماكن المقدسة في الجليل والسامرة. ثم انحدر إلى الأردن، إلى مكان معمودية المسيح. وبعدها صعد إلى القدس. ويقول إن مكان المعمودية يقع قبالة دير القديس يوحنا: "دير القديس يوحنا كان مبنياً على صخرة بالقرب من الكنيسة الصغيرة المقامة في المكان الذي دخل منه يسوع في النهر". كذلك ذكر الايقومين دانيال كنيسة الجلجال، حيث كان يشاهد الحجاج الاثني عشر حجراً التي وضعها العبرانيون عند عبورهم الأردن.

- إلى هذه الأماكن، جاءت الخاطئة التائبة مريم المصرية، لتعيش ما تبقى من حياتها في الصمت والتعبد، ولتستمتع بالسلام مع الله ومع نفسها. كان يأتي إلى المكان حجاج من الغرب ومن الشرق. فكان حجاج الشرق يأتون من الحبشة والهند وبلاد بين النهرين... الخ مارّين بمدينة مادبا. ومنذ القرن السادس كانوا يشاهدون على الخارطة الفسيفسائية سائر الأرض المقدسة، قبل أن يتوجهوا إلى جبل نيبو وينحدروا نحو الأردن، لزيارة الأماكن المقدسة، في مخاضة المعمودية، في طريقهم إلى أريحا والقدس.

- بعد الفتح الإسلامي تمكن المسيحيون المواطنون من مواصلة حياتهم والحج إلى أماكنهم المقدسة. إلا أن الحج من خارج البلاد أخذ بالتناقص. ولكنه لم ينقطع. وعلى سبيل المثال، في نهاية القرن السابع تمت رحلة حج للقديس ارنول. وقد وصف كاتدرائية القبر المقدس المستديرة الشكل. وفي بداية القرن التاسع، أمر الخليفة هارون الرشيد ببناء نزل للحجاج، في مكان يقع إلى الشمال من آثار هيكل سليمان.

- عام 1044 جاء ريشارد، رئيس دير القديس فكتور، إلى القدس على رأس مجموعة قوامها ستمائة حاج، وذلك على نفقة ريشارد الثاني، دوق النورماندي. وبعد عشر سنوات، أي عام 1054 شرع 3000 شخص برحلة حج بإشراف أسقف كامبري في فرنسا، ولكنهم فور وصولهم إلى اللاذقية قرروا العودة إلى بلادهم، ولم يتمكنوا من الوصول إلى القدس، لأنه تناهى إلى مسامعهم أن الخليفة منع المسيحيين الأجانب من زيارة القبر المقدس.

- عام 1064 قصد الأماكن المقدسة 7000 حاج بقيادة رئيس أساقفة ماينس وأساقفة كل من اوترخت ورمبر ودانسيون. فشل رحلة الحج عام 1054 لم يثنهم عن عزمهم. ولكن لدى وصولهم إلى الرملة هاجمهم إثنا عشر ألف من المسلمين. فاستبسلوا في رد هذا الهجوم ونجحوا في دخول المدينة المقدسة بعد أن سقط منهم ما يقارب 3000 في المعركة. وعاد الناجون إلى بلادهم على ظهر سفن من مدينة جينوى الايطالية. ومع سقوط القدس في أيدي الصليبيين استؤنفت رحلات الحج بشكل متزايد. وبعدما استعاد صلاح الدين المدينة عام 1187 تناقص الحج، ولكنه لم ينقطع نهائياً.

النتيجة الأولى والأهم التي نستطيع استخلاصها من شهادات وكتابات الحجاج، هي أنه منذ العصور الغابرة، أصبحت زيارة هذه الأماكن المقدسة والاعتماد في الأردن والمغطس، وتجديد مواعيد المعمودية، أصبحت جزءاً لا يجزأ من شعائر العبادة لدى الشعب المسيحي وأمست هذه الممارسات الدينية تقاليد يقومون بها لاسيما بمناسبة عيد الظهور (الغطاس) وعماد المسيح. وكانت رتبة الاحتفال الديني تتضمن تغطيس الصليب في مياه الأردن.

وينبغي أيضاً أن نميز جيداً بين الأحداث التي جرت على ضفة الأردن، وتلك التي تمت في منطقة وادي الخرار. فعلى ضفة الأردن نحيي ذكرى معمودية المسيح وعبور الشعب العبراني إلى أرض الميعاد. وأما بالقرب من نبع وادي الخرار، وعلى تلة النبي إيليا فنحيي صعود إيليا إلى السماء في العاصفة. وبالقرب من تلك التلة، توجد أيضاً مغارة يوحنا المعمدان. وفي هذه المنطقة ذاتها، لا تزال بيت عنيا عبر الأردن، قابعة تحت الرمال.