موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٩ يناير / كانون الثاني ٢٠١٨
لا يتوقع شعب الله منا أن نكون خارقي القوى، إنما رعاة رحمة

بقلم: أندريا تورنيلي ، ترجمة: منير بيوك :

"لا يتوقع شعب الله منا أن نكون خارقي القوى، كما أنه لا يريدنا أن نكون كذلك. هذا ما يتوقعونه من الرعاة والمكرسين؛ أن نكون رحماء". بهذا الكلام، سطّر البابا فرنسيس أجمل تأملاته في حبريته، أمام صورة أمنا مريم التي وضعت بجوار مذبح كاتدرائية سانتياغو دي تشيلي. فأمام الكهنة والرهبان والراهبات، قدم البابا أفكارًا تصف الرسالة والعلاقة مع الحداثة التي تصلح لكل مسيحي.

وذكّر البابا فرنسيس ثلاث لحظات مهمة في حياة بطرس: عندما كان محبطًا بسبب موت يسوع، وعندما نال المغفرة، وعندما تغيّر. إنها ثلاث لحظات كان يشاركها مع الجماعة المسيحية الأولى، موضحًا لأن "حياة الرسل كان لها دائمًا بعدين مزدوجين، هما الشخصية والجماعية. فهما يسيران جنبًا إلى جنب، ولا نستطيع فصلهما، فإننا مدعوون بشكل شخصي ولكن دائمًا كجزء من جماعة كبيرة. فحيثما يتعلق الأمر بالدعوة، فليس هناك شيء مثل صورة شخصية! تطالب الدعوة بأن يقوم شخص ما بأخذ صورتك، وهذا هو ما نحن على وشك القيام به".

ثم يوصف بيرغوليو ضياع التلاميذ وفقدانهم بعد حادثة الصلب. "لقد أنكره بطرس؛ خانه يهوذا، والآخرون هربوا واختبأوا. لم يبق سوى بضعة من النساء والتلاميذ المحبين. في حين انصرف الباقون. ففي غضون أيام إنهار كل شيء". هناك أوقات "عندما تثور عاصفة الاضطهادات، والمحن، والشكوك، وغيرها، التي تسببها الأحداث الثقافية والتاريخية، فلا يكون من السهل العثور على الطريق الواجب إتباعه. ولتلك الأوقات تجاربها الخاصة: تجربة مناقشة الأفكار، تجنب المسألة القائمة، وأن تكون معني جدًا مع أعدائنا... وأعتقد أن أسوأ تجربة للجميع هو الحفاظ على مسكننا رغم تعاستنا. نعم، السكنى مع تعاستنا".

ويربط البابا هذه اللحظة بالاضطرابات وحالة الإنشقاق المتعلقة بفضيحة البيدوفيليا الإكليريكية في تشيلي ويقول: "أنني أعرف الألم الناجم عن حالات الإساءة إلى القصّر، وأنا مدرك لما تفعلونه كردة فعل لهذا الشر العظيم والمؤلم. إنه مؤلم بسبب الضرر والمعاناة التي يسببها للضحايا ولأسرهم الذين رأوا أن الثقة التي وضعوها في كهنة الكنيسة لم تكن في محلها. كم هم مؤلم جدًا أن تقع معاناة للمجتمعات الكنسية، ولكنها أيضًا مؤلمة لكم أيها الأخوة والأخوات". ويضيف: "أنني مدرك أنكم قد تعرضتم في بعض الأحيان للإهانة في القطارات أو أثناء السير في الشارع، وإنكم تدفعون ثمنًا باهظًا عندما تظهرون باللباس الكهنوتي في العديد من الأماكن. ولهذا السبب، أقترح أن نطلب من الله أن يمنحنا الرؤية الواضحة لأن ندعو الواقع باسمه، والقوة للسعي إلى الغفران، والقدرة على الاستماع إلى ما يخبرنا به".

ثم تحدث فرنسيس عن مجتمعاتنا سريعة التغير. قال: "لقد ولدت أشكال ثقافية جديدة ومختلفة لا تتناسب مع أنماطنا المألوفة. وعلينا أن ندرك أنه في كثير من الأحيان لا نعرف كيف نتعامل مع هذه المواقف الجديده. وأحيانا نحلم ’باماكن الترفيه في مصر‘ وننسى أن الأرض الموعودة أمامنا، وأن الوعد لا يعود للأمس بل للغد". وهنا "يمكننا أن نستسلم للتجربة بأن نكون منغلقين، وأن نعزل أنفسنا، وأن ندافع عن طرقنا في رؤية الأشياء التي تتحول بعد ذلك إلى ما هو أكثر من مجرد مناجاة فردية دقيقة. يمكننا أن نقع في التجربة بأن نعتقد أن كل شيء خاطئ، وبدلاً من "الخبر السار"، فإن الشيء الوحيد الذي نعتبره هو اللامبالاة وخيبة الأمل". بالإمكان العثور على هذا الموقف في أجزاء مختلفة من العالم، بخاصة في الغرب، حيث ينتشر التشاؤم نحو الحداثة ويصيب بعض المسيحيين بالعقم. "ونتيجة لذلك، أغلقنا أعيننا عن التحديات الرعوية، وعن التفكير بأنه ليس للروح القدس ما يقوله عنهم. وبهذه الطريقة، ننسى أن الإنجيل هو رحلة التحول، ليس فقط ’للآخرين‘ وإنما لأنفسنا أيضًا". سواء أحببنا ذلك أم لا، فنحن مدعوون لمواجهة الواقع كما هو.

ثم تحدث فرنسيس عن مغفرة بطرس. "لقد حان الوقت لأن يواجه بطرس جزءًا من نفسه. إنه الجزء منه الذي لم يرغب في رؤيته مرات عديدة. فقد عانى من قيوده، ومن ضعفه، ومن خطيئته. فيجب على بطرس، صاحب المزاج المتقلب، والزعيم المندفع والمخلص، والمكتفي ذاتيًا، وذو الثقة المفرطة بنفسه وبإمكانياته، أن يعترف بضعفه وبخطيئته. لقد كان خاطئًا مثل أي شخص آخر، ومحتاجًا كما الآخرين، وضعيفًا مثل أي شخص آخر. فقد خيب بطرس أمل الشخص الذي وعده بالحماية. إنها لحظة حاسمة في حياة بطرس.

يضيف بيرغوليو قائلاً: "قد يكون لنا نفس التجربة كتلاميذ وككنيسة. هناك لحظات لا بد لنا من مواجهة ليس نجاحنا وإنما ضعفنا. إنها اللحظات الحاسمة في حياة التلميذ، ولكنها أيضًا الأوقات التي يولد فيها رسول. لنسمح للنص أن يرشدنا". ويقول الحبر الأعظم: "لكن يسوع، يسأل بطرس إذا كان يحبه، كما أن يسوع لا يوبخه ولا يدينه. فالشيء الوحيد الذي يريد القيام به هو إنقاذ بطرس. إنه يريد إنقاذه من خطر البقاء منغلقًا على نفسه في خطيئته، ومن الإستمرار نادمًا على ضعفه... يريد يسوع انقاذه من التركيز على الذات ومن العزلة. فهو يريد أن ينقذه من الموقف المدمر في أن يصير ضحية أو في التفكير في ’ما يهم‘، مما يزيل أي التزام وينتهي في أسوأ نوع من النسبية".

"يريد يسوع أن لا يحرره من رؤية خصومه كأعداء ومن أن ينزعج من المعارضة والنقد. فهو يريد أن يحرره من الكآبة، وقبل كل شيء من السلبية. فبهذا السؤال، يطلب يسوع من بطرس أن يستمع إلى قلبه ويتبين الأمر. ما الذي يؤكد رسولية بطرس؟ ما الذي يبقينا رسلاً؟". سأل البابا نفسه، وأجاب: "هناك شيء واحد فقط. "لقد حصلنا على الرحمة... فقد نظر يسوع إلينا واقترب منا. لقد أعطانا يده وأظهر لنا الرحمة".

وواصل فرنسيس حديثه الذي وجهه إلى الكنيسة التشيلية قائلا: "نحن لسنا هنا لأننا أفضل من الآخرين. نحن لسنا أبطال خارقين ينحدرون من المرتفعات لمواجهة الأحياء فقط. نحن بالأحرى رجال ونساء مرسلون وواعون من أننا قد حصلنا على المغفرة. هذا هو مصدر فرحتنا. وكما أن "يسوع المسيح لا يظهر لتلاميذه من دون جراحه" فإن خاصته مدعوة أيضًا ’لعدم إخفاء‘ جراحهم. ويوضح بيرغوليو: "تستطيع الكنيسة الجريحة أن تفهم جروح عالم اليوم وتجعلها جراحها، وتعاني معهم، وترافقهم، وتسعى إلى شفائهم. الكنيسة الجريحة لا تجعل نفسها مركز الأشياء، لا تعتقد أنها مثالية، وإنما تضع في المركز من يستطيع أن يلأم تلك الجروح، واسمه يسوع المسيح".

"إن المعرفة بأننا جرحى تحررنا. نعم، إنها تحررنا بصورة مجانية من المرجعية الذاتية والتفكير بأننا متفوقون. فهو يضعنا بعيدًا عن الميول الإندفاعية "لأولئك الذين يثقون في نهاية المطاف فقط بسلطانهم الخاص ويشعرون بالتفوق على الآخرين لأنهم يلتزمون بقواعد معينة أو يظلون مخلصين إلى أسلوب كاثوليكي معين يعود إلى الماضي".

وكرر فرنسيس قوله بأنه في يسوع ارتفعت جروحنا. إن جروحنا هي التي ارتفعت. فهي تلهم التضامن. أنها تساعدنا على هدم الجدران التي تحاصرنا في النخبوية وتدفعنا لبناء الجسور ومواجهة كل أولئك يتوقون إلى هذا الحب الرحيم الذي يستطيع المسيح وحده أن يمنحه. "كم مرة نحلم بمشاريع رسولية هائلة مخطط لها بدقة، تمامًا مثل الحال مع الجنرالات المهزومين! ولكن هذا هو إنكار لتاريخنا المجيد ككنيسة لأنه تاريخ من التضحية، ومن الآمال، ومن الصراعات اليومية، من حياة نقضيها بالخدمة". فالبابا لا يتنحى جانبًا عن التعبير عن قلقه لأن هناك "مجتمعات مهتمة بصورة أكبر بشكلها، وباحتلال مساحات، وبالمظاهر والشهرة من الخروج للمس معاناة شعبنا المؤمن".

"لا يتوقع شعب الله منا أن نكون خارقي القوة كما لا يريدنا أن نكون كذلك. إنهم يتوقعون من الرعاة، والمكرسين، الذين يعرفون كيف نكون رحماء، والذين يستطيعون تقديم يد العون، والذين يستطيعون قضاء بعض الوقت مع أولئك الذين سقطوا في الحياة".

"وبالتالي، فقد تغيّر بطرس. فالذي رفض أن يغسل قدميه سيده يبدأ الآن أن يستوعب العظمة الحقيقية المتأتية من كونه ذو درجة أخفض وأنه خادمًا". "يا له من رب، معلم وجيد! فالإيماءة النبوية التي قدمها يسوع تشير إلى الكنيسة النبوية المغسولة من خطاياها، والتي لا تخاف من الخروج لخدمة الإنسانية الجريحة". ويوضح بيرغوليو قائلاً: "أنها دعوة للعبور من كنيسة المصابين بالكآبة والمثبطي العزم إلى الكنيسة التي تخدم كل الذين لا يشعرون بالرضا والمحبطين في وسطنا. إنها الكنيسة القادرة على خدمة ربها في أولئك الذين يعانون من الجوع، ومن الإحتجاز بالسجون، ومن العطش، ومن التشرد، ومن العجز... إنها الخدمة التي لا علاقة لها بعقلية الرفاهية أو بموقف الأبوية، إنما بتبديل القلوب".

وخلص فرنسيس قائلاً إن المشكلة في الواقع "لا تعود إلى عدم إطعام الفقراء، أو إلى عدم منح الملابس للعراة، أو إلى عدم زيارة المرضى، وإنما بعدم الإقرار بأن للفقراء، وللعراة، وللمرضى، وللسجناء، وللمشردين الكرامة بالجلوس على مائدتنا، وإلى الشعور بأنهم "في المنزل" بيننا، وإلى الشعور بأنهم جزء من الأسرة. وهذه علامة على أن ملكوت السماء في وسطنا".

لذلك، فإن "تجديد النبوة يحتاج إلى تجديد التزامنا بعدم توقع عالم مثالي، أو مجتمع مثالي، أو تلميذ مثالي من أجل أن نكون قادرين على العيش والتبشير. لكن بدلاً من ذلك دعونا نتمكن على لقاء يسوع. فالإنسان لا يحب الحالات أو المجتمعات المثالية؛ إنما يحب الأشخاص".

وختم البابا فرنسيس كلمته بصلاة من الكاردينال التشيلي الكبير راؤول سيلفا هينريكيز قائلاً: "الكنيسة التي أحبها هي الكنيسة المقدسة كل يوم ... لكم، ولي، إنها الكنيسة المقدسة كل يوم... يسوع المسيح، الكتاب المقدس، الخبز، الإفخارستيا، جسد المسيح المتواضع الذي نتناوله كل يوم مع وجوه الفقراء، ووجوه الرجال والنساء الذين يرنمون، والذين يكافحون، والذين يعانون. إنها الكنيسة المقدسة كل يوم".