موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٤ يونيو / حزيران ٢٠١٩
عودة «الشعبوية» إلى أوروبا

محمد السماك :

في عام 1994 عرفت رواندا (إحدى الدول الأفريقية) مجزرة، ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا. تشتت عائلات واغتُصبت نساء وتيتّم أطفال. أحد هؤلاء الأطفال وجد حضناً دافئاً لدى عائلة فرنسية تبنّته وأحسنت تربيته وتعليمه وأعطته اسمها. في عام 2017 انتُخب «هيرفيه بيرفيل» عضواً في البرلمان الفرنسي، ضمن اللائحة المؤيدة للرئيس ماكرون. لم يكن «بيرفيل» العضو الأسود الوحيد في البرلمان. هناك عضوان آخران. ويشير وجودهم إلى التسامح الذي يتمتع به المجتمع الفرنسي. غير أن هذا الواقع بدأ يتغير الآن. وينعكس هذا التغيير في تعرّض النواب السود الثلاثة للاعتداء في الشارع.. وحتى في بيوتهم، كما ينعكس تضخماً كبيراً في عدد الحوادث العنصرية واللاسامية، خصوصاً ضد اليهود الفرنسيين. وتقول الإحصاءات الرسمية الفرنسية أن نسبة هذه الحوادث ارتفعت بين عامي 2017 و2018 بنسبة 74 بالمائة. حتى قبور اليهود في فرنسا لم تسلم من أعمال الاعتداء، حيث تُرسم عليها شارة الصليب المعقوف (شعار النازية).

ومن أسباب هذه الموجة المتضخمة، معارضة سياسة الرئيس الفرنسي ماكرون الاقتصادية والاجتماعية، وذلك على خلفية أنه متخرّج في مؤسسة روتشفيلد (اليهودي)، وكذلك من خلفية اتهامه بأنه يلتزم بسياسة مالية تتجاوب مع مصالح هذه المؤسسة –ومثيلاتها- على حساب حاجات الفقراء (مظاهرات أصحاب السترات الصفراء التي تجتاح المدن الفرنسية بما فيها باريس، كل يوم سبت، ومنذ عدة أشهر).
ونقلت الصحف الفرنسية عن وزير الداخلية، كريستوف كاستانيه، قوله:«إن اللاسامية تنتشر في فرنسا انتشار النار في الهشيم». والسؤال هو: لماذا؟

في أحد الشوارع الرئيسة في باريس أُوقف الفيلسوف الفرنسي من أصل بولوني «آلان متكلكروت» -أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون- وأُعتُدي عليه على خلفية يهوديته. ووُجهت إليه اتهامات عنصرية مقذعة. الأمر الذي يشكل ظاهرة سلبية جديدة في المجتمع الفرنسي.

كذلك أُعيد طبع وتوزيع كتاب قديم (كان طُبع للمرة الأولى في عام 1886) عنوانه: «فرنسا اليهودية». ثم أُتلف وفُقد من الأسواق. وهو من أشد الكتب عنصريةً وعداءً لليهود، فمن الذي تولى إعادة طبعه؟ ولماذا؟
تقوم فكرة الكتاب على أن فرنسا لن تكون أبداً وطناً لليهود. وبالفعل كان اليهود في القرن الخامس عشر ممنوعين من دخول فرنسا. إلا أن الأمر تغير بعد ذلك ليعود وينتكس الآن مرة أخرى. يعزو علماء الاجتماع السياسي في فرنسا هذا الأمر إلى تنامي ظاهرة الشعبوية في أوروبا. فقد أدت هذه الظاهرة إلى إطلالة جديدة وجريئة للنازية في ألمانيا. كما أدت إلى تراجع شعبية المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، (رداً على انفتاحها الإنساني على اللاجئين). ويُعزى ارتداد بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي إلى هذه الظاهرة أيضاً.

تقول الدراسات الإحصائية البريطانية: إن 50 بالمائة من اليهود كانوا يشكون من مشاعر اللاسامية في عام 2012، وأن هذه النسبة ارتفعت الآن إلى 75 بالمائة. ويترافق هذا الارتفاع مع انفجار ظاهرة الشعبوية، التي دفعت البلاد إلى مأزق «بريكست»–أي «الاستقلال» عن أوروبا-. وبالفعل تم تسجيل 1652 حادث معادٍ لليهود في بريطانيا في عام 2018 وحده. وقد انفجرت هذه الظاهرة حتى داخل حزب «العمال»، مما حمل بعض أعضائه على الاستقالة، وكان من بينهم الكاتب المعروف دافيد هيرش مؤلف كتاب «لاسامية اليسار المعاصر». وهذا يعني أن اللاسامية ليست مجرد ظاهرة يتميز بها اليمين السياسي في أوروبا، ولكنها تغلغلت حتى إلى اليسار السياسي أيضاً.

وقد تمكنت «الشعبوية» الحادة من فتح الطريق أمام أحزاب وحركات سياسية عنصرية للوصول إلى السلطة في العديد من الدول الأوروبية الأخرى بينها تشيكيا ورومانيا وبولندا.

والأمر الأشد سوءاً هو ما تشهده فرنسا اليوم، التي سبق لها أن مرت بتجارب مرة في تاريخها الحديث – حكومة فيتشي الموالية للنازية- على خلفية هذه الثقافة العنصرية، والتي دفعت ثمنها غالياً جداً.. رغم أنها ترفع دائماً شعار الثورة الفرنسية: «حرية – عدالة – مساواة». ويمكن القول استناداً إلى تجارب التاريخ الأوروبي إنه إذا «عطست» فرنسا، فان أوروبا كلها تصاب بالزكام. وأول الغيث قطر.. ثم ينهمر.

(الاتحاد الإماراتية)