موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٢٨ فبراير / شباط ٢٠١٥
صديقي مسيحي آشوري عراقي‎

طاهر العدوان :

زارني لأول مرة في مكتبي بالعرب اليوم في عام ٢٠٠٠ عرفني بنفسه كرئيس لرابطة الاشوريين المسيحيين العراقيين ولأني مغرم بقراءة التاريخ شعرت بالاغتباط لزيارته ذلك ان تقرأ من الكتب عن وجود شعب منحدر من الامبراطورية الآشورية شئ وان ترى بام عينيك آشوريا أمامك شئ آخر . يومها تملكني الفخر والاعتزاز لأني انتمي بالهوية والتاريخ الى بلاد الشام وفي دائرة أوسع الى الهلال الخصيب، الى هذه المنطقة التي تمثل مهد الأديان والحضارات والشرائع الانسانية والاهم هو تعايش المسلمين والمسيحيين فيها على مر العصور.

وكم كنت حريصا في سنوات سابقة على زيارة الصديق المرحوم المحامي سليم الصويص في مكتبه بشارع الامير محمد في قلب عمان لأستمع اليه وهو يسرد لي تاريخ السريان والكلدان والأثوريين بينما يستعرض بين يديه بعض ما كان من كتب نادره في مكتبته عن تاريخ المسيحية في العراق وسوريا مشيراً بفخر الى ما قام به الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب بإقطاع المسيحيين الذين رحلوا من نجران الإقطاعيات في العراق لبناء الكنائس والأديرة، وقصة خليفة رسول الله مع كنيسة المهد في القدس معروفة وهي تجسد حرصه على الكنيسة، كمكان ودين، عندما رفض اداء الصلاة فيها.

كان صديقي المسيحي الاشوري ينتظر فيزا للهجرة الى امريكا ليلحق بعشرات الآلاف من أبناء طائفته الذين هاجروا الى امريكا وأوروبا مثلهم مثل الملايين من العرب الذين هاجروا من العراق وسوريا ولبنان للبحث عن شجرة تظللهم وعن مأمن من جوع ومن خوف، وفي يوم جاء يودعني وهو يحمل لوحة من الفن الفوتوغرافي ليقدمها هدية وهو يقول "يوما ستشرق شمس الحرية على بلادنا كما تراها مشرقة في هذه اللوحة".

تذكرت كل هذا وانا اتابع غزوات داعش ضد المسيحيين الاشوريين في الحسكة السورية وأنباء تدمير قراهم وأخذ ٢٢٠ منهم رهائن ومن بينهم نساء واطفال، والتاريخ يذكر ان تيمورلانك المغولي قد أباد مئات الآلاف منهم بعد ان فرغ من تحويل لون مياه الفرات الى اللون الأحمر من سفكه لدماء المسلمين من أهالي عاصمة العباسيين، ولان التاريخ يعيد نفسه كل بضعة قرون بتكرار أحداث عظيمة وأخرى تخجل منها الانسانية، فان الانحدار الى قعر التاريخ هي سمة الفظائع التي تجري اليوم في بلاد العرب وخاصة في المشرق منها.

نسمع ونرى رجال دين وسياسة ينادون بالتصدي لهذه الفظاعات التي ترتكب في سوريا والعراق على يد داعش (السنية) والدواعش الاخرى الإيرانية وذلك دفاعا عن الاسلام وصورته، والأحرى بهم ان ينادوا ايضا بالدفاع عن المسيحية في هذا الجزء العظيم من الوطن العربي، فالعراق وبلاد الشام هي مهد الرسالات، والآشوريون مسيحيون قبل ظهور الاسلام بستة قرون وعاشوا مع (الخلافة الاسلامية) خمسة عشر قرنا، وكان نصف سكان دمشق عاصمة الخلافة الأموية من المسيحيين، فان لم ندافع عن المسيحية في وطنها الأصلي ومهدها فان احد أركان الإيمان عند المسلم تصاب في الصميم قال تعالى "قولوا آمنا بالله وما انزل الى ابراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" صدق الله العظيم.

تعايش الأديان في هذه المنطقة هو ثقافتها وهويتها التاريخية المشتركة وهو ما لم يتناقض يوما مع انتمائها العربي. لم تكن العروبة انتماء عنصريا وقوميا لفئة دون اخرى، وعندما تجمّع احرار العرب في بداية القرن الماضي لبناء النهضة والدولة الحديثة في هذا الجزء من العالم لم يكونوا من عقيدة دينية واحدة ولا من قومية دون اخرى، كانوا من السنة والشيعة والمسيحيين والعلويين والأكراد والدروز، فالعروبة فُهمت وطرحت على انها انتماء وهوية سياسية، لا قومية عنصرية ولا دينية لمذهب دون غيره، وعلى هذا بنيت دول العالم كله في الشرق والغرب. وفي خطاب للملك فيصل الاول في بغداد القاه في الثلاثينيات من القرن الماضي قوله "لا شئ في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي بل هناك شئ يقال له العراق اني اطلب من أبناء وطني العراقيين ان لا يكونوا إلا عراقيين لأننا نرجع الى ارومة واحدة ودوحة واحدة وليس لنا اليوم الا واسطة القومية القوية التأثير".

منذ ان أُدخل اصطلاح "مكونات الشعب العراقي" الى التعامل السياسي والشعبي مع دبابات الاحتلال الامريكي وجد الشيطان له حقولا شاسعة في العراق ليزرع فيها بذور فتنة كبرى، تزاحم على قطف حصادها فيما بعد التكفيريون القادمون من رقاع الارض وعصابات عملاء آيات الله الإيرانية بالتظافر مع نظم الفساد والاستبداد لتتحول عملية "دسترة المكونات" الى غطاء لحروب مذهبية تدمر الاوطان وتقسم الشعوب. مع العلم ان من اخترع هذا الاصطلاح هو أستاذ قانون يهودي في جامعة نيويورك اسمه نوح فيلدمان لم يتعد عمره انذاك الـ٣٠ عاما وعرف عنه انه لم يزر العراق في حياته. كان المحافظون الجدد من اتباع بوش قد كلفوه بوضع مسودة لدستور عراقي حملته الدبابات الامريكية الى بغداد عنوانه تقسيم الشعب العراقي الى مكونات ومقصده تحويلها الى جسر للعبور الى إقامة دويلات للطوائف والإثنيات المتناحرة.

ادعوا كل من ابتلعوا فخ "المكونات" من باب الحرية الثقافية والسياسية ان يراجعوا تاريخ البلدين في سوريا والعراق ليروا كيف ان قياداتهما بعد الاستقلال لم تقتصر على فئة دون اخرى في الوجود على سدة الحكم، لا من حيث الانتماء الديني اوالعرقي، فالاكراد والمسيحيون والدروز والعلويون كانوا من بناة وقيادات الدولة الوطنية في البلدين، واذا كان من ظلم او تفرقة قد حلت بهم فهي قد حلت بالآخرين من اخوتهم السنة والشيعة نتيجة تفشي انظمة الاستبداد والديكتاتورية وبركات الزعيم الخالد والحزب القائد التي أقيمت لها الانظمة الأمنية.

نعم لمجتمعات مدنية في ظل حكومات ديموقراطية منتخبة في اطار لامركزية ادارية، نعم لتعددية ثقافية ولا الف لا "لدساتير المكونات" التي تقود الى إقامة دويلات متصارعة على الهوية الدينية والعرقية التي كان ديفيد بن غوريون اول من بشر بها قبل اكثر من ٦٠ عاما عندما دعا ،وهو اول رئيس للوزراء في اسرائيل، الى تشجيع إقامة دويلات مذهبية وعرقية بين البحر المتوسط وشط العرب، من اجل ان تكون اسرائيل الدولة الطائفية الاقوى وسط دويلات سنية وشيعية ومسيحية وعلوية ودرزية وكردية.

بن غوريون هو الأب الروحي (لدساتير المكونات). التي تقف (وراء خراب البصرة) اما الصهيوني نوح فيلدمان فهو من وضع حجر الأساس لها في دستور عراقي دُشن في ظل الاحتلال ليحول العراق الى شظايا.

واخيرا أقول لصديقي الاشوري المسيحي العراقي لا تحزن فالتاريخ لا يطيل البقاء في الحُفر والخرائب وثق بان الشمس ستشرق عاجلا ام آجلا على بلدك العراق وعلى سوريا وعلى شعوب هذه الامة في جميع أوطانها لأن الارض كروية تُقلّب العهود والأزمان كما تتقلب الفصول وقد يتعثر التطور الإنساني لكن قوته في التغيير كاسحة لا تقاوم اما الظلام واليقظة فلا يتعايشان.