موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ فبراير / شباط ٢٠١٧
رسالة البطريرك إغناطيوس يوسف الثالث يونان لزمن الصوم

بيروت – أبونا :

<p dir="RTL">اليوم حصل الخلاص لهذا البيت (لوقا 19: 9)</p><p dir="RTL"><strong>مقدّمة </strong></p><p dir="RTL">يسرّنا أن نبدأ مسيرة الصوم الكبير، وهو &quot;زمن مقبول&quot; (2 كور 6: 2)، زمن النعمة والبركة، وقد رتّبت الكنيسة السريانية الأنطاكية في مستهلّه تذكار أعجوبة تحويل يسوع الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، فزرع الرب يسوع بحضوره البهجة والسرور، وأرادها علامةً تدلُّ أنّه قادر على تحويل باطن الإنسان العتيق إلى إنسانٍ جديد. يسوع المسيح، وهو فرحُ الإنسان الدائمِ والثابت، استبق وهيّأَ بهذه الآية تحويلَ الخمر إلى دمه في عرس الفداء. فكما آمنَ تلاميذُه بألوهيّته عندما حوَّل الماء إلى خمر، كذلك سيؤمنون عندما سيحوِّل، في عشائه الأخير وهو وليمةُ عرس فداء البشر، الخبزَ إلى جسده والخمر إلى دمه لحياة العالم.</p><p dir="RTL"><strong>الصوم زمن التوبة والعودة إلى الله</strong></p><p dir="RTL">تبدأ الكنيسة هذا الزمن المقدس، زمن الصوم الأربعيني الذي يتواصل بأسبوع الآلام، في يومَ الإثنين المعروف بإثنين المسامحة، للدلالة على أنه زمنُ التوبة والإهتداء، وزمنُ التغيير في المسلك وفي العلاقة مع الله والذات والآخرين، بوسائل ثلاث هي الصوم والصلاة والصدقة، أي أعمال المحبّة والرحمة.</p><p dir="RTL">في الصوم، تبرز الحاجة ماسّةً إلى سماع كلام الله بالصلاة والرياضات الروحية، بروح التوبة، بعد أن جُرِّبنا بالخطيئة. إنّه زمن العودة إلى الذات لتصحيح صورة الله فينا، وزمن المصالحة لترميم الأخوّة مع كلّ الناس، سيّما مع أولئك الذين نحن على خلاف معهم، ومع الفقراء والحزانى والمستضعَفين والمتألّمين بشتّى أنواع الألم الجسدي والمعنوي والنفسي والإجتماعي، وكلّ هذا يُغدق علينا بركات الرب ونِعَمه، ويقودنا إلى القيامة الحقيقية.</p><p dir="RTL">من غير المقبول أن نعتبر الصوم غير ضروري، فهو إلى جانب كونه انقطاع عن الطعام لفترة معيّنة من اليوم، تمتدّ غالباً من منتصف الليل حتّى الظهر، ثمّ الإكتفاء بتناول المأكولات الخالية من الزفر، فالصوم هو توبة وتقشّف وقهر للذات، ابتغاءً للحرّية الحقيقية والتجدّد والفرح.</p><p dir="RTL"><strong>التوبة تؤهِّل المؤمن للإرسال الإلهي ونعمة الإلتزام</strong></p><p dir="RTL">إنّ الرب يسوع يريد خلاص الإنسان الخاطئ، فالقدّيسون كانوا يعدّون أنفسهم أكبر الخطأة، لأنّهم يعيشون في حضرة الله وفي اتّحاد دائم معه، وتشعّ أمام تأمّلاتهم قداسة الله التي لا توصف، وكأشعّة خارقة كانت تكشف لهم مكنونات ضعفهم وأخطائهم ونواقصهم. فكانوا يلتمسون رحمة الله ومغفرة خطاياهم بالصلاة والتقشّف وأفعال الإماتة، واللجوء إلى سرّ التوبة، وأعمال المحبّة والرحمة. وكانوا يفعلون ذلك باسمهم وباسم جميع الناس. وفي الكتاب المقدّس أحداث كثيرة عن انكشاف ضعف الإنسان وخطاياه في حضرة الله.</p><p dir="RTL">مع أشعيا النبي: &quot;رأيتُ السيد جالساً على عرشٍ عالٍ رفيع... ويلٌ لي، قد هلكتُ لأنّي رجلٌ نجس الشفتَين، وأنا مقيمٌ بين شعبٍ نجس الشفاه، وقد رأت عيناي مجد ربّ الجنود. فطار إليّ أحد السرافين، وبيده جمرةٌ أخذها بملقط من المذبح، ومسّ بها فمي وقال: ها إنّ هذه قد مسَّت شفتَيك، فأُزيلَ إثمك، وكُفِّرَت خطاياك. ثمّ دعاه وأرسله&quot; (أشعيا 6: 1-9).</p><p dir="RTL">مع سمعان بطرس: عندما عاين الصيد العجيب بفضل كلمة يسوع الذي وجّههم للسير إلى العمق وإلقاء الشبكة من جديد، وربّما كان بطرس مشكّكاً فيها... فوقع سمعان بطرس عند قدمَي يسوع، وقال له: &quot;أسألك يا سيّدي أن تتباعد عنّي، لأني رجل خاطئ&quot;. أما يسوع فأجاب: &quot;لا تخفْ. فمن الآن تصطاد الناس للحياة&quot; (لو5: 4-11).</p><p dir="RTL">&nbsp;مع أشعيا ومع سمعان بطرس، تبرز ميزة مشتركة في الكنيسة، هي الإرسال. فالتوبة ومغفرة الخطايا والمصالحة مع الله والذات، تجعل التائب أهلاً ليحمل رسالةً خاصّةً من الله. لقد أرسل الله أشعيا نبيّاً، وها هو كتاب نبوءاته المسمَّى بالإنجيل الخامس، لكونه تنبّأ عن تجسُّد الكلمة ابن الله، عمّانوئيل، من عذراء، وعن آلامه وموته فداءً عن البشر أجمعين. وسمعان بطرس أرسله الله راعياً للكنيسة ورأساً لرعاتها، حاملاً ملء سلطان الحلّ والربط. ففي الصلاة والتوبة والتواضع، تولد الدعوة الخاصّة بكلّ إنسان، ويتمّ الإرسال الإلهي، وتُعطى نعمة الإلتزام بسخاء وفرح.</p><p dir="RTL"><strong>التوبة تمنح الخلاص</strong></p><p dir="RTL">إنّ للتوبة مفاعيل تؤدّي بالمؤمن إلى تغيير جذري في مجرى حياته، وهنا تستوقفنا حادثة في الإنجيل المقدّس بحسب لوقا: لقاء يسوع بزكّا العشّار. لم يكن زكّا في حالة صلاة في الهيكل، بل في صلاة داخلية تأمّلية صامتة، هي صمت الحبّ والتوق لرؤية يسوع بتواضعٍ كبيرٍ، فيسوع هو أساس توبته العظيمة وتغيير مجرى حياته. نسي زكّا ذاته ومكانته الإجتماعية وغناه، وتسلَّق جمّيزة ليرى يسوع، إذ كان قصير القامة، لأنه كان راغباً في رؤية يسوع، ونبت فيه زرع الخلاص، إذ رآه يسوع بعينَي الإله الذي &quot;يريد أنّ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبِلون&quot; (1 تي 2: 4). نظر يسوع إلى زكّا بعينَي الإنسان وناداه بلطف، ومن هنا العبرة الرائعة أنّه لا يستطيع أحد أن يرى المسيح ويؤمن به ما لم &quot;يصعد الجمّيزة&quot;، أي ما لم يرتفع عن شؤون الأرض والحواس وأسر الذات في العادات الطاغية عليها. فمبادرة زكّا&nbsp;ونتائجها تدعونا لنرتفع عن مستنقع الحياة، بالقلب والروح والفكر، بنيّة تغيير مجرى الحياة. يسوع وحده قادر على إجراء هذا التغيير فينا بقوّة الروح القدس.</p><p dir="RTL">نتيجة توبة زكّا والتزامه والتعويض عن خطاياه،&nbsp;منحه يسوع الغفران الإلهي، فصالحه مع الله: &quot;اليوم حصل الخلاص لهذا البيت&quot; (لو 19: 9)،&nbsp;وصالحه مع الجماعة وأعاده إليها: &quot;هذا أيضاً هو ابن لابراهيم&quot;&nbsp;(الآية عينها).&nbsp;الخطيئة&nbsp;تفصل مقترفها عن حياة جماعة شعب الله،&nbsp;والتوبة وغفران الخطايا&nbsp;يُرجعانِه إليها، ويتجلّى ذلك في دخول يسوع إلى بيت زكّا، والجلوس إلى مائدته، وإعلان توبة زكّا، والغفران الإلهي. لم يعد زكّا، بعد هذا اللقاء الخلاصي، ما كان عليه من قبل، وما كان يعتبره الجمع، وقد تذمّروا وقالوا عند دخول يسوع إلى بيته: &quot;إنّه دخل إلى بيت رجل خاطئ&quot;&nbsp;(لو 19: 7)، بل تبدّلت حياته بنعمة الخلاص.</p><p dir="RTL"><strong>التوبة نُنتِج الغفران والمصالحة</strong></p><p dir="RTL">في تأمّلات قداسة البابا فرنسيس خلال رياضة الكهنة للعام المنصرم، أشار إلى أنّه حين أوصى الرب يسوع بطرس بالغفران للإخوة سبعين مرّة سبع مرّات، أراد التأكيد أنّه في جهوزية دائمة للمسامحة والغفران، فلا يتعب من التوبة ولا ييأس من غفران خطايا الإنسان، بل الإنسان هو الذي يتعب من التوبة والعودة إلى الله والتحرّر من خطاياه. أما الله فيعيد دائماً الكرّة ويتحيَّن الفرص، ويستعمل كلّ الوسائل والظروف لكي ينعم الخاطئ بنعمة الغفران والمصالحة. إنّه يعود سبعين مرّة سبع مرّات لكي يخلق في كلّ إنسان قلباً جديداً، ويجدّد في أحشائه روحاً جديداً (من تأمّلات قداسة البابا فرنسيس في رياضة الكهنة، 2 حزيران 2016، جريدة الأوسرفاتوري رومانو الأسبوعية الفرنسية، عدد 23، تاريخ 9 حزيران 2016).</p><p dir="RTL"><strong>في سرّ التوبة</strong> ينال الخاطئ الغفران عن خطاياه، ويتصالح مع الله والذات والناس ومع الجماعة الكنسية التي ينتمي إليها، وفي سرّ القربان، في القداس، يقدّم ذبيحة التعويض والتكفير، ويرفع صلاة الشكر، ويتناول جسد الرب ودمه للحياة الجديدة، إذ لا يمكن نسيان عطية الله، بل تجب العودةُ إليه لأداء صلاة الشكر.</p><p dir="RTL">في طقس المسامحة الذي تحييه الكنيسة السريانية يوم الإثنين الأوّل من الصوم، تأمّلٌ روحي عميق للقديس مار يعقوب السروجي عن المحبّة والمسامحة: &quot;أيّها الغاضب حدِّق بالله واقتدِ به، واصنع الأمان مع قريبك بتمييز. إغسل منك الحقد والغضب وكلّ فكر سيّئ، ولتملك في نفسك محبّة الرب&quot;.</p><p dir="RTL"><strong>الصوم والتوبة يعيدانِنا إلى الله</strong></p><p dir="RTL">بفضل الإلتزام بموجبات الصوم، وبفضل توبة العديدين واستحقاقاتهم، السماءُ مفتوحةٌ، والخيرُ السماوي فائضٌ على الأرض، من هنا تتردّد في مسامعنا على الدوام دعوة آباء الكنيسة المؤمنين إلى التوبة: &quot;قال ربّنا: توبوا توبوا أيّها الخطأة، حتّى متى ظهر الختن (أي الرب يسوع)، تدخلون معه إلى العرس (أي الملكوت)&quot; (من كتاب الصلاة اليومية البسيطة الإشحيم).</p><p dir="RTL">يتحدّث قداسة البابا فرنسيس عن أهمّية الدعوة إلى التوبة والعودة إلى الرب يسوع، في رسالته بمناسبة الصوم الكبير لهذا العام 2017، والتي جاءت بعنوان &quot;الكلمة هي عطيّة، الآخر هو عطيّة&quot;، فيقول: &quot;يوجّه لنا زمن الصوم دوماً دعوةً قويّةً إلى التوبة: إن المسيحي مدعوّ للعودة إلى الله &quot;بكلّ قلبه&quot;، ولعدم الإكتفاء بحياةٍ سطحيةٍ، وإنّما للنموّ بالصداقة مع الرب. يسوع هو الصديق المُخْلِص الذي لا يتخلّى عنّا أبداً، لأنّه، حتى وإن أخطأنا، فهو ينتظر بصبرٍ عودتَنا إليه، وبهذا الإنتظار يُظهر رغبته بالغفران&quot;.</p><p dir="RTL">وفي ختام رسالته، يعود قداسة البابا فرنسيس للتأكيد على ضرورة اقتران زمن الصوم بمسيرة توبة حقيقية: &quot;إنَّ الصوم هو الزمن المناسب لنتجدّد في لقائنا بالمسيح الحيّ في كلمته والأسرار والقريب... ليرشدنا الروح القدس لنقوم بمسيرة توبة حقيقية، فنكتشف مجدّداً عطيّة كلمة الله، ونُطَهَّر من الخطيئة التي تعمينا، ونخدم المسيح الحاضر في الإخوة المعوزين&quot;.</p><p dir="RTL">كم يحتاج عالمنا اليوم إلى التجدّد على كافة الأصعدة وفي كلّ مكان، في العائلات والمجتمعات والأوطان، في السياسة والإقتصاد وفي التعامل بين البشر، في بلدان شرقنا المعذَّب، حيث الحروب والنزاعات والنزوح والإقتلاع من أرض الآباء والأجداد، وفي عالم الإنتشار حيث يهاجر أبناؤنا ويلجأون بحثاً عن عيشٍ آمنٍ وحياةٍ كريمة. فلنعش هذا الزمن المقبول كما يجب، يحدونا الرجاء بأنّ المسيح قادر على تجديدنا كي نجدّد كلّ شيء من حولنا، ولنتّكل على نعمته في هذه المسيرة لنعبر معه إلى الفصح وإلى الحياة الجديدة.</p><p dir="RTL"><strong>خاتمة</strong></p><p dir="RTL">أيّها الربّ يسوع، حرِّك في قلوبنا الرغبة الدائمة لنبحث عنك في الإنجيل وتعليم الكنيسة وحاجات الناس، بالتوبة والصوم والصلاة وأعمال الرحمة والخير. إنّنا نعلم أنّك تعرف كلّ واحد وواحدة منّا باسمه وبأفكار قلبه، وتدعوه لاتّباعك بتسليم حياته بكلّيّته بين يديك. أعطِنا الوعي لما تمنحنا إيّاه يومياً من نِعَمٍ وبركاتٍ وخيرات، فندرك أنّك حاضرٌ في حياتنا، وتريد تغييراً جذريّاً وتجديداً كاملاً فينا، بالرجوع عن الخطأ، والتوبة إليك، لتدخل بيت قلبنا وتعلن لنا خلاصك، فنعيش فرح المصالحة مع الله وجميع الناس. ويا مريم أمّنا، نلتمس منكِ أن ترافقينا بنظرك الوالديّ، لكي نسلك طريق التوبة، فنبلغ الخلاص بيسوع ابنك.</p><p dir="RTL">ختاماً، إنّنا إذ نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، لنصل جميعاً إلى منياء الخلاص والسلام بفرح قيامته من بين الأموات، نمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً بركة الثالوث الأقدس: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. والنعمة معكم.</p>