موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الخميس، ٢٤ يوليو / تموز ٢٠١٤
حياة الإنسان.. حقّ إلهي

الأب ريمون جرجس :

في المشهد الديني والثقافي اليوم، يبرز "تناقضا يثير الدهشة": من جهة نلاحظ الاهتمام الدولي بشأن حقوق الإنسان والمبادرات الكثيرة في العالم كله للدفاع عن قيمة الحياة وكرامة كل إنسان، ومن جهة أخرى، نجد تيارات دينية فكرية تنبذ "عقيدة الشريعة الطبيعية التقليدية وما تتضمنه من وصايا شاملة وأحكام ثابتة" التي تقوم على اساسها كرامة الإنسان ووجوده. وتنشر الاعتقاد بأن الإنسان له الحرية أن يستلهم من نفسه الشريعة المناسبة لاتخاذ قراراته واختيار مسلكه في الحياة بشكل مستقل. نطرح هذه الأسئلة: كيف يمكن التوفيق بين التأكيد المبدئي المتكرّر للدفاع عن حقّ الإنسان في الحياة ووجود تشريعات دينية التي تتعدّى على الحقّ الإنسان في الحياة؟ أليس الإنسان اليوم في مواجهة سرّ الموت؛ يعيش في عالم مغلق غالبا دون الله؛ يعتبر الحياة مجرّد من كل معنى. ثم أنه يتوهّم أنه أصبح هو ذاته معيارا ومقياسا لذاته؟. ألا نعيش اليوم "حضارة الموت" التي تتوغل خصوصا في أذهاننا فتظهر الحياة بلا معنى؟.

يبدو موقف الكنيسة الكاثوليكية حول موضوع الحياة والموت واضح وحتمي، والذي يستند أساسا على الشرع الإلهي، والكتب المقدّسة. وينبغي أضافة إلى ذلك أنّ مبادئ الشرع الإلهي، وبالتالي أيضا تلك في الشرع الطبيعي الواردة فيه، غير قابلة لتغيير مع مرور الوقت والمكان. وبعبارة أخرى، ما ينجم عن الشرع الطبيعي لا يمكن تعديله أو تقييده فهو يشكّل جوهر للمبادئ الثابتة وغير قابلة للتغيير، والتي هي ملزمة لجميع البشر وغير قابلة للإلغاء.

من يقرأ التاريخ البشرية يجد سلسلة من القتل الجسدي والمعنوي والروحي. والوصية "لا تقتل" من الوصايا العشر (سفر خروج 20، 13؛ تثنية الاشتراع 5، 17) تعني منع أي سلوك إرادي وعنيف، والذي ينتج عنه بشكل مباشر أو غير مباشر موت إنسان. فالوصية الخامسة: "لا تقتل البريء والصالح" (خروج 23:07)، تعبّر عن قيمة الحياة، فهي هبة ومسؤولية على حدّ سواء. مضمونها هو الحفاظ على حياة الإنسان "حيث يقوم على مطلب الاحترام والمحبة تجاه كل شخص وحياته. كما وتآمر الوصية الخامسة بعدم جرح أو تسبب أي ضرر جسدي للنفس وللقريب، سواء مباشرة أو من خلال الآخرين. كما يحظر الإساءة بكلمات مهينة وإرادة الشر للآخرين. بالتالي ينبغي اعتبار الوصية "لا تقتل" فعل يتعارض مع سلامة الإنسان وكل ما يسيء لكرامته الشَّخصية.

وضّح القديس البابا يوحنا بولس الثاني في الرسالة العامّة "إنجيل الحياة" عام 1995 هذه الحقيقة بصوت عال وواضح: "الواقع أن الكتاب المقدس يوجّه إلى الإنسان وصية "لا تقتل" على أنها أمرٌ إلهي. (مز30/13 تث 5/17). هذه الوصية – وقد شدّدت على ذلك – متضمّنة في الوصايا العشر، في صميم الميثاق الذي عقده الرب مع الشعب المصطفى. ولكن هذه الوصية كانت متضمنة من قبل، في الميثاق الأصلي الذي عقده الله مع البشرية، بعد العقاب المطهّر الذي أحدثه الطوفان نتيجة انتشار الخطيئة والعنف (تك9/ 5-6). إن الله يعلن سيادته على حياة الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله (تك1/ 26-27). ومن ثم فالحياة البشرية تملك طابعا من القدسيّة والحصانة، تنعكس فيه حصانة الخالق نفسه. وعليه، فإن الله سوف يحكم حكما شديدا على كل مخالفة لوصية "لا تقتل!"، التي أقامها الله في أساس كل تعايش في المجتمع"(رقم 53).

بحكم هذا التصور لحياة الإنسان، يبدو من المنطقي النهي عن القيام بأية محاولة لفقدان الحياة نفسها وعلى وجه الخصوص العمل على اخمادها وتسبب بموت الإنسان. ومن ناحية أخرى، هذا النهي، الوارد في هذه القضية، لديه بالتأكيد جذور في الشرع الطبيعي. فالحياة للإنسان حقّ طبيعي غير قابلة للزوال وحقّ موضوعي، لأنه لا يقوم على المعرفة التي يمتلكها الإنسان وليس على الاعتراف الخاص من قبل أشخاص أو من قبل أنظمة قانونية، لكن يقوم على أساس الكيان الوجودي للانسان، لأنّ الشرع الطبيعي يحمي القيمة والكرامة الموضوعية للوجود الإنساني. وبما أن الأخلاق تهدف إلى بلوغ الإنسان كمال إنسانيته وكمال طبيعته التي خُلق عليها، فهناك علاقة ثابتة وضمنية بين الأعمال الإنسانية والأخلاق. فالأعمال التي تجلب الخير للإنسان وتبلغ به إلى كمال كيانه وإلى اتحاده بالله تُعتبر صالحة من الناحية الأخلاقية. فالصلاح والخير لا ينبعان من نية الإنسان وحسب، بل أولاً من محتوى العمل عينه الذي يقوم به. وهذا المحتوى هو ما يتضمنه الناموس الأزلي الذي وضعه الله بحكمته التي تقود كل كائن نحو غايته الأخيرة. وهذا الناموس الأزلي تتم معرفته إمّا من خلال عقل الإنسان، ويقال له إذاك "الناموس الطبيعي"؛ وإمّا بفضل الوحي الإلهي، ويدعى إذاك "الشريعة الإلهية". والعمل يكون صالحا أخلاقياً وخيراً، إذا كان الاختيار الحر مطابقاً لخير الإنسان وملائما لتوجهه نحو غايته الأخيرة أي نحو الله نفسه.

حيث أنّ الشرع الإلهي المتوافق مع الصعيد العقلاني للحكمة الإلهية،ينتقل إلى الشرع الطبيعي من خلال المشاركة الطبيعة العقلانية مع الشرع الإلهي، والذي يصل إلى الشرع الإيجابي الذي سنه المشرّع الإنساني. أوضح القديس توما الاكويني أنَّ: "الشرع الطبيعي هو نور التعقل الذي غُرس في نفوسنا من الله، بفضله نعرف ما يجب عمله وما يجب تجنبه. هذا النور أو الشرع أعطاه الله للخليقة". ويقول أيضاً: "تتحقّق في المخلوق العاقل المشاركة مع العقل الأبدية، لديه بقوّته ميل طبيعي للعمل وللبلوغ لهدف. الشرع الطبيعي ما هو إلاَّ مشاركة مع الشرع الأبدي في المخلوق العاقل".

ويعتبر الشرع الإلهي، المؤسس في جوهر الله، المصدر الأساسي لجميع القوانين، الأساس لكل سلطة. ولا يستطيع المشرّع الإنساني أن ينتهكه ولا أن يلغيه، لأنه القاعدة الأساسية والضرورية، والمبدأ والجوهر للشرع الإنساني. باختصار، الشرع الطبيعي والشرع الإنساني ليسا بنظامين مختلفين، لكنهما يشكلان النظام القانوني الموحّد قاعدته الأساسية في الشرع الإلهي. فالشرع الطبيعي ما هو إلاّ انعكاس على المستوى الإنساني للشرع الإلهي: "النظام العالمي الكوني المخلوق من الله". والشرع الإلهي الذي اعطاه الله للإنسان عن طريق الوحي، يثبّت الشرع الطبيعي، المحجوبة في الضمير الإنساني بسبب الخطيئة، ويقرّر قواعد جديدة، يلبي ارتفاع الإنسان إلى حالة الفائقة الطبيعة ولكرامته كابن الله، الموجّه إلى السعادة الأبدية. بالتالي، "الشرع الطبيعي والشرع الإلهي هما جانبان لحقيقة واحدة، أي شريعة الله كشرع أسمى لسلوك البشر.

"الله ليس فقط بالكائن لكن أيضا هو المشرّع لأنّه المصدر لجميع الكائنات الخارجة عنه، وعلى وجه الخصوص الإنسان. فالله كخالق الإنسان وعلى هذا النحو، كحاكمه الأعلى، هو "يفكر" بطبيعة الإنسان، أي بجوهره لكونه أساس أفعاله الخاصّة. بالضبط، لهذا السبب هو القاعدة والمقياس لأفعال الإنسانية. هذه القاعدة موجودة في الله كما في الناس: في الله، بقدر هو القاعدة والمقياس لسلوك الناس، في الإنسان بقدر ما يكون سلوكه منظّم وبمقياس من الله".

فلكي يكون للشرع الإلهي القوّة الفعّالة في تاريخ البشر، يجب ان يُصاغ من المشرّع الإنساني بشكل إيجابي. وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال خضوع الشرع الإلهي إلى التشريع الإنساني، بل هو لا يزال يحمل قيمة في حد ذاته، كونه تعبيرا عن إرادة الله، لكن، تماشيا مع منطق التجسد، كل حقيقة إلهية تصبح واضحة وملموسة من الناس عندما تأخذ شكلا ملموسا في حياتهم اليومية. فالشرع الإنساني، ليست سوى الوعي الإنسان لمحتويات الشرع الإلهي، والذي يوضّح ويجعل الشرع الإلهي فاعل بقوّة إلزامية.

تحدث البابا بندكتس السادس عشر في كثير من الأحيان بشأن هذه المسألة. يقول: "أنّ يكون الإنسان قادر على اعطاء سببا لوجوده وأنَّ إدراك بعده الأخلاقي، هذا يعتمد على ما إذا كان يستجيب أو لا يستجيب لسؤال حول الله [ ... ]: عندما الله يصبح غير موجود، فلا وجود للأخلاق، بل لا وجود حتى للإنسانية". فإنّ رفض وجود الله ونكران أنّ العالم مخلوق، هذا يعني الاستبعاد الجذري لكل منظور أخلاقي". أشار أيضا البابا بندكتس السادس عشر إلى أن: "بسبب تأثير العوامل الثقافية والإيديولوجية، نجد المجتمع المدني والعلمانية اليوم في الحالة حيرة وارتباك: فَقَدَ الوضوح الأصلي للأسس الوجود الإنساني ولسلوكه الأخلاقي، والتعليم الشرع الأخلاقي الطبيعي يتعارض مع المفاهيم الأخرى التي ترفضها مباشرة. هذا له عواقب وخيمة وكبيرة في النظام المدني والاجتماعي. تهيمن لدى عدد لا بأس من المفكرين مفهوم الإيجابية للشرع. بالنسبة لهم، الإنسانية، أو المجتمع، أو في الواقع أنّ غالبية المواطنين، تصبح المصدر النهائي للشرع المدني. فالمشكلة التي تطرح نفسها ليس في البحث عن الخير، لكن عن السلطة، أو بالأحرى عن توازن السلطات. في جذور هذا الاتجاه نجد النسبية الأخلاقية، التي يرى البعض من خلالها أحد الشروط الرئيسية للديمقراطية، لأنّ النسبية تضمن التسامح والاحترام المتبادل بين الأشخاص. فإذا كان الأمر كذلك، فإن الأغالبية تصبح المصدر الرئيسي للشرع.

يظهر التاريخ بكل وضوح أن الأغلبية يمكنها أن تخطيء. والعقلانية الحقيقية هي غير مضمونة عن طريق توافق بين عدد كبير من الآراء، لكن فقط من خلال شفافية العقل البشري للعقل الخلاّق والاستماع العام لهذا المصدر من العقلانية التي لدينا. عندما يتعلّق الأمر بالمتطلبات الأساسية للكرامة الشَّخص البشري، بحياته، وبالمؤسسة العائلية، بالإنصاف في النظام الاجتماعي، أي الحقوق الأساسية للإنسان، فلا وجد لأي شرع وضع من قبل الإنسان يمكنه أن يتجاوز النظام الذي خطّه الخالق في قلب الإنسان، بدون أن يتأثر المجتمع نفسه بشكل درامي ما يؤسس أساسه الذي لا غنى عنه. يصبح الشرع الطبيعي الضمانة الحقيقية المقدّمة للجميع للعيش بحرية واحتراما لكرامته وحمايته من أي تلاعب فكري ومن كل التعسف والقهر من قبل الأقوياء. لا يمكن لأحد أن يتجاهل هذا النداء. إذا كان بسبب التعتيم المأساوية للضمير الجماعي، التشكيك والنسبية الأخلاقية يصلان لحذف المبادئ الأساسية للشرع الأخلاقي الطبيعي، النظام الديمقراطي نفسه سيتضرر بشكل جذري في أساسه. ضد هذا التعتيم، التي هي أزمة الحضارة الإنسانية، قبل أن تكون مسيحية، ينبغي تعبئة كل ضمائر الرجال ذوي النوايا الحسنة، علمانيين أو حتى الذين ينتمون إلى ديانات أخرى غير المسيحية، لكي يلتزموا معا بطريقة ملموسة لخلق، في الثقافة وفي المجتمع المدني والسياسي، الظروف اللازمة لفهم الكامل لقيمة الشرع الأخلاقي الطبيعي غير القابلة للتغيير. احترامه في الواقع يعتمد على التقدم للفرد والمجتمع على طريق التطوّر الحقيقي وفقا لسبب صحيح، وهو المشاركة في الفكر الله الأبديّ".

لذلك، الإنسان يجب أن يقبل ويعترف بضميره بالواجبات الشرع الإلهي، وأنّه مطالب باتباعها في كل أفعاله من أجل الوصول إلى الله، هدفه الأخير. يقول البابا بندكتس السادس عشر نهار السبت 24 فبراير 2007 أثناء لقائه بالمشاركين في الجمعية العامة للأكاديمية الحبرية للحياة وفي المؤتمر العالمي: "الضمير المسيحي في مساندة الحق في الحياة": "في الواقع، يحتاج الضمير المسيحي أن يتغذى وأن يتسلح بالدوافع والحجج العديدة والعميقة التي تدافع عن الحق في الحياة. وعلى الجميع أن يساندوا هذا الحق لأنه حق أساسي بالنسبة لسائر الحقوق البشرية". الله هو سيد الكون وخالق الحياة، ولا يحق لاي أحد أن ينصب نفسه سيدا عليها. ويجب "احترامُ الإنسانِ ومعاملتُهُ كشخصٍ بشريٍّ منذ الحَبَلِ بهِ، وبالتالي يجبُ الإعترافُ بحقوقهِ كشخصٍ بشريٍّ منذ تلك اللحظةِ، ومن بينِ هذه الحقوقِ وقبلَ كلِّ شيءٍ الحقُ غير القابلِ للإنتهاكِ، أي حقٌّ كلِّ إنسانٍ بريء في الحياة".