موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٧ أغسطس / آب ٢٠١٤
بطاركة الشرق: الاعتداء على المسيحيين يهدد وجودهم

بيروت - أبونا :

دعا عدد من بطاركة الشرق المجتمع الدولي بالعمل الدؤوب على مساعدة المسيحيين وإعادتهم إلى بيوتهم وحماية حقوقهم، داعيين إلى وجوب وضع حد للتنظيمات الأصولية والإرهابية وتجريم الاعتداء على المسيحيين وممتلكاتهم، لافتين أن "الأكثر إيلاماً هو سكوت المجتمع الدولي عما يحصل".

وأكد البيان الختامي الذي صدر بعد الاجتماع الذي عقد اليوم الأربعاء في دار البطريركية المارونية في بكركي، بحضور سفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، والسفير البابوي لدى لبنان المطران غابريلي كاتشيا، أنه لا يمكن للمجتمع الدولي أن يبقى صامتاً أمام وجود تنظيم "الدولة الإسلامية".

كما دعا البطاركة الدول الإسلامية إلى إصدار فتاوى تحرم تكفير الآخر والاعتداء على المسيحيين، لافتين إلى أن الأسرة الدولية مسؤولة أيضاً عن تنامي الحركات التكفيرية، مشددين على وجوب الضغط على ممولي هذه التنظيمات لقطع مصادر الإرهاب.

وشارك في الاجتماع الذي دعا إليه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي كل من بطريرك الكلدان لويس روفائيل الأول ساكو، وبطريرك الأرمن الكاثوليك نرسيس بيدروس التاسع عشر، وبطريرك السريان الكاثوليك إغناطيوس يوسف الثالث يونان، وبطريرك الروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحّام، وبطريرك السريان الأرثوذكس إغناطيوس أفرام الثاني، وبطريرك الأرمن الأرثوذكس آرام الأول كيشيشيان، وممثلين عن كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس والكنيسة الإنجيلية في لبنان وسوريا.

وفيما يلي نص للبيان الختامي:

أولاً، الاعتداء على المسيحيين في عالمنا اليوم

بات معروفاً وموثقاً أن الاعتداء على المسيحيين في العالم اليوم يأخذ منحى خطيراً يهدد الوجود المسيحي في الكثير من الدول ولاسيما في العالم العربي وبشكل أخص في مصر وسوريا والعراق. حيث يتعرض المسيحيون في هذه البلدان إلى إعتداءات وجرائم بشعة تحملهم على الهجرة القسرية من أوطانهم، التي هم فيها مواطنون أصليّون وأصيلون منذ ألفَي سنة، فتحرم المجتمعات الاسلامية والعربية من ثروة إنسانية وثقافية وعلمية واقتصادية ووطنية كبرى.

هذا مؤلم جداً، ولكن الأشد إيلاماً يبقى السكوت عمّا يجري، وغياب الموقف الجامع إقليمياً من المرجعيات الفاعلة في العالم ولاسيما المرجعيات الإسلامية، الروحية والسياسية والموقف الدولي الفاتر من هذه الأحداث.

والكارثة الكبرى تحلّ اليوم بمسيحيّي العراق، وعلى وجه التحديد بمسيحيّي الموصل وبلدات سهل نينوى الثلاث عشرة، بالإضافة إلى الايزيديين وسواهم من الأقليات. هؤلاء جميعاً إقتلعتهم ما تسمى بالدولة الإسلامية - داعش من بيوتهم قسراً، فغادروا مرعوبين، تاركين كل شيء وراءهم وانتهكت حرمة كنائسهم ومساجدهم ومعابدهم الدينية، وفخّخت منازلهم، وزرعت طرقاتهم بالألغام. هؤلاء كان عددهم قبل النزوح مئة وعشرين ألفاً. يتواجد منهم اليوم ستون ألف نازح في محافظة أربيل، وخمسون ألف نازح في محافظة دهوك. إننا نعرب عن شكرنا الكبير لكل الذين استقبلوهم في إقليم كردستان: في الكنائس والصالات الراعوية وحدائق الكنائس والعائلات والمباني والمدارس والمخيمات والمباني الحكومية، والذين قدّموا لهم يد المساعدة الانسانية والمعنوية والروحية والمادية عيناً ونقداً، من بطريكيات وأبرشيات ورهبانيات ومنظمات دولية وغير حكومية ومؤسسات وأفراد.

ونطالب بإلحاح المجتمع الدولي بالعمل الدؤوب فيما الشتاء على الأبواب، من أجل إيجاد مساكن تأويهم، ومساعدتهم على دخول المدارس والجامعات، وتحرير بيوتهم وممتلكاتهم وإعادتهم إليها بكرامة، وحماية حقوقهم وأمنهم بحكم المواطنة.

إن الكارثة الإنسانية التي حلّت بمسيحيّي العراق، والايزيديين وسواهم من الذين هُجّروا من بيوتهم وممتلكاتهم، تقتضي من المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي، بالتعاون مع حكومة العراق المركزية وحكومة إقليم كردستان:

أولاً: العمل العاجل والفعّال لتحرير بلدات سهل نينوى.

ثانياً: تسهيل عودة النازحين إلى بلداتهم وبيوتهم في الموصل وسهل نينوى.

ثالثاً: توفير أمن هذه البلدات مع ضمانات دولية ومحلية من حكومتَي بغداد وإقليم كردستان، للحؤول دون تهجيرهم إلى بقاع الأرض، وتذويب هويتهم التاريخية وتراثهم المجيد.

ثانياً، وضع حد للتنظيمات الأصولية والإرهابية التكفيرية

لا يمكن أن تستمرّ الدول وخاصة العربية والإسلامية صامتة ومن دون حراك بوجه "الدولة الإسلامية – داعش" ومثيلاتها من التنظيمات الإرهابية التكفيرية التي تتسبّب بإساءة كبيرة لصورة الإسلام في العالم. فهي مدعوة إلى إصدار فتوى دينية جامعة تحرّم تكفير الآخر إلى أي دين أو مذهب أو معتقد انتمى، وإلى تجريم الاعتداء على المسيحيين وممتلكاتهم وكنائسهم في تشريعاتها الوطنية؛ ومن جهة ثانية هي مدعوة لتحريك المجتمع الدولي والهيئات لاستئصال هذه الحركات الإرهابية بجميع الوسائل التي يتيحها القانون الدولي.

هذا الواجب المزدوج مطلوب أيضاً وبخاصّة من منظّمة الأمم المتّحدة ومجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية. فالأسرة الدولية مسؤولة هي أيضاً عن تنامي "الدولة الإسلامية – داعش" وسواها من التنظيمات والحركات التكفيرية الإرهابية.

ويُضاف على هذين الواجبين واجب الضغط بقوّة، من قِبل الأسرتين العربية والدولية، على مموِّلي هذه التنظيمات بالمال والسلاح ومدرّبيها، من دول ومنظمات، لقطع مصادر العنف والإرهاب الفكري.

ثالثاً، الحلول لمآسي الشَّرق الأوسط

أ- دعم الحضور المسيحي ودوره في حماية العيش المشترك

عاش المسيحيون والمسلمون معاً على مدى ألف وأربعماية سنة. فقد قام المسيحيون دائماً بالدور النهضوي والبنّاء، تربويّاً وثقافيّاً واجتماعياً وإنمائيّاً ووطنيّاً، ونشروا ثقافة التنوّع والانفتاح واحترام الآخر المختلف والتعاون معه، ومفاهيم المواطنة، وعزَّزوا الحريات العامة وحقوق الإنسان. عاشوا في أوطانهم بحكمة وفطنة: احترموا السلطات السياسية وخضعوا للدساتير والقوانين، وكانوا المواطنين المثاليين فكسبوا ثقة الملوك والأمراء ورؤساء الدُّول، ففتحوا أمامهم واسعةً مجالات العمل والتعاون.

وبالرّغم من كلّ شيء، يبقى المسيحيّون متمسكين بأرضهم، بوطنيتهم، بحريتهم كمواطنين أصليين في بلدانهم. وهم ملتزمون بقيم الإنجيل وتعاليم المسيح التي يعالجون بموجبها علاقاتهم مع الآخر ولاسيما أخوتهم المسلمين الذين يعيشون معهم في أوطان واحدة.

والمسيحيون ملتزمون بالشركة في تكوين هوية وطنية على أساس المساواة والتعاون بين جميع مكوِّنات المجتمع، وعلى قاعدة التنوّع في الوحدة، من دون أي تمييز عرقي أو ديني.

وهم ملتزمون بالشهادة من خلال العمل الدؤوب من أجل إحلال السلام والاستقرار، وتعزيز الحريات العامة، ولا سيّما حرية الرأي والتعبير والدِّين والمعتقد، والسعي الدائم إلى احترام الآخر المختلف، واعتبار التنوّع ثروةً ووسيلة للتكامل والاغتناء المتبادل.

ب. إعادة اللحمة بين مكوّنات كلّ بلد

تقتضي الحلول معالجة الأسباب التي أنتجت مآسي بلدان الشَّرق الأوسط، فتصل إلى سلام عادل وشامل ودائم. ومن الواجب إعادة اللحمة بين مكوِّنات هذه البلدان، والعمل على المصالحة بين الدين الواحد بمختلف مذاهبهم، والكفّ عن استعمال أصوليّين إرهابيّين وتكفيريّين ومرتزقة، ودعمهم وتمويلهم وتسليحهم، فيرتكبون الجرائم بحقّ الإنسانية وتجاه الله، فيما هم يقترفونها باسم الدين من أجل تبريرها.

ج. فصل الدين عن الدولة وقيام الدولة المدنية

ولكي تتمكّن دول الشّرق الأوسط من أن تنعم بسلام عادل وشامل ودائم، ينبغي عليها، بموآزرة الأسرة الدولية، إذا شاءت هذا السلام، أن تعمل على فصل الدِّين عن الدولة وقيام الدولة المدنية. وعندئذٍ فقط لا يعود الدين يستولي على السياسة، ولا السلطة السياسية توظّف الدّين وتضعه في خدمة مصالحها، ولا المنظومة الفقهية الدينية تسيطر على مقتضيات الحداثة. فالعصبيّة الدينية قد تحقّق حلمها بدولة خاصّة بها، ولكنّها لن تستطيع أن تحقّق الأمن والأمان والسلام، مهما امتلكت من مال وسلاح ونفوذ ودهاء. ومعروف أن العصبية التي تأكل أعداءها، إنّما تأكل ذاتها أيضاً.

فلا بدّ من من نشر فلسفة الدولة الحديثة القائمة على المساواة والعدل واحترام كرامة المواطن وحرية التعبير والدين والمعتقد، والمحافظة على المقدسات والتراث.

د. ما يختص بسوريا

وفصول هذه الكوارث الإنسانية حلت أيضاً بسوريا التي عرفت سابقاً أماناً وسلاماً تفتقده الآن. إن النزيف السوري منذ ثلاث سنين ونصف لهو جديرٌ أن يعالج بروح الحوار والحل السياسي السلمي، وهذا ما نودي به منذ بدء الأزمة في سوريا. ومن هنا دعوتنا لأن ينظر المجتمع الدولي بعين الحق لما يجري في هذا البلد من إرهاب وتكفيرٍ وتمددٍ لتياراتٍ أصولية. لقد انتظر السوريون طويلاً الجهود الدولية التي لطالما اصطدمت بحائط الفشل. والمسيحيون السوريون، كغيرهم من أبناء الطيف السوري الواحد، قد عانوا من الخطف والتهجير والقتل وتخريب أوابد العيش المشترك وأوابد المسيحية المشرقية والعالم يتفرج. يبقى ملف أخوينا مطراني حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ أكثر من سنة صورة قاتمة لما يجري، وصورةً عن عدم مبالاة العالم والمجتمع الدولي الذي يتناسى بصمت مريب خطفهما.

رابعاً، نداء إلى الكتل السياسية ونوّاب الأمّة في لبنان

إدراكاً منّا لأهمية النظام السياسي في لبنان، الذي يفصل بين الدِّين والدولة، ويؤدّي الإجلال لله تعالى، ويحترم جميع الأديان وأنظمة أحوالها الشخصية، ويقرّ حرية الدّين والمعتقد مع سائر الحريات العامّة، فإنّنا نناشد المسؤولين والمواطنين المحافظة على لبنان دولة مدنيّة تستكمل روحها وعناصرها، لكي يصبح لبنان وطن الإنسان والإيمان، ومنارة حضارية في هذا الشّرق. ويصبح حقّاً بلد العائلات الروحية، لا بلد الطوائف والتزمّت الديني البغيض. لبنان الدولة المدنيّة غير الدينية يكون في الحقيقة دولة كلّ الناس ودولة الحقّ والوحدة الوطنية، لا دولة إمارات سياسية مذهبية، ويكون دولةً ترضي الله ولا تسيء إليه باستدعاء اسمه لمصالحَ شخصية وفئوية. بهذه الميزة يكون لبنان صاحبَ دورٍ نموذجي وسط دول الشّرق الأوسط، يضمنه رئيسه المسيحي. ولذا ندعو بإلحاح وبقوّة الكتل السياسية ونوّاب الأمّة لفصل انتخاب رئيس للجمهورية عن مسار الأوضاع والصراعات الإقليمية والدولية التي لم ترتسم أفقها بعد، والإسراع إلى التشاور الجدّي والتفاهم لانتخاب رئيس للجمهورية في أسرع ما يمكن، لكي ينتظم عمل المجلس النيابي التشريعي، وتسهل مهمّات الحكومة، وتستقيم الحياة العامّة، لاسيّما الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. إنّ انتخاب الرئيس واجب قبل اتّخاذ أي قرار بشأن استحقاق المجلس النيابي.