موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الثلاثاء، ٢٠ يونيو / حزيران ٢٠١٧
المقدسي انطون سابيلا يكتب من سيدني عن الغربة الحقيقية‎

سدني - انطون سابيلا :

أحياناً عندما أكون اقود سيارتي في سيدني وأنظر إلى الناس المارين على جانبي الطرق من خلفيات لا تتحدث الانجليزية فإن أول سؤال يتبادر إلى ذهني "ماذا يفعلون هنا ولماذا تركوا أوطانهم؟"

الغربة ليست أمراً جديداً، فالقبائل البدوية والبربرية وحتى الإنكشارية، كانت دائمأ تتنقل من منطقة إلى أخرى، ولكن عموماً فإن سكان المدن في العالم هم عادة أقل الناس ميلاً للهجرة لأن المدينة بثقافتها وحضارتها ومدنيتها تعوضهم عن الحاجة الإقتصادية وتظل تشدهم إليها.

ومع ذلك هناك إستثناءات نجدها خاصة في الشرق العربي حيث الحروب المتواصلة بين الصديق والعدو والغزوات العسكرية والنفسية بين ابناء الثقافة الواحدة والإضطهاد المبطن والعلني ضد الاقليات و" الغزوات" العشائرية والقبلية غير المنظمة للمدن، مثلما هو الحال في سوريا والأردن وفلسطين ولبنان والعراق، كلها جعلت ابناء المدن أيضاً ينضمون إلى مواطنيهم الريفيين في ركب الهجرة أو الغربة.

وكل مغترب أو مهاجر مهما كانت جنسيته له قصته، فمن هجرة الحروب إلى عامل الضيق الاقتصادي أو الإضطهاد والتمييز إلى القمع السياسي. وإذا كان بعض اللاجئين غير العرب هربوا من بلادهم بسبب الحروب فإن اللاجىء الشرق الأوسطي هرب بسبب كل هذه العوامل.

والغربة لا تقتصر على أبناء دين واحد أو قومية واحدة لكن غربة الاقليات هي الاقسى وألاطول والأشد إيلاماً، لأنها تقطع أوصال تاريخ تراثي عريق وتجعل المجتمع المحلي العريض يبدو وكأنه متخلف وغير أنساني مما يعرقل ازدهاره وتطوره.

ولفت نظري مقال كتبه الأمين العام السابق للجامعة العربية ووزير خارجية مصر الاسبق احمد ابو الغيط والذي قال فيه إن أكبر خطر يتهدد المسيحيين في مصر (وفي العالم العربي) هي عقلية سيادة الأغلبية على الأقلية التي تسيطر على عقول الحكومات المصرية المتتالية والشعب المصري (والحكومات والشعوب العربية الأخرى طبعاً).

وشرح الاستاذ ابو الغيط هذه العقلية بطريقة رائعة لكنه أحجم عن التوسع في بعض مظاهرها "لأن الجميع يعرفونها". واضيف على ذلك أن العقلية السيادية موجودة ايضاً في الدول الغربية لكن الفرق هي أن الغربيين لا يربطونها بالدين وانما بالقومية، كما انهم لا يجعلون المواطن الجديد يشعر بها لأن السيادية تشمل كل انسان يقبل قيم الوطن الجديد.

نعم، تبدأ الغربة في الوطن حيث وإن كنت تقبل القيم المحلية فإنك ما تزال تُعتبر "الآخر". والحقيقة المثالية في العصر الراهن أنه ليس هناك في أي وطن "آخر" بل هناك مواطنين، فمثلا عندما يذهب المواطن في استراليا إلى صناديق الاقتراع فهو لا ينتخب الكاثوليكي او البروتسانتي أو اليهودي أو البوذي او المسلم وانما ينتخب البرنامج السياسي لمواطنه أو حزبه بغض النظر عن ديانة المرشح أو خلفيته القومية. في وطن العقلية السيادية لا يمكن أن يحدث مثل هذا الأمر.

سمعت ذات مرة أحدهم يقول إن الذين لم يتركوا الوطن هم الأبطال. الحقيقة أن البطولة تبقى نسبية حيث أن تكون حول أقرباءك وحامولتك وعشيرتك أخف وطأة عليك من أن تكون في بلد جديد وغريب. كما أن الغربة ليست سهلة ولا هي جنة تجري من تحتها الأنهار. بالتأكيد فيها قصص الفرح لكن فيها ايضا قصص حزينة ومآسي وانقسامات عائلية وخلافات مالية وإلى ذلك من تبعات الإغتراب.

تجارب واختبارات الحياة في الوطن والإغتراب على حد سواء تستطيع أن تجعل الإنسان بطلاً، فالبطولة ليست مقرونة بالمكان والزمان ولا هي من شروط الحياة أصلاُ.

الغربة الطويلة تبدأ في الوطن الذي ما زال متشبثاً بماضي لم يعد يجدي التشبث فيه. الغربة تبدأ في الوطن ولا تنتهي بالعودة إليه لأن الإغتراب في الوطن أصعب كثيراُ من الإغتراب خارجه!