موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ فبراير / شباط ٢٠١٧
المطران كريكور أوغسطينوس: الصوم تمرُّس في الفضائل بالتوبة والتضامن

القاهرة - المطران كريكور أوغسطينوس كوسا :

في مطلعِ هذا الصوم الأربعيني المبارك، أُهدي إليكم سلاماً من الله الآب ومن ربّنا يسوع المسيح بالروح القدُس. وأستمطر بركات الله على ما ستقومُون به من صلواتٍ وما ستُقدِّمُون من أعمالٍ تقويةٍ وإماتاتٍ وتضحياتٍ خلال هذا الموسم الرّوحي الكبير، ليأتي بثماره المرجوَّةِ.

إن الصوم الأربعيني يُذكِّرُنا أولاً بالصوم الذي قام به الرّب يسوع على مدى أربعين يوماً من حياتهِ الخفيّةِ وبين حياتهِ العلنيّةِ وبدء رسالته التبشيريّة ومشروع سرّ الفداء والخلاص (راجع متى 1:4-11).

وكما كان صومُ المسيح مَقروناً بالصلاة المستمِرّة للآب، وتحضيراً مباشراً لإتمام الخلاص، هكذا أيضاً يقومُ صومنا الأربعيني بالصلاة والدُّعاء من أجلِ توحيد إرادتِنا بإرادةِ المُخلّص، فنثبت في مشروعه الخلاصيِّ، ونتحوَّل إلى أعضاء عاملينَ لإيصال هذه النِّعمة لجميع الناس.

غايات الصوم

أولاً: التوبة إلى الله

الغاية الأولى للصوم المقدّس، إلتزامنا إيمانياً وعملياً بمخطط الخلاص. وإذا كنّا قد إنحرفنا عن هذا الاتجاه، أو ضعفنا في السير بموجبهِ، أو ابتعدنا بخطايانا عن الإندفاعِ فيه، فإن زمن الصوم يتحوّل إلى زمن توبة إلى الله وإمتثال إرادتِنا لإرادتِهِ من جديد، وصولاً إلى خُضُوعِنا الكامل لمشيئتِهِ المقدّسةِ وإلى حياة البرِّ التي يمنحنا إيّاها بنعمتِهِ. لذلك تدعونا الكنيسة في هذا الزّمن إلى التمرُّسِ في قراءةِ الكُتب المقدّسةِ، وإلى الاستماعِ للوعظِ والإرشاداتِ، ومتابعة الرياضات الرّوحية في الكنائس والأديرة فَنَصِقلَ بها إيماننا من جديدٍ ونمتثلَ لمستلزماتهِ على كلِّ الأصعدة.

إنّ الكتاب المقدّس الذي وُضِعَ لتعليمنا وإرشادِنا في طريقنا إلى الله، هو الذي يُجدِّدُ لنا، في زمن الصوم، فضائل الإيمان والرجاء والمحبّة. كما أن قراءة الكتاب المقدّس تُنيرنا في معرفةِ خطايانا لنترُكها ونرمي عنّا أثقالها.

في زمن الصوم تدعونا الكنيسة للعودةِ إلى كلام الله مُلتمسينَ شفاءَنا الرّوحيّ وتجديد حياتنا والسيَر قُدُماً في طريق الخلاص التي تكتمل بالمصالحة بين المؤمن وربّهِ ومع إخوتهِ، وبتقدُّمِهِ من سرّي التوبة والمناولة الفصحيّة يوم عيد القيامة.

ثانياً: التضامن مع الفقراء

الغاية الثانية من الصوم تتمثّلُ بالصدقةِ والإحسانِ، ومشاركة الفقير والمُعَوزِ فيما نملك لكي لا يبقي إنسانٌ خاضعاً لحاجةٍ تُكبِّلُ حياتَهُ ولا آخر ينصرِفُ عن الاهتمام بأخيه كما علمّنا الإنجيل المقدّس في مثل الغنيّ ولعازر (راجع لوقا 19:16-31).

فالصوم بالتضامن والعطاء يشبه الصلاة التي لا مردودَ لها إلاّ إذا رسّخت في قلوبِ الذين يُقيمونها بِكُلِّ محبّةً بالله والقريب. وكلام الله واضحٌ حيث يؤكّدُ أننا لا نستطيعُ أن نُحِبَّ الله الذي لا نراه، إن لم نُحبَّ قريبنا الذي نراه: "إذا قال أحد: "إنّي أُحِبُّ الله" وهو يُبغِضُ أخاه كان كاذباً. لأن الذي لا يُحِبُ أخاه وهو يَراه، لا يَستَطيعُ أن يُحِبَّ الله وهو لا يراه. إليكُمُ الوصيّةَ التي أخذناها منه: من أحَبّ الله فليُحِبَّ أخاه أيضاً" (يوحنا الأولى 20:4-21).

لقد برزت هذه الغاية من الصوم، بكلِّ قوَّةٍ، في كُتًبِ الأنبياء وفي مقدِّمتِها سفر أشعيا النبيّ في القرن السابع قبل المسيح. في هذا الكتاب يقول الرَّب لِبَني إسرائيل الذين كانوا يَصومُونَ ولا يُقيمونَ العدلَ ولا يَكترِثونَ للرَّحمة: "إنّ الصومَ الذي أريدُهُ أن تُحِلَّ قيودَ الظُلم وتفِكَّ مرابطُ النّيرِ وإطلاقُ المسحوقينَ أحراراً، ويُنزعَ كلُّ نيرٍ عنهم، أليس هو أن تَكسِرَ للجائعِ خُبزكَ، وأن تدخل البائسين المطرودين بيتك، وإذا رأيتَ العُرْيانَ أن تكسُوَه وأن لا تتوارى عن لحمِكَ ولا تتهرّب من مساعدةِ قريبِكَ؟" (أشعيا 5:58-9). ويُضيفُ الرَّبُّ قائلاً: "إذا تخلّيتَ عن لُقمَتِكَ للجائعِ وأشبعتَ الحَلقَ المُعذَّب، يُشرِقُ نورُكَ في الظُلمةِ ويكونُ دَيجورُكَ كالظُهرِ" (أشعيا 10:59).

بهذا الكلام الواضح والرائع يَرتبِطُ الصومُ بالصدقةِ وعملِ الخيرِ منذ البداية: "فلا تَفْتُرْ هِمَّتكُم في عمل الخير" (تسالونيقي الثانية 13:3).

وعلى هذا يقول قداسة البابا فرنسيس مؤكداً التقليد عينهِ، مذكِّراً أن الرّبّ يسوع وهو الغني قد صار فقيراً لأجلنا. ولقد أغنانا بِفقرِهِ معلّماً إيّانا أن الفقرَ الإنجيليّ هو الفقرَ المقرونُ بالحبِّ والعطاءِ والتضحيةِ. لقد إرتبطَ فقر يسوع بالمحبّةِ التي عالجَ بها مآسي الإنسان الكبرى التي يتعرّضُ لها، ومنها مآسي "البؤس المادي والبؤس المعنويّ، والبؤس الرّوحيّ".

يقول قداسة البابا فرنسيس أن صومنا ليس صوماً منعزِلاً عن حالة الجماعة التي نشاركها المسيرة من قلب التاريخ إلى قلب الله. فإذا رأى الصائم إنساناً مصاباً بالبؤس المادي، أي كادحاً ومقهوراً وغير قادرٍ على أن يقدّمَ لأسرتهِ وذويهِ لقمة العيش ومتطلّباتِ الحياة بكرامة، فإنّ صومهُ هذا لن يكون مقبولاً لدى الله، إذا إمتنعَ عن مساعدة أخيه البائس بما له من إمكانيات. والأمر يصِحُ أيضاً في حال البؤس المعنوي على أشكاله. فكم من الناس صاروا عبيداً للخطيئة وللسقوط في اللاّ إنسانية بفعل الغوص في الإدمان وفقدان الذات؟

وكم من الناس أيضاً فقدوا إنسانيتُهم بفعل السقوط في دُنيا التجارة في الناس، صغاراً وكباراً، وفي الحياة الرّخيصة والدنيئة.

هؤلاء أيضاً هم بحاجةٍ إلى مجتمعٍ ينتشِلُهُم ويخلّصهم من هذه المآسي ليرتقوا مجدداً إلى الحياة الكريمة.

أما البؤس الرّوحيّ فهو بؤس الذين فقدوا في الحياةِ كلّ رجاءٍ.

يضيف قداسة البابا قائلاً: إننا مسؤولون عن إعادة الرجاء إلى قلوبهم، وعن وضعهم من جديد على دروب الحياة بدعوةٍ من اللهِ لنا ولهم على السَّواء.

ثالثاً: التمرُّس في الفضائل

هذه الغاية الثالثة من الصوم المقدّس تزيدنا وضوحاً في ضوء الغايتين السابقتين، أي غاية التوبة وغاية الّرّحمة والمحبّة للقريب. وهي غاية تقصدُ بها الكنيسة ترويضُ نفوسنا وتدريبها على البرّ والفضيلة عبر الامتناع عن الأكلِ والشربِ بالتبزير والإسراف واللجوءِ إلى القطاعة وحرمان الذّات من بعض مشتهياتها. فترسُم لنا الكنيسة المقدّسة قواعد أساسية نسيرُ عليها في فترة الصوم، مستلهمين التقاليد الرّوحية التي عرفناها في العهدين القديم والجديد وفي الحياة المسيحية منذ نشأتها. ودعوة الكنيسة للصوم الماديّ ولبعض الإماتات والحرمان الجسدي هي فرصة سامية لنا لنشترك بالآم المسيح مُتمّمين في أجسادنا ما نقص من هذه الآلام كما يقول لنا القدّيس بولس: "... فأتِمُّ في جسدي ما نَقَصَ من شدائِدِ المسيح في سبيلِ جسدِهِ الذي هو الكنيسة" (قولسي 24:1).

أيّها الأحباء

ونحنُ ندخل جميعا زمن الصومِ المبارك ونستعدُّ لتحقبقِ الغايات الثلاث التي نسعى إلى تحقيقها خلال هذه الفترة المقدّسة الاستعداديّة لأسبوع الآلام والقيامة، وهي غايات التوبة والتضامن الأخويّ والتمرُّس في الفضائل الإلهية والإنسانية، أسأل الله أن يبارك مسيرتنا الرّوحية هذه فنصعَد من خلالها إلى العيد بقلوبٍ راجيةٍ وطاهرةٍ وفرحة. كما أسألهُ تعالى أن يَمُدَّ يد الرّحمة على منطقة الشرق الأوسط المعذّبة والمتألمة، فتلين القلوب وتهدأ النفوس وتستيقظ الضمائر ويَتُوقُوا جميعاً إلى صنع السلام بروح المسامحة والمصالحة والغفران.

ومن أجل التوفيق في مقاصدكم خلال هذا الصوم المقدّس، ومن أجل أن يكون صومنا مثمراً اخترت لكم قراءات روحية من الكتاب المقدّس العهد الجديد، لترافقكم في التفكير والتأمل والمصالحة مع الله والذات والقريب.

أرفع صلاتي من أجل كل واحدٍ منكم لتتحقق أمنياتكم وتنقادوا بالفرح للإصلاح والوعظ وعمل الخير، وتكونوا على رأيٍ واحدٍ وتعيشوا بسلام، وإله المحبّة والسلام يكون معكم.

ولتكن نعمةُ ربّنا يسوع المسيح ومحبّة الله وشركة الرّوح القدُس معكم جميعاً، أنتم الذين في المسيح.

أتمنّى لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، مسيرة حياة روحيَّة مُثلى وتوبةً مقبولة وصوماً مباركاً، تحت عناية ورعاية الرّب يسوع، بشفاعة العذراء مريم أُمنا، والقدِّيس يوسف شفيع العائلات، وبصلوات القدِّيس غريغوريوس المنوَّر والطوباوي إغناطيوس مالويان وآبائنا القدِّيسين.