موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ فبراير / شباط ٢٠١٧
المطران الأنطاكي ينادي بلبنان الدولة والعلمانية والعروبة وفلسطين ويحبّ

بيروت - الأب جورج مسّوح :

المطران جورج خضر، المولود في طرابلس العام 1923، استطاع أن ينظر إلى الوقائع الدينيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة والوطنيّة بعين ناقدة، منفتحة، قابلة للنقاش. لم يقفل يومًا باب الحوار، بل كان يردّد دائمًا أنّ المسيحيّة هي ديانة "الكلمة" الذي صار إنسانًا، وأنّ كلّ رفض للحوار إنّما هو رفض للكلمة. أمّا الحوار الأحبّ لديه فهو الحوار الفكريّ الرصين القائم على تحدّي الذات قبل تحدّي الآخرين.

لم يؤمن جورج خضر يومًا بالحوار "الرسميّ" الذي تسوده اللياقات الاجتماعيّة والصور التذكاريّة والتصريحات الخشبيّة، بل آمن بالحوار الذي تسوده المحبّة والاحترام من دون الانتقاص من الصراحة والصدق قيد أنملة. وهو توصّل، بعد سنين طويلة أمضاها في الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، إلى اقتناع راسخ بأنّ الحوار على المستوى اللاهوتيّ قد لا يكون مجديًا، بل يجب أن يندرج ضمن إطار ما سمّاه "الإيضاح والاستيضاح". فالمسلم أو المسيحيّ عليه أن يكتفي باستيضاح بعض المسائل المشكلَة عليه لدى الآخر، وما على الآخر سوى إيضاح ما أُشكل على صاحبه. فالعقائد الدينيّة ثابتة، وليس من حوار في شأنها، وأي محاولة توفيقيّة قد تؤدّي إلى الوقوع في المحظور.

بيد أنّ المطران خضر آمن بإمكان الحوار على الصعيد الوطنيّ والإنسانيّ، وبخاصّة ما يتّصل بالعلاقات المسيحيّة الإسلاميّة وبهويّة الدولة الحاضنة للتنوّع الدينيّ في لبنان وسواه من الدول العربيّة التي فيها حضور مسيحيّ عريق. لذلك، أولى هذا الموضوع أهمّيّة قصوى، ولا سيّما أثناء الحروب الطائفيّة التي ضربت لبنان منذ العام 1975، وما بعدها، حيث استمرّ النقاش في شأن الدولة الواجب إقامتها كي لا تعود الحروب والفتن مرارًا وتكرارًا. ويمكننا التأكيد أنّ موقف المطران خضر من "الدولة" يعبّر عن عمق الوجدان الأرثوذكسيّ الكنسيّ والعلمانيّ في آن واحد.

تعبّر الرسالة التي وجّهها المجمع الأنطاكيّ المقدّس إلى الأرثوذكسيّين في بداية الحرب الأهليّة في لبنان (الحياة، 24 آب 1975)، لكونها رسالة صادرة عن أكبر مرجعيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، عن موقف تاريخيّ يذكّر بدور الأرثوذكس وشهادتهم في المشرق العربيّ. فالرسالة تعرض للتاريخ المشترك الذي يجمع الأرثوذكسيّين الأنطاكيّين مع مواطنيهم من الملل كافّة، وترسم رؤية لما يمكن أن يكون عليه دور الأنطاكيّين في المستقبل. فيدعو آباء المجمع، ومنهم المطران خضر، "أبناءهم" إلى الكفاح في سبيل إلغاء الطائفيّة، وإلى إسناد الوظائف على أساس الكفاءة وليس على أساس طائفيّ. لكن ما يعنينا أيضًا في هذه الرسالة إنّما هو تأكيدها أهمّيّة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيّين، ورفضُها "كلّ تراصٍّ مسيحيّ وكلّ كيان مسيحيّ للبنان". لذلك تعلي الرسالة من شأن الأرثوذكسيّين الذين تنكّروا "لإنشاء تشكيلات طائفيّة أو أن يكون هناك حزب أرثوذكسيّ". كما تشيد الرسالة بوعي الأرثوذكسيّين الذين حملوا "مع مواطنين آخرين مشعل التحرّر القوميّ (العربيّ) منذ القرن الماضي". ولا تنسى الرسالة، في ختامها، التذكير بقضيّة فلسطين والقدس وبـ"الولاء غير المشروط للبنان".

لا شكّ في أنّ التزام العيش المشترك يستند لدى المسيحيّين بعامّة إلى الخبرة الحياتيّة واليوميّة التي عاشوها في أوساطهم المختلفة. فالمطران خضر يتذكّر بحبّ فائق طفولته في أحياء مدينة طرابلس الإسلاميّة في شمال لبنان، ويعتبرها خروجًا من "حارة النصارى"، من غيتو النصارى، إلى رحاب العيش الواحد مع المسلمين، والانخراط في العمل الوطنيّ الجامع. في هذا السياق يقول خضر إنّ نضال المسيحيّين يتجلّى في "ألاّ يظلّوا حارة النصارى في دنيا الإسلام، بل أن يصبح الجميع مواطنين في أوطان، متساوين في الكرامة بحيث لا يبقى فضل لأحد على أحد في الوجود والحرّيّة" ("من وحي عيد الصليب"، النهار، 14 أيلول 1980). لذلك رفض خضر، منذ بداية الحرب، وطبقًا للرسالة المجمعيّة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة التي شارك في وضعها، أن يكون المسيحيّون كتلة واحدة ضدّ المسلمين، "فحضورك (أيّها المسيحيّ) ليس إزاء المسلمين بل مع المسلمين" ("المسيحيّة العربيّة والغرب"، في كتاب "المسيحيّون العرب"، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، 1981، ص 97)، و"لأنّ المسيحيّين كتلة المحبّة لا كتلة طائفيّة" ("الفاعليّة المسيحيّة أين هي؟"، النهار، 15 كانون الأوّل 1985).

ويذهب البطريرك إغناطيوس هزيم المذهب ذاته حين يرفض مبدأ التقسيم والكانتونات الطائفيّة، "لأنّنا نريد أن نكون في كلّ مكان إذ أنّ الوجود المسيحيّ أساسيّ جدًّا" (الأسبوع العربيّ، 28 تمّوز 1980). وهو نفسه يؤكّد أنّ "واجب الأرثوذكس الأساسيّ أن يكونوا جسر الوفاق. قلنا بالتنوّع والانفتاح وهذا من صلب عقيدتنا" (الصيّاد، 16 كانون الثاني 1985).

يرفض جورج خضر أيّ وحدة مسيحيّة سياسيّة عمادها الطائفيّة، فيقول: "نؤكّد أنّ الوحدة المسيحيّة ليست في التسمية ولا في كتلويّة الطوائف لكنّها في بلّوريّة الأفراد وإنجيليّتهم" ("الملتقى في النور"، النهار، 30 آذار 1986).

سياسة الإنجيل هي غسل الأرجل، وهذا يفترض أن تكون قضيّة المسحيّين في الشرق هي "قضيّة الإنسان العربيّ المقهور"، وقضيّة الحرّيّة المسلوبة والبؤس والجهل عند المسلمين والمسيحيّين على السواء. لذلك، سيّان لدى خضر مَن يحكم لبنان، المسيحيّ أو المسلم، فالشهادة المسيحيّة الحقيقيّة قائمة في ظلّ أيّ حكم، وليس في مستطاع أحد أن يمنعها، فيقول: "ليس مسيحيّ في العالم العربيّ يزداد عمقًا في معرفة المسيح أو تقوى مساهمته في سياسة بلده لمجرّد تبوّؤ المسيحيّين أو فئة منهم سدّة الحكم في لبنان" ("الفاعليّة المسيحيّة أين هي؟"، النهار، 15 كانون الأوّل 1985). الشهادة المسيحيّة في بلادنا تتقدّم على مسألة السلطة الزمنيّة وتفوقها أهميّة.

في خضمّ الحروب الطائفيّة كتب المطران جورج خضر: "يبدو لي أنّ الدولة العلمانيّة التي تحترم كلّ دين وترحّب بكلّ مواطن كفؤ في المنزلة اللائقة بخدمته هي الأقرب إلى قلب الله (...) ولا ننسينّ أنّ دولة للمسيحيّين أو دولة للمسلمين يمكن أن تكون أبعد الكيانات عن الحرّيّة والعدل وأنّ لها باسم الدين أن تبطل كلّ قيمة إنسانيّة وأن تجعل مجتمعها سجنًا رهيبًا. الدولة الدينيّة رهيبة جدًّا لأنّنا لا نعرف في التاريخ دولة كانت حقًّا حكم الله في الأرض ولكنّنا نعرف دولاً ثيوقراطيّة يتحكّم بها رجال دين كائنة ما كانت تسمياتهم يحكمون بنصوص هي من قريب أو بعيد لإلههم ويحكّمون شهوات هي من قريب لهم وعلى الناس" (الكنيسة والدولة، منشورات النور، 1982، ص 39-40).

لم يتوانَ المطران خضر عن الحكم على كلّ الدول الدينيّة من دون استثناء، مساويًا الدولة الدينيّة الأرثوذكسيّة، الأمبراطوريّة البيزنطيّة، بسواها من الدول الدينيّة الأخرى. هذه الجرأة الأدبيّة قلّما نجدها لدى سواه من القادة الدينيّين في لبنان الذين يسعون دائمًا إلى تجميل صورة الذات وتحسينها، وتشويه صورة الآخر وتقبيحها. كما نجده يقرّر عن حقّ أنّ أيّ حكم دينيّ هو حكم لرجال دين يزعمون أنّهم يحكمون باسم إلههم، لكنّهم في واقع الأمر يحكمون بأهوائهم وشهواتهم، أو بالأحرى تقودهم أهواؤهم وشهواتهم إلى الحكم بما يحكمون.

لذلك، يرفض المطران خضر إطلاق صفة "المسيحيّة" على أيّ دولة، فيقول: "أن ننعت الدولة بدين، أمر لا معنى له في الفكر المسيحيّ. الشخص وحده له أن يكون مسيحيًّا، وهو كذلك بالتواصل وليس فوق الشخص شيء. الدولة تركيبة لها أن تأخذ من الربّ معالم أو من الشيطان معالم، ولكنّها ليست عالم الوصال ولا عالم الوجوه" (الكنيسة والدولة، منشورات النور، 1982، ص 38). ويذهب خضر إلى القول بأنّ أيّ دولة، مهما كان مذهبها، تعتنق الحرّيّة والعدل هي كنيسة: "مسعى الدولة الحقّ أن تصبح كنيسة لا من حيث إنّها تكون على دين، أو رئيسها على دين، لأنّها بذا لا تخرج عن سطحيّة الدولة، ولكن بمعنى أن تكون أكثر اقترابًا من العدل، وأقوى اعتناقًا للحرّيّة. الدولة التي تُنعت بهذين هي شيء من كنيسة مهما كان تشكيلها المذهبيّ" (الكنيسة والدولة، منشورات النور، 1982، ص 39). والدولة التي تقمع الحرّيّات ولا تقيم العدل، فالكنيسة من واجبها أن تواجه الدولة أو أن تجابهها، "لأنّ روح النبوّة التي فيها يهبّ في أبنائها حركة واحدة تعوّدهم ألاّ يكونوا مع غيرهم شهودًا على زور الدولة".

في السياق عينه يقول خضر: "على افتراض أنّ لله أحكامًا تتعلّق بتنظيم الدولة - وهذا ما نشكّ فيه كثيرًا ولا نرى عنه نصوصًا كافية في الوحي - إنّما لا يبدو أنّ الحكم كما مورس في التاريخ وكما يمارس يمكن اعتباره، في أيّ بقعة من الأرض، انعكاسًا للنور الإلهيّ" ("الوطن الآتي"، النهار، 21 أيّار 1980).

من هنا، نجد المطران خضر يشكر لله زوال الأمبراطوريّة المسيحيّة التي شوّهت الإيمان المسيحيّ وارتكبت الجرائم باسم إله هو إله المحبّة، الإله الذي بذل دمه على الصليب، الإله غير الدمويّ، الإله الذي لم يبحث عن مُلك أرضي... فيقول: "لعلّ ما أنعم الله علينا به بعد أن تولّى العرب الحكم في هذه البلاد أن نشعر بأنّ مجد العالم، بذهاب بيزنطية عنّا، قد زال وأصبح وجه المسيح وحده مقرّ المجد. وقد جرّبنا، في لمحات، من بعد الفتح العربيّ، التحالف مع هذه القوّة أو تلك. ثمّ أعادتنا الخيبات إلى رؤية الواقع، وشدّنا إيماننا إلى أُخرويّة تمنعك من التوفيق بينها وبين استراحة في الأرض" (الكنيسة والدولة، ص 35).

في الواقع اللبنانيّ الراهن، يؤكّد المطران جورج خضر أنّه والأرثوذكس، بعامّة، "علمانيّون استراتيجيًّا، قائمون في النظام الطائفيّ حاليًّا، مشاركون فيه عن غير سوء ولا عصبيّة لكونه الوجه الحالي للدولة". ثمّ يذكّر هو نفسه بأنّ "الأرثوذكس، تاريخًا ولاهوتًا، لا يستطيعون أن يكونوا حزبًا ملّيًّا يستمدّ توجيهًا والتزامات سياسيّة واحدة من الأساقفة أو ممّن يفوَّض له أمر الأرثوذكسيّين دنيويًّا. نحن لا ننسى أنّنا فقط مجتمع كنسيّ ولكوننا كذلك لنا وجه حضورنا في السياسة. إنّه حضور مع الكلّ ومن أجل الكلّ انطلاقًا من التزامنا الإيمانيّ" (الكنيسة والدولة، ص 42).

موقف جورج خضر من الدولة، دينيّة كانت أو غير دينيّة، مؤمنة أو ملحدة، لا يتأسّس على هويّتها الظاهرة أو المزعومة، بل يقوم على مدى احترامها حرّيّة الإنسان وحقوقه وكرامته. فصفة الدولة لا تعنيه بقدر ما تعنيه المعايير التي تعتمدها في ممارسة الحكم. فالعديد من الدول العلمانيّة تتقدّم بأشواط أمام دول ذات صبغة دينيّة في مسألة احترام العدل والحرّيّة، وثمّة دول بلا دين للدولة تحترم أكثر من الدول الدينيّة القيم الدينيّة الأساسيّة.

العلمانيّة التي يتحدّث عنها خضر هي ذلك المجال الحياديّ وغير المنحاز، ذلك المجال المشترك الذي لا يدين بأيّ إيديولوجيا دينيّة أو غير دينيّة، والذي يحيا فيه كلّ مواطن فرد حرّيّته عبر ممارسة ما ينسجم مع اقتناعاته وبما لا يمسّ بحقوق شركائه في الوطن الواحد. علمانيّة خضر هي تلك العلمانيّة التي تحترم التنوّع الدينيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والإثنيّ والسياسيّ.