موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١٥ يوليو / تموز ٢٠١٧
المسيحيّة ليست تحصيل حاصل

الأب د. جورج مسوح :

يتفاخر المؤمنون بآيات إلهيّة تمتدحهم بأجمل الصفات وأحسنها، متغاضين قصدًا عن كون هذه الآيات تدعوهم إلى السعي كي يكتسبوا هذه الصفات بجهادهم وأعمالهم الحسنة. فليس مجرّد أن يرث المرء معتقدات آبائه وأجداده يرث صفات تتطلّب تكريس حياته كي يستحقّ أن ينالها.

يتباهى المسيحيّون، مثلاً، بأنّ المسيح دعاهم: "أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم" (متّى 5، 13 و14). وكذلك الأمر في الديانات الأخرى حيث المؤمنون هم "خير أمّة أُخرجت للناس"، أو "شعب الله المختار"... لكنّ التجربة التاريخيّة في الديانات التوحيديّة الثلاث أثبتت أنّ هذه الآيات والأقوال وأمثالها لا تقصد واقع المؤمنين الفعليّ بقدر ما تتضمّن دعوة إلى السعي الدائم للحصول عليها. بكلام آخر، هي ليست "تحصيل حاصل" !

غدًا تقيم الكنيسة الأرثوذكسيّة تذكار القدّيسين "آباء المجمع المسكونيّ الرابع"، وهم الذين في اجتمعوا في مدينة خلقيدونية، وأقرّوا عقيدة الطبيعتين في المسيح. في هذه الذكرى تقرأ الكنيسة النصّ الإنجيليّ الآتي من الموعظة على الجبل: "أنتم نور العالم... أمّا الذي يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السموات" (متّى 5، 14 - 19).

من النافل أن تعتبر الكنيسة هؤلاء الآباء، المعلّمين والمدافعين عن الإيمان المستقيم، "نور العالم"، لأنّهم أناروا العالم بنور المسيح الحالّ فيهم، لا بنورهم الخاصّ. هم ليسوا نورًا من طبيعة خاصّة بهم، هم بشر لم يصيروا نورًا لأنّهم نالوا المعموديّة، أو لأنّهم وُلدوا في عائلات مسيحيّة، أو لأنّهم تسمّوا بأسماء مسيحيّة... صاروا نورًا لأنّهم اقتدوا بالمسيح، قولاً وفعلاً وفكرًا، وبقدّيسيه الذين اقتدوا به. المسيحيّة طريقة عمادها الاقتداء بالمسيح.

المسيحيّة طريقة حياة. هذا ما يُجمع عليه المسيحيّون بناءً على كون "كلمة الله" الكائن منذ الدهور قد صار إنسانًا هو يسوع المسيح. الوحي الإلهيّ في المسيحيّة ليس كتابًا، بل هو يسوع المسيح. الله كلّمنا بيسوع المسيح لا بكتاب. يسوع هو الكلمة التي شاء الله أن يحدّثنا بها. لذلك شخص يسوع مكانته أسمى من الأناجيل. يسوع لم يأت بإنجيل مكتوب، بل الأناجيل وُضعت لتحدّثنا عن يسوع. لكنّ ذلك لا يلغي مركزيّة الأناجيل في حياة الكنيسة من حيث إنّها تتضمّن أهمّ تعاليم وعظات السيّد المسيح، كما أنّها المصدر الأساسيّ لاستقامة الرأي في الكنيسة.

هؤلا الآباء المعلّمون هم "نور العالم"، لكنّ المسيح يطلب منهم ومن جميع المؤمنين به في كلّ زمان ومكان ما يأتي: "هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات"، ويضيف: "أمّا الذي يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السموات" (متّى 5، 16 و19). لا يفصل المسيح ما بين التعليم والعقيدة من جهة، والعمل والأعمال الصالحة من جهة أخرى. هناك دعوة إلى التكامل ما بين الأمرين.

يقول أحد الكتّاب المجهولين من القرون الأولى في تفسيره لهذا النصّ: "فمَن يعلّم ويعمل بما يعلّم به يكن تعليمه حقيقيًّا. لكن مَن لا يعمل بما يعلّمه لا يعلّم شيئًا، بل يدان. إنّه لمن الأفضل أن يعمل المرء بدون أن يعلّم من أن يعلّم ولا يعمل بما يعلّمه. فمَن يعمل يصلح بعض الناس بمثاله مع أنّه يبقى صامتًا. ولكن، مَن يعلّم ولا يعمل به لا يصلح أحدًا، بل يكون عثرة للآخرين... لذلك يمجَّد الربّ على أيدي الذين يعلّمون ويعملون بما يعلّمون. ويجدَّف عليه على أيدي الذين يعلّمون ولا يعملون بما يعلّمون" (التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدّس، الإنجيل كما دوّنه متّى، الجزء 1- أ، منشورات جامعة البلمند، ص 192).

يسوع لم يتحدّث فقط مع الآباء المعلّمين وحسب، هو توجّه بالكلام إلى عموم المؤمنين به. فعندما قال: "أنتم نور العالم"، إنّما قصد كلّ المؤمنين به، وليس فئة خاصّة من أتباعه. لذلك ضرورة التناغم والانسجام لدى عموم المسيحيّين بين انتمائهم المسيحيّ الظاهريّ وانتمائهم الحقيقيّ ليسوع المسيح "نور العالم". لن يكون المسيحيّون "نور العالم"، فيما هم غارقون ومنغمسون في طائفيّتهم وتمييزهم بين أصناف البشر واستعلائهم على سواهم من الناس. لن يكونوا نور العالم ما لم يصير كلّ منهم على مثال يسوع الناصريّ.