موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٧ يونيو / حزيران ٢٠١٧
العيد: تأملات روحية وأبعاد إنسانية

عامر الحافي :

الاحتفال بالأعياد ظاهرة إنسانية قديمة، أشار القرآن إلى وجودها في مصر في الألف الثانية قبل الميلاد على لسان موسى عليه السلام {قال مَوعِدُكم يومُ الزّينة وأَن يُحشَرَ الناسُ ضُحًى} [طه: ٥٩].

جاءت تسمية العيد مرة واحدة في القرآن الكريم في خواتيم سورة المائدة على لسان عيسى عليه السلام، بعدما سأله الحواريون بأن يُنزل الله عليهم مائدة من السماء {قال عيسى ابنُ مَريَم اللهمَّ ربَّنا أَنزِلْ علينا مائدةً من السماء تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأَوَّلِنا وآخِرِنا وآيَةً منكَ وارزُقْنا وأَنتَ خَيرُ الرازِقِين} [المائدة: ١١٤]. والجميل في هذه الآية أنها دلَّت على أن العيد هبة إلهية، وآية على صدق المسيح وما جاء به، وما يزال أتباع المسيح عليه السلام يحتفلون بهذه المائدة إلى هذا اليوم من خلال "القداس الالهي"، وفي ذلك تصديق لما جاء به القرآن أيضا.

وعلى مستوى تشريع العيد في الإسلام، فإنه جاء عندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إل ى المدينة، فوجدهم يحتفلون بيومين يلعبون فيهما، فقال لهم: "إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر" (رواه أبو داود). ‏والعيدان -كما يقول بعض شرّاح الحديث-هما: "النيروز، والمهرجان"، وهما من الأعياد الفارسية التي تأثر بها العرب قبل الإسلام. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أبدلكم الله بهما" يؤكد ضرورة أن يقدِّم التشريع بدائل عملية تراعي طباع الناس وما جُبلت عليه نفوسهم.

من المعاني البليغة وراء مجيء العيد بعد انتهاء العبادة، الإشارة إلى أن أركان الإسلام لا تكتمل إلا بالفرح والسعادة، وهذا المعنى إلى جانب تأكيده لانسجام تعاليم الإسلام والاحتياجات النفسية والاجتماعية للإنسان، فإنه يوضح الطبيعة التفاؤلية لتلك التعاليم.

إن السعادة تكون على قدر المشقة التي تسبقها، فعندما يفرغ الإنسان من مشقة الصيام ومناسك الحج، فإنه يكون أكثر استعدادا لبلوغ مراتب السعادة المُثلى.

ومن المعاني الجمالية التي نجدها في العيد، ذلك التناغم بين تسميتَي العيد والفرح. فالعيد سمي عيدا لأنه "يعود كل سنة بفرح متجدد"؛ وهذا يجعلنا نستشعر الفرح باعتباره تلك "السعادة الأصلية" التي ينبغي للإنسان العودة إليها.

فالعيد هو تدريب على الفرح، وعودة بالإنسان إلى نقائه الطفولي، من خلال استجماع معاني ذلك النقاء في مسالك العبادة والتزكية والعطاء.

يحفز العيد إرادة السعادة في النفس الإنسانية، ويعيد إليها الأمل بالحياة، ويمدها بالقوة لمواصلة المسير، ومجاهدة مشاعر اليأس والإحباط.

العيد هو حاجة نفسية واجتماعية لا تقتصر على مجتمع بعينه، فالحاجة إلى العيد تنبع من حاجة الإنسان إلى الاجتماع والمؤانسة، حيث يزداد فرح الإنسان وسعادته عندما يشاركه فيهما غيره من الناس. فالشعور بالفرح هو شعور تفاعلي، يزداد قوة كلما شعر الإنسان به مع غيره. وعندما تجتمع مشاعر المودة والتراحم بين الناس إلى جانب تلك المشاعر الاجتماعية، فإن السعادة تكون في أعظم تجلياتها.

خلافًا لشعور بعض المتدينين الذين يجدون في أنفسهم ميلا إلى ترك الدنيا والزهد بمُتَعها، يمثل العيد جامعا مشتركا بين الدين والدنيا، فهو يعطي للمؤمن توازنه النفسي من خلال تعميق الإحساس بالفرح والرغبة في الحياة. وهذا ما نجده متمثلا بسلوك النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يستمع لجاريتين تغنيان، فدخل أبو بكر الصِّدِّيق وقال: "أَبِمَزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهمَّ بهما، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الغطاء عن وجهه، وقال له: يا أبا بكر، دَعْهُما فإن اليوم يوم عيد".

ورُوي أن الأحباش كانوا يلعبون في المسجد بالحراب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم، فجاء عمر رضي الله عنه، فأخذ كفًّا من الحصباء ليحصبهم به، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعهم يا عمر..". وفي توضيح الحكمة من لعب الأحباش في المسجد قال المصطفى: "لِيَعلَمَ اليهودُ والنصارى أَنَّ في دِينِنا فُسحة "(صحيح مسلم).

ثمة علاقة وطيدة بين السعادة الدنيوية، والسعادة الأخروية العظمى. فالسعادة التي يستشعرها المؤمن في العيد، تمثل قَبسًا من تلك السعادة العظمى التي سينالها أهل الجنة: {كُلَّما رُزِقُوا منها مِن ثَمرةٍ رِزقًا قالوا هذا الَّذي رُزِقْنا مِن قَبْلُ} [البقرة: ٢٥].

يمثل الإحساس بالنعمة، وشكر المنعم، منطلَقَيْن أساسيَّيْن لبناء تديُّن إنساني متناغم مع الحياة، ومنفتح على أتباع الأديان المختلفة. ففي أوقات السرور والفرح، ومشاعر التراحم والمودة، يكون الإنسان أكثر استعدادا لاحترام غيره، ونشر المَسرّة والمودة على الأرض.

(تعددية)