موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢٥ مايو / أيار ٢٠١٦
التديّن التفاخري

زليخة أبوريشة :

زمان.. كانت الناس تمارس دينها بصمت.. يعني يأتي وقت الصلاة فيقوم إليها من فرغَ من عمله أو عملها، دونما صخبٍ أو لفتِ نظر. يَجمعُ صلاة الظهر مع العصر من كان في وظيفةٍ، فلا يقتطع من وقتها لوضوئه واستنجائه واستغراقه في التعبّد، والناس على نافذة انتظاره، مرتاحاً مع نفسه كما في بيته، رافعاً أكمام بنطاله، مشمراً عن ساعديه، وفي يده إبريق الماء.

زمان.. كانت الناس تصوم بصمتٍ، لا تنتظر من أحدٍ أن "يراعي مشاعرها"، ولا تفرضُ على أحد امتناعاً عن طعامٍ أو شراب، لأنَّ "حرمة" الصوم تستدعي! فقد كانت "حرمة الصوم" تستدعي تذكّر الأخلاق والتعفّف، وتفقّد الجار والمحتاج ووصل الأرحام.

زمان... كانت الناس والنساء ترتدي ما تشاء، كاشفة الرأس والذراعين، أو بملاية لفّ خارجة من ميدان الشام. كانت الحشمة والاحتشام في النفس وفي العلاقات. زمان.. كانت المرأة تمشي في الشارع فلا يتحرّشُ بها إلا كل دنيء النفس، وما أقلّه! ولا ترمقها العيون مستنكرةً ما ترتدي، أو ما لا ترتدي، سائلةً عن دينها لأنها سافرة!

زمان.. كان الأذان بلا مكبّر للصوت، يُسمِعُ الجوار فحسب، ولما دخلت التكنولوجيا، كان صوت المكبّر طبيعياً متواضعاً، بلا ضجيج أو صراخ. ولم تكن خطب الجمع ولا إقامة الصلوات لتقتحم البيوت والآذان مع ما يتصادى من خطب جوامع أخرى في الجوار. فيختلط حابل الكلام بنابل أصوات الأئمة المتحمسين الذين سيحررون القدس والبلاد والمرأة من "الغرب الكافر" وثقافته "المتصهينة"!

من زمان.. لم تكن خطب الجمعة لتتناول غير الأخلاق وحسن المعاملة، ولم تكن المرأة والتحريض عليها موضوعاً أثيراً لدى الخطباء لتقوية شوكة الذكر في قمع المرأة ومحاصرتها ومصادرة جميع حقوقها وأولها حق الاختيار!
من زمان.. لم يكن يطرقُ الأبواب رجالٌ عراضٌ طوال، بدشاديش إلى منتصف ربلة الساق، ولحى لم يشذبها مقص، يدعون رجال البيت إلى دروس العشاء.. وما أدراك ما دروس العشاء!

من زمان.. كان القرآن هو المصدر المباشر للدين، ولمعظم الناس تفسير الجلالين. ولم يكن التديّن ليمرَّ عبر أي قناةٍ من قنوات المتأسلمين، أو دروس الوعظ التي يقودها غالباً أناس جَهَلةٌ متأدلجة ذات إِرَب وغايات! أو فضائيات مهووسة بالجنس تحت غطاء الدين، أو مراكز تحفيظ القرآن التي تحفِّظ معه ما تقوله السلفية والإخوان في عذاب القبر وعذاب جهنم وتكفير المختلف وكل ذي عقيدة أخرى، والعنف بأنواعه من اللفظيّ إلى الجسدي!

أما اليوم فيمكننا القول إن تديّناً تفاخريّاً هو الذي يعمُّ البيوت والدوائر الحكوميّة والخاصّة والنقابات والمدارس وسوق الخضرة والمولات والصيدليات والمستشفيات، بحيث يكفي أن يضع البائع مسجلاً يقرأ القرآن، ليجعله في نظر المشتري، تقياً ورعاً، بينما هو يغشك في البضاعة، ويغلو في الأسعار. ويكفي ذلك ليدَّعي الطبيب أنه من أصحاب الذمة والخلق.. إلى أن جميع الشعارات في الشوارع وعلى الجدران، تقول لنا حرفياً كم ابتعد أصحاب هذا الدين عن معناه ومبتغاه.

إنفاقٌ تفاخريّ يقابله تديّن تفاخريٌّ للتمنظر الكاذب بعيداً عن قيم العمل والإنجاز.. فانظروا في أنفسكم أيها المتفاخرون! فحديثكم عن الصلاة (أذّنَ؟ صلّيت؟ توضّأت؟) أكثر من حديثكم عن العمل والإنتاج والإبداع في حل المشكلات...

دعونا لا نفقد الأمل..!