موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٥ يونيو / حزيران ٢٠١٧
أقوال ذهبيّة من سدة موسكو البطريركية

القدس - الأب د. بيتر مدروس :

<p dir="RTL">استقبل مؤخّرًا قداسة البطريرك الأرثوذكسيّ كيرل وفدًا من أقباط مصر. وقد يستغرب قوم لقب &quot;قداسة&quot; لبطريرك موسكو وسائر روسيا للرّوم أي البيزنطيّين الأرثوذكس. ولكن في التّقليد الكنسيّ والتّاريخيّ تأتي أوّلاً &quot;روما العظمى&quot; التي كانت عاصمة الإمبراطوريّة الرّومانيّة ومقرّ كرسي القديس بطرس وخلفائه الأحبار الرّومانيّين أي البابوات إلى يومنا. ثمّ شاء التّاريخ، بعد سقوط الإمبراطوريّة، انتقال عاصمتها شرقًا، إلى بيزنطة &ndash;القسطنطينيّة&ndash; الّتي عُدّت فقط لذلك السّبب العمليّ الإداريّ &quot;روما الجديدة&quot; (حسب المادّة 3 من أعمال مجمع القسطنطينيّة الأوّل) أو &quot;روما الثّانية&quot;. حينها، تقبّل البابا لاون ذلك الواقع على مضض، موضحًا أنّ &quot;الأمور الرّوحانيّة لا تٌقاس بالظّروف الدّنيويّة&quot; أي السّياسيّة بحيث يبقى الحبر الأعظم الرّومانيّ أي البابا كبير بطاركة المسيحيّين لأنّه خليفة مار بطرس على كرسي روما &quot;القديمة&quot;، وليس لأنّه أسقف &quot;العاصمة&quot;، وقد أثبت التّاريخ تغيّرها من جهة، وزوالها النّهائيّ من جهة أخرى.</p><p dir="RTL">واعتنقت روسيا المسيحيّة وازدهرت فيها بحيث صارت موسكو تُلقّب &quot;روما الثّالثة&quot;. ولقد لمس العالم في حزيران 2016، وقت انعقاد مجمع أرثوذكسي بيزنطي في اليونان أُعدّ لهم منذ أكثر من اربعين سنة، لحظ غياب بطريرك موسكو وإنطاكية وسواهما، ولعلّه كان مؤشّرًا على ضعف فكرة &quot;الأوّل بين متساوين&quot; أو مفهوم &quot;أولويّة الشّرف&quot; من غير سلطة (كقولك في العالم السّياسيّ ملكة بريطانيا أو ملك بلجيكا أو هولندا أو إسبانيا...). وكما في الماضي، ظهر البون الشّاسع بين الماضي والحاضر أي القيمة المعنويّة الرّمزيّة الكبيرة لبطريركية القسطنطينيّة حيث أمسى المسيحيّون منذ قرون نفرًا قليلاً، والشّأن الواقعيّ الرّفيع الحاضر لبطريركيّة موسكو، &quot;روما الثّالثة&quot;، خصوصأ بعد أن استرجعت حرّيّة العبادة منذ التّسعينات من القرن الماضي.</p><p dir="RTL"><strong>اعتناق روسيا للمسيحيّة</strong></p><p dir="RTL">يبدو أن &quot;فوتيوس&quot; بطريرك القسطنطينيّة كان أوّل من أرسل أساقفة لهداية &quot;السلافيين&quot;. وفي فترة لاحقة، توجّه الشّقيقان الأسقفان القدّيسان كيرلس (سميّ البطريرك الحاليّ) ومثوذيوس، من مواليد تسالونقي في مقدونيا، شمال اليونان، إلى بلاد الرّوس وأعلنوا الإنجيل المقدّس بما فيهم لقوم من شمال البحر الأسود أي معشر &quot;الخازار&quot; الذين كان منهم خلق كثير قد اعتنق اليهوديّة في القرن الميلادي الثامن أو التاسع. ومنهم عدد كبير جدًّا من &quot;يهود&quot; اليوم، الّذين هم عبرانيّون لا بالعِرق&nbsp; بل بالدّيانة. وسرعان ما اخترع الشّقيقان كيرلس وميثوذيوس حروف الهجاء أو &quot;الأبجديّة الجلاجوليتيّة&quot; الّتي ستُعرف لاحقًا بـ&quot;الكيريليّة&quot; حيث دخلت الحروف اليونانيّة وغيرها ممّا لا مقابل له في لسان الإغريق. ونحو سنة 980 م اعتنق المسيحيّة الأمير فلاديمير (سميّ الرّئيس الرّوسيّ). ونعمت الكنيسة بالسّلام وقد تنصّرت مؤسسات الدّولة ورسخت أسس &quot;حضارة المحبّة&quot; (يوحنا بولس الثّاني).</p><p dir="RTL"><strong>من أقوال قداسة البطريرك كيرل: &quot;التّحالف مع العلمانويّة الملحدة المارقة&quot;</strong></p><p dir="RTL">انطلق البطريرك من معاناته ومعاناة وطنه وسائر شرق أوروبا بسبب الفكر المدمّر الحاقد على المسيحيّة والمناهض لكلّ دين، وذلك عندما طُمست الأديان، ولا سيّما المسيحيّة والإسلام. وتمّت على أصعدة عديدة عمليّات &quot;حشو الرّؤوس&quot; أو ما يُسمّى &quot;غسل الدّماغ&quot;. ولحظ قداسته أنّ &quot;مسلمين كثيرين مستاؤون &ndash;بل كلّ المسلمين- من الإلحاد الدّهريّ الدّنيويّ (لا العلمانيّ بل العلمانويّ)، وهم يتوهّمون أنّه أتى من الحضارة المسيحيّة&quot;. لذا، أصرّ البطريرك كيرل، على ضرورة &quot;اتّصال مباشر أفضل مع العالم الإسلاميّ وتفاهم أكمل&quot; مع زعمائه الدّينيّين والسّياسيّين ومفكّريه وعموم مؤمنيه لإزالة سوء فهم خطير&quot;.</p><p dir="RTL">وبالفعل أكّد البطريرك أنّ &quot;المسيحيّة هي أوّل ضحيّة وأكبر ضحيّة للإلحاد والدّهريّة والمروق وإفساد الأخلاق و&quot;طغيان النّسبية&quot; (البابا بندكتوس السّادس عشر) والسّعي الجهنّميّ لتدمير الإيمان ونسف الأسرة وقتل الأطفال وانحطاط الأزواج من ذَكَر وأنثى خلقهما الله &nbsp;يسكن أحدهما إلى الأخرى وجعل بينهما مودّة ورحمة (اقتباس غير حرفيّ من سورة الرّوم) وأُجبرت (بالمجهول) أغلبيّة المواطنين المسيحيّين قهرًا لا طوعًا على قبول الانحطاط من زواج بين رجُل وامرأة باركه الله وبنى الأسرة والمجتمع والوطن والإنسانية السليمة إلى تساكن &quot;مثليّين&quot;ترفضه روسيا بشدّة، شأنها شأن بطريركيات روما والقسطنطينية وإنطاكية والإسكندرية والقدس وسواها، ترفض رفضًا مُطلقًا أن تعترف به أو أن تباركه. &quot;فما جمعه الله لا يفرّقنّه الإنسان&quot;، كما ورد في الإنجيل الطّاهر بهداه ونوره. وما فرّقه الله، لا يجمعنّه الإنسان.</p><p dir="RTL">وهكذا فُرضت (في صيغة المجهول) في الغرب على الشّعوب المؤمنة المسكينة دهريّة علمانويّة مارقة معادية للمسيحيّة وخصوصًا للكنيسة الكاثوليكة وشقيقتها الأرثوذكسيّة بذريعة مقاومة دكتاتوريّة الملوك والقياصرة وظُلمهم للمواطنين ولا سيّما الكادحين. وسُنّ (في المجهول) قانون &quot;العلمانيّة&quot; بذريعة فصل الدّين عن الدّولة فنُفيت الدّيانة وأقصيت مع أخلاقيّاتها السّامية عن حياة الشعوب ومؤسساتها ولا سيّما التّعليميّة، وصار ذلك بشكل غير ديموقراطيّ ومستبد عاقّ عات منذ سنة 1905 في فرنسا، ومنذ 152 سنة في إيطاليا حيث قامت &quot;الجمهوريّة الموحّدة&quot; على رجال من خصوم الإيمان والكنيسة والمنتمين إلى جمعيّات ذات أسرار منهم جاريبالدي وكاميلو بنسو المعروف بلقب &quot;كونت كفور&quot;. وبالمناسبة، لا يجوز خلطه مع &quot;كافور الإخشيديّ &nbsp;الّذي كان من رقيق الحبشة وأصبح رابع حاكم إخشيديّ لمصر، في حين أنّ بنسو-كفور وُلد حُرًّا ولكنه &quot;استعبد النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا&quot;، حسب تعبير الفاروق، وأخضعهم للمادّة والدّهريّة، على إيمانهم المسيحيّ الكاثوليكيّ ، مستغلاًّ حقد بعضهم على الإكليروس. فتدهورت النّقمة على الإكليروس إلى حقد &ndash; والعياذ بالله- على الذّات الإلهيّة والإنجيل الطّاهر.</p><p dir="RTL">وخصوصًا في أيّامنا، يعاني المسيحيّون الأمرّين في الغرب، حيث &quot;الطّغيان والطّاغوت&quot;. وينسب بعضهم اللفظة الأخيرة العربيّة أيضًا إلى الكنعانيّة القديمة حيث تعني &quot;الضّلال&quot;. إنهما طغيان &quot;الفكر الواحد&quot; المتجبّر بالنّاس المقيّد لعقولهم الآسر لضمائرهم الّذي يأخذهم رهائن مستضعفة للإلحاد المفروض والمرفوض رفضه، والعلمانويّة الدّكتاتوريّة&nbsp; وانعدام الأخلاق، مع الانحراف والشّذوذ في &quot;اتّحاد مثليين&quot; (وهو ليس &quot;زواجًا&quot;) والتّلاعب بالأجنّة وقتلهم في الأرحام وما إلى ذلك من &quot;قوانين&quot; تغضب وجه الله.</p><p dir="RTL"><strong>البطريرك كيرل: إيضاح ضروريّ: &quot;لا تعتدي المسيحيّة على ديار المسلمين بل حكومات متحكّمة دهريّة علمانويّة دنيويّة&quot;</strong></p><p dir="RTL">قال قداسته بالحرف الواحد، في لغته الأمّ: &quot;ما أتت الحملات العسكريّة الغربيّة في ديار المسلمين وتدخّلاتها في شؤونهم للتّدمير لا للتّعمير، ولكي &quot;تفرّق لتسود&quot;: ما أتت من أناس مسيحيّين (إلاّ بالاسم) بل من أنظمة دنيويّة ملحدة دهريّة انطلقت من المصالح لا من المبادىء المسيحيّة. وهذا ما علينا أن نوضحه بصراحة وشفافيّة إلى العالم الإسلاميّ وخصوصًا إلى زعمائه السياسيين والدّينيين وموجّهيه ومفكّريه وعموم مؤمنيه&quot;.</p><p dir="RTL"><strong>خاتمة</strong></p><p dir="RTL">مع التّهنئة بعيد الفطر السّعيد، يحلو للمرء من هذا المنبر الأغرّ أن ينقل شيئًا من نور حكمة قداسة البطريرك الرّوسيّ الّذي تمّ في عهده ولأول مرّة منذ عشرة قرون اللقاء الشخصي بينه وبين قداسة الحبر الأعظم الرّومانيّ البابا فرنسيس. وبتواضع الحبرين وشجاعتهما تقاربت المسافة بين الكنيستين الشّقيقَتين. وها هو قداسة بطريرك موسكو يدلّنا، بنعمة الله، على طريق مبتكرة للتفاهم والتّعارف والمودّة بين المسلمين والمسيحيّين، بعد أن أعطى المثل الصالح، مع باقي بطاركتنا، &quot;في وداعة المسيح&quot;، للقسّيسين والرّهبان الّذين &quot;لا يستكبرون&quot;!</p>