موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٦ يونيو / حزيران ٢٠١٨
مونديال العرب

الياس خوري :

أعترف أنني لست من هواة كرة القدم الحقيقيين، وهذا لا يعني أنني لا أحب هذه الرياضة، فأنا نشأت في الاشرفية في بيروت، وكان ملعب «السلام»، الذي تحول لاحقاً إلى «مول»، يقع على مرمى حجر من منزلنا. حاولت في طفولتي أن أمارس اللعبة مع أقراني، لكنني لسبب أجهله كنت أصاب بالإعياء والسأم من ملاحقة الكرة طوال ساعة ونصف الساعة، وهذا قضى على مستقبلي الكروي، ومنعني من الالتحاق بفريق الدرجة الثالثة في «نادي السلام» كبعض أصدقائي.

لكن هذا الفشل المبكر لم يمنعني من الإدعاء بأنني أحب هذه اللعبة، وأنني من أنصار فريق «النجمة»، الذي شكّل ذاكرة رياضية لجيلنا، لكنني لم أذهب إلى الملاعب لتشجيع فريقي، بل كنت أكتفي بالتزريك لأقراني، عندما يفوز «النجمة» بالكأس.

حتى «المونديال» لم أحضره يوماً بشكل منتظم، بل كنت أكتفي بمتابعة مباريات نصف النهائي والنهائي، وأشعر بالحماسة من دون أن أدري لماذا.

لكن اكتشافي لكرة القدم حصل عام 1982، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان. لقد أدهشني كيف تحوّل المونديال إلى الوسيلة الترفيهية الوحيدة في مدينة كانت تئن تحت القصف. ثم أخذتني حمى الفرح عندما انتشر خبر غير صحيح عن إهداء باولو روسي، نجم المنتخب الإيطالي، لكأس العالم الذي فازت به إيطاليا للفلسطينيين والمحاصرين في بيروت.

يومها قررت أخذ أمور اللعبة بجدية، حاولت أن أتابع مجريات اللعبة في العالم، لكنني فشلت، وأنا هنا أعترف بعجزي، فهذه الرياضة الشعبية التي تحولت إلى الرياضة الأولى في العالم، يجب أن تؤخذ بجدية. إذ لا يعقل أن يكون العالم في قاراته الخمس يتابع المباريات، وأكون أنا جاهلاً لا يستطيع أن يشجع أي فريق بشكل جدي.

مونديال 2018 كان مختلفاً، فبعد قراءتي قصيدة فاروق مردم بك الفيسبوكية التي يُعلن فيها تبنيه لمنتخبي البرازيل وفرنسا، قلت آن الأوان كي أدخل في أتون اللعبة، وأتبنى منتخباً وأتابعه بشغف.

والواقع أن السبب الحقيقي لاهتمامي بالمونديال هو محاولة الهرب من الحزن الذي يلفّنا، بسبب هذه الهاوية المخيفة التي تسقط فيها بلاد العرب. فصور الموت السوري تترافق مع الغطرسة الاسرائيلية في فلسطين، ومع جنون المستبدين في كل أنحاء المشرق العربي وإلى آخره... قلت ربما تعطيني متابعة المونديال فسحة أهرب فيها من الأسى اليومي، وأستعيد شعوري بالانتماء العربي من جهة، وأتمتع بفنون كرة القدم، من جهة أخرى.

واقع هذه اللعبة الشعبية التي تحولت في طور العولمة إلى ميدان رأسمالي بامتياز، حيث تُنثر الملايين لشراء لاعب من هنا من أجل ضمه إلى فريق من هناك، جعلني أتردد، لكن الطقوس القومية التي ترافق المونديال: الأعلام والأناشيد الوطنية للفرق المشاركة، وإلى آخره… أقنعتني بالانحياز إلى الفرق العربية أولاً وخصوصا فرق مصر والمغرب وتونس، ثم إلى فرق الدول الفقيرة: نيجيريا والسنغال وفرق دول أمريكا الجنوبية.

وهنا بدأت الخيبة، فنجوم الفرق التي تنتمي إلى دول العالم الثالث، ليسوا فقراء، ولعل البرازيلي نيمار هو اللاعب الأغلى في العالم اليوم، أما انحيازي للمنتخبات العربية فقد أكد لي أن الحظ تخلى عني، فنحن لم «نستفتح» مرة واحدة، كما نقول بالعامية.

ووصل الاكتئاب إلى ذروته مع هزيمة مصر المروعة أمام روسيا، وأخيراً هزيمة تونس الساحقة أمام بلجيكا. هذا كي لا نتحدث عن الأهداف الخمسة النظيفة التي سجلها الروس في المرمى السعودي في المباراة الافتتاحية!

يا للخيبة، أربعة منتخبات عربية تخرج من الدور الأول، كأن فرقنا الوطنية ذهبت إلى موسكو كي تتلقى الأهداف.

أنا أعرف بالطبع أن تمثيل المنتخبات لبلادها ليس حقيقياً، إنه جزء من مسْرَحَة اللعبة، وبنيتها الافتراضية، كي يعطيها شكل متنفس للمشاعر القومية. فأغلب نجوم المنتخبات يمارسون اللعبة خارج بلادهم من المصري محمد صلاح إلى البرتغاني كريستيانو رونالدو إلى الارجنتيني ميسي، إلى آخره. فكرة القدم في زمن العولمة فقدت معناها القومي، حتى أساليب اللعب صارت متطابقة بفعل التدريب العقلاني، الذي حوّل الفرق إلى نسخ متشابهة، ما عدا بعض اللمحات التي يحاول النجوم صناعتها، من دون أن ينجحوا في الكثير من الأحيان.

رغم علمي بكل هذا لم أستطع أن لا أشعر بالعار وأنا أتفرج على السقوط. لا أدري كيف أقنعت نفسي بأن محمد صلاح، رغم إصابته يستطيع أن يقود المنتخب المصري إلى انتصارات تحفظ ماء وجهه ووجوهنا على الأقل، أو لماذا كنت متأكداً من أن المغاربة والتونسيين يستطيعون رفع نجمة شمالي إفريقيا ونجمتنا إلى الأعلى؟

المونديال بأسره هو وهم، إنه استعراض يتغطى باللغة القومية كي يستغل كل المكبوتات الجماهيرية، خلال شهر احتفالي، تلعلع فيه أصوات المعلقين، وتنتشر الحماسة موحية بمساواة وهمية بين الأمم.

ولمَ لا.

أليست مشاهدة مباراة تُركل فيها الكرة أفضل من مشاهدة الأقفاص التي سجن فيها ترامب أطفال المهاجرين؟

أليست مناقشة مباراة كروية أجدى من مماحكات السياسيين اللبنانيين التي تنضح تفاهة؟

أليس أي شيء أفضل من صور البؤس والعجز في حياتنا اليومية؟

للأسف كانت كل احتمالات تناسي واقعنا خاطئة، فجاءت هزائم المونديال نسخة عن هزائمنا، وخيباته امتداداً لخيباتنا.

لكن مهلاً، ففرص المتعة لم تنته، أو هذا ما أريد أن أقنع نفسي به.

ربما كان خروج المنتخبات العربية هو الوسيلة الوحيدة كي تخفّ عنا الضغوط المانعة للمتعة.

الآن نستطيع أن نتفرج من دون أي تورط في الحزن.

ولكن متعة كرة القدم تحتاج إلى أكثر من التفرج السلبي، فكي تندمج عليك أن تتماهى مع فريق. وهنا تكمن مشكلتي.

ومع ذلك لن أضيّع فرصة المتعة في المونديال، وعليّ أن أختار كي أتابع هذا الاستعراض المثير بشغف. ولم أتردد طويلاً فاخترت فريقين، الأول هو المنتخب البرتغالي الذي أدعمه من أجل كريستيانو رونالدو، فلقد تبرع هذا اللاعب الفذّ بجائزة «الحذاء الذهبي»، التي فاز بها عام 2012، وقيمتها مليون ونصف مليون يورو إلى أطفال غزة من أجل بناء المدارس، كما تبرع بسخاء عام 2016 من خلال منظمة «انقذوا الأطفال»، للأطفال في سوريا، مبدياً تعاطفاً عميقاً مع الشعبين السوري والفلسطيني. أما الفريق الثاني فقد اخترته من أجل نزار قباني وقصيدته «غرناطة»، فخلال أعوام المراهقة، أقنعنا هذا الشاعر السوري الكبير بأن الاسبان أحفادنا، ورغم رومانسية هذه القصيدة الملآى بالحنين، فإنها أعادتني إلى «جياد أمية»، وجعلت الخيار الاسباني هو الاستكمال المنطقي لخياري البرتغالي.

خياري المونديالي هو أندلس الذكرى، بعدما أضاعت المنتخبات العربية أندلس كرة القدم.

(القدس العربي)