موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الثلاثاء، ٥ يونيو / حزيران ٢٠١٨
’تـعـالـوا نَـعـْتـرف‘... كتب بشار جرار من واشنطن

واشنطن – بشار جرار :

 

حكومة تذهب وحكومة تـأتي ولا نقول إلا ما يرضي الله: لكل مجتهد نصيب، ومن أخطأ له ثواب الاجتهاد وشرف المحاولة. لكن الأمور هذه المرة بحاجة إلى مراجعة نفس أكثر منها محاسبة الآخر، أيًا كان ذاك الآخر خفيرًا أم وزيرا.

 

وما من مراجعة للنفس أصدق وأولى من أن تبدأ بالمصارحة والمكاشفة. نحن بحاجة يا سادة يا أحبة إلى الاقتداء بأحبتنا أبناء الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية. نحن بحاجة إلى اعتراف وإلى أب اعتراف. لن أخوض في الثانية حتى لا يشطح خيال أحد ويحمّل الخطاب ما لا يحتمل من معان ومرام جليلة سامية.

 

دعونا ندردش.. حديث القلب إلى القلب.. ماذا لو استلهمنا ثقافة الاعتراف بمعناها الكنسي الروحي لا الأمني القضائي. منذ سنوات تعرفت إلى طقس روحاني جميل ذي صلة بالتصوف المسيحي الأميركي يدعو فيه الكاهن الناس كافة إلى اختيار مكان ما في بيتهم، مكان عملهم، وحتى سيارتهم للحديث فيه مع اثنين لا ثالث لهما. تحدث إلى نفسك وتحدث (تواصل) مع ربك بمعنى الإنصات له سبحانه والحديث بين يديه جلّ جلاله. لكن للقاء عظيم كهذا شروطا مسبقة من طراز السهل الممتنع. فلا بد من الاعتراف أولا وقبل كل شيء.

 

ماذا لو اعترفنا في هذه الخلوة اليومية –مرتين على الأقل- بأننا لا ريب مذنبون وفي أحسن الأحوال مقصرون. إن تحقق ذلك كل شيء في دنيانا سيتغير. لن نعود قضاة ندين ونبرئ ونحاسب. على كرسي الاعتراف سنعرف حجمنا الحقيقي، فلا نتكبّر على أحد ولا نغترّ فلا يركبنا العناد بعد الغرور فتتوالى الشرور تباعا بين فعل وردة فعل.

 

لو اعترفنا لاتضّعنا، نعود أطفالاً قادرين على دخول ملكوت الله، بلا دنس ولا رياء، فنمتلك براءة الطفل، السر الحقيقي الكامن وراء شجاعته وسكينته في آن واحد. عندئذ نرى الأمور في حجمها الحقيقي، فنصبح قادرين على التعامل معها باقتدار لا هلع ولا تخبّط فيه.

 

لو اعترفنا بأننا إما مذنبون أو مقصرون، لعرفنا أن الحق الكامل أو الناقص من عندنا سيبقى بعيد المنال ما لم نخرج من سكوننا أو من برجنا العاجي للسعي إليه لدى الآخر. عندها فقط نتعلم حقيقة أننا نكمّل بعضنا بعضا. أننا أخوة وأحبة لا قيمة لأي منا إن مسّ الآخر سوء.

 

 

لو قمنا مشتاقين أو متثاقلين إلى كرسي الاعتراف صباح مساء لتغيرت المفاهيم، ومن ثم السلوكيات فالمواقف وفي المحصلة النتائج.

 

من هنا أسجّل اعترافي –كاتب هذه السطور– أنني من المقصّرين كثيرًا ومن المذنبين أحيانًا. أبدأ بذنوبي أقرّ ببعضها لضيق الوقت واعتبارات أخرى. من ذنوبي اليأس من واقع الحال والهجرة والخوف من الجهر بالحق والحقيقة دائمًا. ومما قصّرت فيه، ردّ بعض من جميل أهلي وحارتي ومدرستي وجامعتي ووطني الأم الأردن.

 

يترتب على هذا الاعتراف، تعزيز الدافعية بالعمل على "التوبة" وهي صنو "الاعتراف" وثمرته. بمعنى لو اتّضعنا وتطهّرنا من ذنوبنا وتقصيرنا عندها فقط نستطيع تحويل طاقة الندم الهدامة إلى طاقة توبة بناءة واثقة من المغفرة حيث تحل بها بركات الله رب الخلق والخليقة والمعمورة. الرب الذي نجثو على قدميه بدموع الرجاء الذي يحيل الحزن إلى فرح والشدة إلى رخاء.

 

فبعيدًا عن الشعارات الكبيرة والملفات الخطيرة، من "صفقة القرن"، إلى المديونية، مرورًا بالأسعار والضرائب، القضية -يا أحبة- أبسط مما نتخيل. فماذا لو لمرة أو لفترة، تركنا كل هذه القضايا الكبيرة للكبار، الكبار قوي على رأي "الزعيم" عادل إمام وركزنا عمل الروح لا الجسد على ما هو أولى وأبقى وأجدى.

 

لنأخذ على سبيل المثال الأسعار، فكل نظريات العالم وإداراته الاقتصادية والسياسية لا تقوى على كسر إرادة مستهلك مؤمن حكيم يقاطع ما غلا سعره ويقنن ما يضطر لشرائه. هذه الإرادة الاقتصادية تنميها رياضة روحية تعرف بالزهد والصوم. وقس على ذلك الكثير من الأمثلة. حتى الضرائب على قسوتها غالبا وظلمها في بعض الأحيان، لا ترد لا بالهيجان ولا بالعصيان إنما بهدوء الواثق من انتصار الحق والعدل والخير.. "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله".. سقطت روما كلها لا قيصر لوحده وما زال اسم الله يذكر ويمجد في كل مكان. الهدوء في هذه الحال، ثقة واستقرار، الشرطان الرئيسيان في نجاح أي اقتصاد في العالم أيا كانت توجهاته وأسواقه.

 

أختم بنكتة ذاك الزوج "سي السيد" الذي يتباهى مختالاً كالطاووس بأنه صاحب الأمر والنهي في القضايا الكبرى تاركًا الملفات الصغرى بيد زوجته حبًا وترؤفًا بها. لما سألوه طلبًا الاستزادة من حكمته وحنكته قال: أنا أتولى قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، وصراع الحضارات وحوار الأديان، أما زوجتي فبيدها ميزانية البيت وتربية الأطفال!!