موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأحد، ٢٢ يناير / كانون الثاني ٢٠١٧
’أمريكا أولاً‘.. قراءة في خطاب الرئيس ترامب

د. عدلي قندح :

بعد حملة انتخابية شرسة وخلافا لكافة التوقعات فاز السيد دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الامريكية وأدى اليمين الدستورية رسميا كرئيس خامس واربعين للولايات المتحدة ظهر يوم الجمعة الماضي في شرفة مبنى الكونغرس أمام حشد من مؤيديه وامام عدسات كاميرات محطات التلفزة الأمريكية والعالمية، جنبا إلى جنب مع نائبه السيد مايك بنس. وقد خاطب السيد ترامب حشودا من المؤيدين بقوله «نحن نشهد اليوم ليس مجرد نقل للسلطة من إدارة إلى أخرى، لكن نقل للسلطة من واشنطن العاصمة اليكم، الى الشعب. قائلا «الآن سيتغير الوضع. هذه هي لحظتكم.» وأضاف أنه «ولفترة طويلة جدا حصدت مجموعة صغيرة في العاصمة وأشنطن المكافآت من الحكومة في حين أن الناس قد تحملوا التكلفة.» وأضاف، «ازدهرت واشنطن ولكن الناس لم تشارك في ثروتها. ازدهر السياسيون، لكن الوظائف تُرِكْتْ وتم إغلاق المصانع.» بهذه العبارات الرنانة بدأ السيد ترامب الجزء الاول من خطاب تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الامريكية.

من الواضح أن لغة الرئيس ترامب غنية بالتلميحات ومن السهل الاستماع إليه والغوص في متعة اللحظة، فمثل هذه العبارات ما أن تقع على مسامع عامة الناس للوهلة الأولى لا يمكنهم الا تقبلها والترحيب بها والفرح لسماعها، ولكنهم لن يطيلوا لحظات الفرح والقبول بعد أن يتذكروا أن قائلها أحد أغنى أغنياء أمريكا وأحد الذين استفادوا من السياسات الاقتصادية والتجارية التي حكمت الولايات المتحدة الامريكية لعقود خلت، وبعد أن يتذكروا أنه استقطب لحكومته أغنى اغنياء أمريكا من أصحاب المليارات. وبذلك سيكون أعضاء الحكومة الامريكية الحالية أغنى أعضاء حكومة في تاريخ الولايات المتحدة. فبلا ادنى شك أن من بين الذين استفادوا من التحول الاقتصادي في الولايات المتحدة الامريكية في العقود الماضية، هم الرئيس واعضاء حكومته.

فوفقا لتقرير نشرته في ديسمبر مجموعة من خبراء في الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا بيركلي ومنهم توماس بيكيتي وإيمانويل سايز وغابرييل زاكمان، شهد متوسط الدخل قبل خصم الضرائب لأسفل 50 بالمئة من البالغين ركودا منذ عام 1980 عند حوالي 16 الف دولار للشخص الواحد، في حين أن متوسط الدخل ما قبل الضرائب لأعلى واحد بالمئة من البالغين من الشعب الامريكي ارتفع من 420 ألف دولار إلى حوالي 1.3 مليون دولار، حيث يمتلك أغنى 1 بالمئة الآن أكثر من 37 بالمئة من ثروات الأسر، ويمتلك حوالي 50 بالمئة من الشعب الامريكي الاقل دخلا (نحو 160 مليون شخص) أقل من واحد بالمئة فقط من الثروة. أمام هذه المعلومات والبيانات لا يعلم المحلل كيف يمكن أن يتم القاء اللوم على عوامل خارجية في مسالة انعدام الأمن الاقتصادي في أمريكا في الوقت الذي كان أشخاص مثل ترامب وحكومته من أكبر وأكثر المستفيدين الرئيسيين من القوى الاقتصادية التي أعادت تشكيل أمريكا خلال الحقبة التي انتقدها السيد ترامب.

المتفحص لخطاب الرئيس الامريكي السيد ترامب يلاحظ أنه قد اشتمل على عدد من الرسائل المهمة للداخل والخارج، أوضحت رؤيته للأعوام الأربعة المقبلة في البلاد، وألمحت إلى نيته لضرب بعض مراكز القوى هناك، المستفيدة من موارد الدولة والتوجه نحو رفع شعار «أمريكا أولا» في ميزان المصالح، على اعتبار أنه ليس واحدا منهم.

بمجمل الخطاب قدم السيد ترامب رؤية مظلمة لأمة تعاني من الانقسام والتفكك، والاستغلال والنسيان. وقد بدا الرجل أنه غير قادر على أن يكون رحب الصدر على الرغم من تكراره أنه رئيس لكافة الامريكيين واستعداده لتقوية التحالفات الخارجية القديمة وبناء تحالفات جديدة. وتشير أغلب التحليلات الى أنه من غير المرجح أن يتم تدريس خطاب التنصيب لفترة طويلة لطلاب السياسة كنموذج في الخطابة السياسية.

وفيما يتعلق بسياسة حكومته الاقتصادية الداخلية، أعلن ترامب عزمه تنشيط قطاع الصناعة في الولايات المتحدة واعادة استقطاب المصانع التي رحلت خارج أمريكا، وبناء طرق جديدة وجسور ومطارات وأنفاق وسكك حديدة في جميع أنحاء البلاد. أما فيما يتعلق بالسياسة التجارية والاقتصادية الخارجية، فقد أكد الرئيس الخامس والاربعين أن أي صفقة تجارية سيتم عقدها من الآن فصاعدا مع دول العالم، ستضع في الاعتبار الولايات المتحدة أولا، كما تحدث عن إعادة الحلم الأمريكي، مضيفا أن إدارته ستحمي الحدود وتعيد الوظائف إلى البلاد، في تطبيق لقاعدة بسيطة، وهي «اشتر منتجات أميركية ووظف مواطنين أميركيين».

يعتبر الأسلوب الخطابي للرئيس الجمهوري ترامب، المتسم بالمغالاة والتلميحات والمقارنات والانتقاد الصريح للسلف وللخصم، فريدا من نوعه في التاريخ السياسي الأميركي، فهو يستخدم الجمل القصيرة ومفردات يفهمها حتى الأطفال، كما أنه يكرر شعاراته. ففي عام 1987، كتب ترامب في كتابه «فن الصفقة» أن «قليلا من المغالاة لا يلحق الضرر» بأحد. وتؤكد الموظفة السابقة لديه بربارا ريس، «أن المغالاة التي تعتبر علامة تجارية حقيقية، هي من ثوابته منذ عقود.»

على الرغم من أن الرئيس ترامب خصص أجزاء من خطابه السلبي والمظلم للجريمة، والتجارة، والهجرة، وفرص العمل، وحتى العصابات، الا ان إشارته للرعاية الصحية كانت من خلال عبارة «تحرير الأرض من مآسي المرض» في اشارة الي نيته في مراجعة أو الغاء قانون الصحة الذي قدمه الرئيس السابق باراك أوباما.

وبمقارنة أبرز ما جاء في خطابات بعض الرؤساء الامريكيين السابقين بما جاء في خطاب الرئيس ترامب نجد ما يلي: في عام 1981، بعدما باشر رونالد ريجان خطابه شاكرا سلفه، أعلن أن «الولايات المتحدة تواجه محنة اقتصادية واسعة النطاق». كما وعد بإصلاح النظام الضريبي وأشاد بمزايا حرية الأعمال، وهما ملفان طبعا سنواته الثماني في السلطة. وقال «في ظل الأزمة الحالية، الدولة ليست الحل لمشكلتنا، بل الدولة هي المشكلة». ومنذ ذلك الحين انطلقت سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة جنبا الى جنب مع سياسات مارغريت تاتشر في بريطانيا. وفي خطاب تنصيبه، أعلن كينيدي (1961-1963) أن «الشعلة سلمت إلى جيل جديد من الأميركيين»، مجسدا بذلك المنعطف الذي سلكته الولايات المتحدة في الستينيات. وخاطب الأميركيين قائلا «لا تسألوا ما يمكن لبلادكم أن تفعل من أجلكم، بل ما يمكنكم أنتم أن تفعلوه من أجل بلادكم»، داعيا بذلك الى حس بالخدمة الوطنية ما زال مستمرا حتى اليوم. وقبل ذلك بعقود، سعى روزفلت (1933-1945) إلى تعزيز الثقة في بلد كان تحت وطأة أزمة الكساد الكبير، مشددا على أن «الأمر الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه.» أما لينكولن (1861-1865) فسعى إلى تضميد جراح الحرب الأهلية، فحض الأميركيين على التطلع إلى المستقبل «من دون ضغينة لأي كان، وبمحبة للجميع».

يلاحظ أن الرئيس ترامب في خطابه يوم الجمعة الماضي أخذ خطوة انسحابية شعارها «أمريكا أولا» شبيهة بالخطوة التي اتخذتها بريطانيا وهي الانسحاب من الاتحاد الاوروبي لصالح القومية البريطانية. فالموضوع الرئيسي في خطاب ترامب هو «امريكا أولا» وجعل كافة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والامنية تصب في خدمة وتحقيق ذلك الشعار. فهل سيتمكن من خدمة هذا الشعار وهل سيتمكن من البقاء في المكتب البيضاوي لمدة اربع سنوات؟ هذا ما ستظهره الايام المقبلة.