موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر السبت، ٩ يناير / كانون الثاني ٢٠١٦
نزعة التطرف والأعراض المبكرة

د. صبري ربيحات :

نقلاً عن "الغد" الأردنية

الأفراد الذين اعتقدوا أنهم يملكون الحقيقة الكاملة دون غيرهم، والمؤمنون بصحة مواقفهم وتفوق أحكامهم على من سواهم، هم أشخاص يتسمون بالتطرف. وهؤلاء موجودون بيننا؛ في البيت والشارع والمدرسة والنادي والجامعة، وفي المؤسسات العامة والخاصة، وكل فضاءاتنا. نصادفهم يوميا ونتحدث إليهم، ونعرف أننا لن نصل إلى نتيجة في الحوار معهم. بعضهم متدين، وبعض آخر له أيديولوجيا فكرية أو منظومة من العادات والمعتقدات التي يتعلق بها ويؤمن بمشروعيتها، ويحكم على الأشخاص والأشياء والأحداث من زاوية قربها أو بعدها عما يؤمن به.

بعض الأشخاص الذين أبدعوا في حياتهم يتبنون أنماط حياة تختلف عن حياة غالبية أقرانهم ومعاصريهم، ويعتقدون بصحة ذلك. فالمبدعون في العلم والفن والبحث والسياسة والرياضة، يكرسون جل وقتهم لما يقومون به، ويؤمنون بسلامة نهجهم وتفوقه على طرق إدارة الآخرين لحياتهم. لكن ذلك لا يدفعهم إلى تكفير الآخرين أو ازدرائهم والاعتداء عليهم.

تكمن خطورة التطرف في مواقف المتطرفين من غيرهم، واستعدادهم لاستخدام العنف من أجل إثبات صحة معتقداتهم ومواقفهم. وقد حدث ذلك في الماضي؛ فالظاهرة ليست جديدة، ولا تخص أمة بعينها أو ديانة دون أخرى.

في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وبعد نشوء النظام العالمي القائم على هيمنة الدول المنتصرة على المنظمات الدولية وتسييرها للعالم والتحكم في ضبط إيقاعه، شعر العرب والمسلمون بالكثير من التمييز والتهميش والظلم. وأسهم بناء القوة الجديد، وتبدي ملامح العولمة الأمنية والاقتصادية والثقافية، في ظهور جماعات معادية للانصياع لهذا النظام ورموزه، وداعية إلى إحياء الهوية الخاصة بالأمة الإسلامية والقومية العربية، متخذة من تحيز المعسكر الغربي لإسرائيل أسبابا لبناء مشروعها الإصلاحي النهضوي على أسس بعضها ديني، وبعضها الآخر قومي، إلى جانب الأيديولوجيات الأممية التي بشرت بالحرية والعدل والاشتراكية.

في العقود الثلاثة الأخيرة، ونتيجة تفاعل القوى الغربية مع هذه الحركات، والتعاون مع بعض منها في مقاومة الوجود الشيوعي في أفغانستان ودحره، توالدت هذه الحركات، ووجهت عدوانها إلى أهداف غربية وإقليمية، مستخدمة أيديولوجيا التكفير ومعاداة كل ما هو عصري، والتبشير بالنموذج السلفي لبناء مجتمع الإيمان والعدل والحرية والمساواة.

وكنتيجة للإقصاء والإهمال والتهميش وتأخر التنمية، ظهرت في الفضاء العربي جماعات ذات صبغة أصولية تكفيرية جهادية، عملت على اتباع مناهج مختلفة للدعوة؛ فنجحت في استقطاب آلاف الشباب المحبط ممن يعانون من الفقر والظلم والجهل، ويعترضون على أنظمة الحكم وأساليب توزيع الثروة.

الاستراتيجيات التي أعدتها الدول للوقاية من التطرف والإرهاب أخذت صبغة أمنية، إلى جانب تعديل المناهج وتغيير خطاب الدعوة والإرشاد. لكن التقدم على هذه المحاور ضعيف، كونه يفتقر لكثير من المتطلبات الضرورية لإحداث التغيير. والتغيير في المناهج لا يعني إلغاء الدين أو ثقافة المجتمع، وإنما تخليص محتويات مناهجنا من الخبرات والقصص والمضامين التي تعكس فهم وتطرف واضعي المناهج، ولا تعكس جوهر الثقافة والعقيدة التي أقبل الناس على اعتناقها بعدما شاهدوا تطبيقاتها من قبل الذين فهموا سماحتها وخلقها ومعاملاتها.

استراتيجية الوقاية من التطرف تحتاج وضوحا في الرؤية، وفهما دقيقا لطبيعة الظاهرة وكيفية نشوئها وتطورها، وعوامل تحولها إلى عنف، كما وجود مؤشرات تساعد على التنبؤ بتولدها، وخصائص البيئات والجماعات والظروف التي تساعد على ظهور التطرف وتحوله إلى عنف وإرهاب.

فعشرات من الشباب الذين التحقوا بتنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية، قيل إنهم أظهروا ميلا للانعزال، واتخذوا مواقف سلبية من الموسيقى والفن، وتجنبوا التعامل مع من اختلفوا معهم في الدين أو نمط الحياة، وتحدثوا مرارا عن الكفر، إضافة إلى استعداد واضح لاستخدام العنف والنظرة التشاؤمية. والكثير من الأشخاص الذين لا يتوقفون عن البحث عن هوياتهم، والمثقفون ممن لا يملكون معرفة عميقة بالدين، والمتعطلون الباحثون عن أدوار، وبعض الأشخاص ممن يناهضون الظلم.. هي فئات مرشحة للاستمالة والالتحاق بصفوف الجماعات الإرهابية.

كسب عقول وقلوب الشباب العرضة للاستقطاب من قبل الجماعات المعادية للحياة، يحتاج اهتماما أوسع بأفكارهم وأحلامهم، وإشغال أوقاتهم وطاقاتهم بأنشطة وفعاليات تحترم عقولهم وقدراتهم وقيمهم، أكثر من ترديد عبارات الإدانة والرفض، وتعريضهم لمحاضرات الإرشاد والوعظ.