موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٩
نبيل جميل سليمان يكتب: ثورة المعمدان، ثورتنا: أعدّوا طريق الرب

فانكوفر - نبيل جميل سليمان :

كان للأنبياء أصوات صارخة في برية العالم وما زالت كلماتهم تتردد صداها عبر الأجيال، لما يعانيه إنساننا اليوم من قساوة حياة وشظف عيش وظلم حكام فاسدين، لتصلنا كرسالة إلهية صافية هادئة صريحة وإن كانت صارمة مؤلمة مدفوعة الثمن أحياناً، ولكنها صحيحة نافعة غير متوقعة في كل الأحيان. فهم ينبئون وينذرون، يبشرون ويهددون، يعدّون ويتوعدون، يزعجون راحتنا ويقلقون ضميرنا ويشهدون للحق حتى لو اقتضى الأمر أن يصبحوا شهداء، فنقتدي بهم نحن أيضاً لندفع اليوم من الدماء ثمناً لها!

فالنبي إشعيا يبشر بالفرح والتعزية والرجاء لشعب الله: "عزُّوا، عزُّوا، شعبي، يقولُ الربُّ إلهكم"، ولكي يحدث هذا كان لا بد من "صوت صارخ في البرية: أعدّوا طريق الرب" (إشعيا 40 : 1-3). ويوحنا المعمدان هو صوتنا الصارخ وبطل الأنبياء وزعيم الشهداء، رغم أنه كان إنساناً بسيطاً يلبس وبر الإبل وعلى وسطه زنار من جلد ويأكل الجراد والعسل البري، ولكنه يعلن: "يجئ بعدي من هو أقوى مني، من لا أحسب نفسي أهلاً لأن أنحني وأحلّ رباط حذائه" (مرقس 1 : 7). ومع ذلك، وبالرغم من تواضعه فإن الجماهير الغفيرة كانت تخرج إليه من بلاد اليهودية كلها وجميع أهل أورشليم ليتعمدوا على يده في نهر الأردن. كما أن السيد المسيح أشاد بعظمته: "ما ظهر في الناس أعظم من يوحنا المعمدان" (متى 11 : 11).

فرسالة هذا النبي هي التحضير لمجيء السيد المسيح طبقاً للنبؤة: "ها أنا أرسل رسولي قدامك ليهيئ طريقك" (مرقس 1 : 1-8)، وهو الذي لا يحابي الوجوه أو يخاف من الملوك والسلاطين والمسؤولين، لذلك قاوم السلطتين الدينية والمدنية: "يا أولاد الأفاعي، من علمكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ أثمروا ثمراً يبرهن على توبتكم .. ها هي الفأس على أصول الشجر، فكل شجرة لا تعطي ثمراً جيداً تقطع وترمى في النار" (لوقا 3 : 7-9). وهو الذي قال عن هيرودس ملك اليهود: "لا يحلُّ لك أن تأخذ إمرأة أخيك" (مرقس 6 : 18). لذلك صبت هيروديا جام غضبها عليه وطالبت بقطع رأسه، وهذا ما فعله هيرودس حين قطع رأس المعمدان وقدمه لها على طبق بعد أن قبض عليه وزجّه في السجن .. حقاً، كان ثائراً وشاهداً للحق وشهيداً للحقيقة. فـــ "ثورة المعمدان" كانت ثورة التوبة والتغيير لإعادة إصلاح مفاهيم الإيمان ومنظومة الحياة وأخلاقية الجمال والغنى. فالإيمان هو الحياة والعمل، والجمال هو وجه الله في وجه الإنسان، والغنى الحقيقيّ هو الفقر بالروح من أجل الله / الإنسان. فهيئة المعمدان المتواضع بفقره الخارجي تدل بعمق قضيته وإيمانه بها وإندفاعه المستميت بما يقوم به: والغنى الحقيقي هو في حمل كنـز كلمة الله الخلاصية والتبشير بها، وأن الجمال وفرح المحبة هي في لمس قلوب البشر العطشى للحرية والعدل والسلام. فهل يمكن للمترفّه الفاسد والأناني الخائن أن يكون عادلاً ونزيهاً؟ وهل يمكن لرجل المصلحة والسلطة أن ينادي بالبذل والعطاء والخير العام؟

فكم كنّا بحاجة لهكذا بذرة نبوية في أيامنا هذه: لهذا الشعب الأصيل، لهذا البلد العريق "العراق"! وكم كنّا بحاجة إلى التعزية بعد كل الألم والعذاب! فأرض الحضارات، بعد أن أضحت أرضا حزينة كئيبة وأهلها كالغنم بلا راعي صالح، تحتاج لمن يرعاها ويخدمها ويحمل عنها الضيم والحرمان. نحن بحاجة لثورة معمدانية جديدة مبشرة بالفرح والرجاء، بعد أن سقط البعض منا في بحر اليأس بل ولفّ قلوب الكثيرين وأغرقهم في ظلام الظلم، وبات كل شئ وعراً وملتوياً ومعوّجاً. فالثورة ليست إنفعالاً غريزياً، وإنما هي فعل أخلاقي واعٍ، يدرك فيه الإنسان كرامة ذاته، وقيمة إرادته وعظمة حريته. فالثورة على الظلم والإضطهاد والفساد، هي ثورة على الخوف والأنانية أيضاً، وإنعتاق من سلطة النعرات الطائفية والعشائرية. لذا تحاول السلطات الفاسدة الحاكمة التشكيك في أخلاقية الثورة على الظلم والفساد، بل وتعتبره شكل من أشكال الترويج للطغيان. ومن هذا المنطلق، تقتضي منا الأخلاق الإنسانية أن نساند المظلوم مهْما كان دينه أو عرقه أو إنتماءه، وأن نرفض تأييد الظالم أياً كانت هويته. كما نجده عند النبي إرميا الذي يقف مع المظلومين قائلاً: "هكذا قال الرب: "أحكموا بالعدل وأنقذوا المظلوم من يد الظالم، ولا تضطهدوا الغريب واليتيم والأرملة، ولا تجوروا عليهم" (سفر إرميا 22 : 3).

- فالثورة قضية: قضية إنسان ثائر ضد الظلم والفقر والعوز، قضية كفاح من أجل لقمة العيش والكرامة ونيل حقوقه في وطن يضمن المساواة والعدل بين أبناء الشعب الواحد.
- والقضية ثورة: ثورة إنسانية، لا دينية، لا سياسية، لا حزبية، لا طائفية، شبابية، سلمية، عراقية بإمتياز.

حقاً وكأننا نعيش زمن المجئ الخلاصي، فهذه هي المرة الأولى ومنذ سنين طويلة نشهد تلاحماً وطنياً، وكأنها "معمودية" حلّت فيها الروح كالحمامة، جددت وجهنا وطهرت فينا وطنيتنا وإنسانيتنا وحبنا العميق لوطننا العراق في الداخل والخارج. شهدنا أصوات نبوية واضحة وصريحة، جريئة وقوية. جيل من الشباب لم يكن على بال أحد .. جيل نهض من صميم اليأس، أنه جيل الميلاد / جيل الخلاص، إستعداداً للعبور من زمن أزمة لزمن الخلاص. لأنه أختبار إيماني لخلاص النفوس وميلاد كلمة حق مفادها: كفى ظلماً ورياء، كفى حرباً ودماء، كفى قتلاً للأبرياء، كفى إستغلالاً للمساكين والضعفاء، كفى تسلطاً وتعسفاً على الفقراء. جيل يطالب حكامه الفاسدين بالتوبة والعودة عن طغيانه وظلمه والنظر إلى مصالح شعبه. جيل شبابي عفوي، صادق، واعي، مثقف، منصف، شجاع، جيل لا يبحث عن تفضيل نفسه بل يفضل كل ما هو إنساني في حب الوطن، أنه جيل الإنسان العراقي الجديد.