موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٩ يونيو / حزيران ٢٠١٨
نبض الاردني لقّن العالم فن الاحتجاج

اخلاص القاضي :

ماذا اقول في شعب لقّن العالم درسا جديدا في الحضارة والاخلاق , ماذا اقول بحق شعب عشق ترابه فاستلهم منه الصبر والحكمة والقبض على جمر انتظار فرج يأتي غامرا الحقول بعد سنوات عجاف ..

ماذا اقول كرمى لعيون شعب يشبه الام الحنون ، حيث تغضب من أبنائها استعراضا لما تبقى من قوتها , وتبكي في غرفتها المظلمة ندما لقسوتها المفتعلة ..

ماذا عساني ان اوصف شعبا يتقن فن الاحتجاج , يدرك لعبة التماهي مع شريكه في الوطن فيؤم الدركي بجموع المصلين من محتجين لا يرفضون قطرات الماء الموزعة عليهم من قبل افراد الامن , في مشهد يدمعك ويفرحك في آن معا , فكيف ارد الكريم , يروي عطشي ايمانا منه بجرحي والمي وفقري , ' فهو مثلي عاشق ' للوطن , ليبوح بما يخفيه من تضامن ومؤازرة وحيرة بين حماية الشعب من منطلق الواجب والخوف عليه من غضب مستحق , وبين الظهور باجمل صورة لتفويت الفرصة على متصيدي الصور التي تظهر للعالم زورا ان الاردن يعيش لحظاته الاخيرة على وقع شماتة تعليقات طفت على سطح منصات التواصل الاجتماعي وكأنها تنتظر ساعة الصفر , وهنا لن اتوقف عندها , فلا تستحق حتى التعليق , لان الرد جاء اردنيا وطنيا مزلزلا مؤديا لسقوط حكومة باقل خسائر تذكر , ومفضيا لاختيار شخصية وطنية جامعة ومشهود لها بخبرة زاخرة بالعلم والمعرفة والعقلانية , ولكن !

لم يعد سرا ان الاردن يعاني من فقر وهدر وبطالة وواسطة ومحسوبية وتباطؤ واضح في مسيرة الاصلاح , والقضية لا ترتبط بتغيير اشخاص بقدر تلازمها بتغيير النهج ومحاربة فعلية للفساد واعادة - مع سبق الاصرار -للاموال المنهوبة , وتعزيز منظومة النزاهة على الكبار قبل الصغار حماية لمؤسسية الدولة وقانونها , واتباع سياسة تقشف حكومي قاسية جدا تشمل كل الوزارات والمؤسسات والهيئات وموظفي الديوان الملكي العامر , ومنع الامتيازات المالية الاضافية عن اصحاب المناصب العليا منعا كاملا باستثناء رواتبهم , واعلاء شأن الحريات المسؤولة , واعادة الاعتبار لهيبة الدولة في كل ما يتعلق بادائها ودورها داخليا وخارجيا , وتعزيز العلاقات الاردنية الخليجية والعربية معا , بحيث نبقى على مسافة واحدة من الجميع دون اي يساومنا احد على مواقفنا ويقايضنا عليها ويمنع عنا المساعدات اذا لم نمتثل لهواه .. وايضا وايضا اطلاق يد الاعلام الرسمي بما يتناسب وثورة العالم الرقمي ومواكبته لحظية البث توازيا وسرعة ' السوشيال ميديا ' ,بمعنى اخر ' اصلاح سياسي واقتصادي وقانوني وتشريعي واجتماعي وسياحي وزراعي وتقني وتعليمي وصحي واعلامي وعلاقاتي .. اي اصلاح شامل بقطاعات الدولة كافة ' , على ان يكون اصلاحا حقيقيا مشفوعا بالرقابة والمتابعة والتقييم وقياس الاثر بنتائج ترضي المواطن وتنعكس على حياته اليومية والمعيشية , وابطال سياسة ' الضحك ع الدقون ' , و' كل شي تمام سيدي ' ..!

الفقرة السابقة كانت جملة طويلة معترضة ' بكسر الراء ' ومعترضة ايضا على عقلية كل الحكومات الاردنية السابقة التي لم تلتقط لا اشارات جلالة الملك عبدالله الثاني بضرورة الاصلاح باعتبارها طوقالنجاة البلد , وكأن الملك على جلال مقامه السامي ' يعمل لدى الحكومات وليس العكس ' كما لم تلتقط اشارات الشعب ' المعثر ' وحراكه الحضاري , لكن الاحتجاج هذه المرة ابرز حاجة الدولة برمتها للانصياع لمطالب الناس التي لم تكن يوما ترفا , بل كانت ولا زالت دفاعا عن لقمة العيش , عما تبقى من كرامة الانسان , عن الوجود , الكيان , الانتماء , عن عشق التراب والاصرار على البقاء بالوطن منعا للهجرات , منعا لتغريغ البلد من اصحابه , وقد صرنا ' زوارا عليه ' في ظل جيران لنا واخوة يشاركوننا الهواء والماء والمكان ..

اتحدى ان يكون في هذا العالم - خاصة هذه الايام - قيادة تستجيب لمطالب شعبها كما سيدنا ' ابو حسين ' , فهذا نهج الهاشميين الذين لم يعدموا , او ينكلوا , ولم يقصوا , او يقتلوا - في ظروف غامضة اي معارض - , قيادة امتثلت لقضية مطلبية حبلى بعنقود من قضايا متراكمة ..

ورأينا كيف تطورت الاحداث في غير بلد اثر خروج الناس للشوارع والاحتجاج على قضايا مصيرية , حياتية , اما في الاردن فتركيبة الناس وعقليتهم واصالتهم ونخوتهم وكرمهم ' حتى لو على حساب حقوقهم في كثير من الاحيان ' , مختلفة ونفاخر بها الدنيا , عقلية ما زالت تحترم ' لابس شعار الجيش ' , بل تهابه , هيبة الخائف عليه وليس الخائف منه , لان الاردني يعلم ان هذه المؤسسة العسكرية العربية المصطفوية هي بحق ' درع الوطن ' لا تحمي القيادة فقط كما بعض الانظمة الشمولية , بل سخرت كل طاقاتها لحماية الارض والعرض والمواطن وسياج الوطن .

في الاردن , شعب مغوار , ' يوم الوغى ' كله جيش , كله امن , كله مخابرات , كله درك ..

في الاردن ورغم كل شيء , ورغم ما قيل ويقال , رجال صادقون , ونسوة ' اخوة رجال ' يحولون معا اللحظة المطلبية الى انتصار , يسقطون حكومة بالترفع عن صغائر الامور , يحافظون على نظافة مكان الاحتجاج بعد فضه كل يوم , يحولونالمكان الى ساحة لقاء حضاري تمتزج به المطالب ب ' استراحة قصيرة لا تخلو من النكات والضحك ' ذلك اننا شعب مجنون بحب وطنه , وقد ' خنقنا ' به سياسيون فاسدون , لكن قلوبنا وضمائرنا وتاريخنا لا تطاوعنا على التواطؤ معهم لخنق الوطن , او اعتباره ' بنكا مفتوحا يسهل السطو عليه غب الطلب ' .

تكليف الدكتور عمر الرزاز ليس هو الحل , بل هو بداية مشكلة مستعصية , اذا لم تكن هذه الحكومة فعليا قادرة على حل كل قضايا الوطن المتراكمة , وضمن برنامج اصلاحي مشفوع بسقف زمني , واذا ما تم اختيار حكومة نزيهه , مشهود لكل فريقها بنظافة اليد والسيرة والوطنية والقتال من اجل الاصلاح وعدم المهادنة , والكف عن ترحيل الملفات , ليس اولها النظام الضريبي الظالم , ولا اخرها حل مشكلة النازحين السوريين , ولا اوسطها القضاء التام على الفساد والفاسدين ..

الاردن , قرة العين , ونبض الفؤاد , هذا الوطن الذي يحميه الله في كل مرة , يحصّنه من المتصيدين , من المتآمرين , من الشامتين , من الراجين رؤية الدماء تسيل في الشوارع الاردنية , من المتطلعين لبناء مخيمات لاردنيين في ديارهم , من الحاسدين لنا نعمة الامن , نعمة الاستقرار , نعمة ان الاردن - ورغم غلاء المعيشة فيه - يبقى ' ابو الفقراء ' ويبقى الملاذ الآمن لكل من قصده هاربا من ويلات ظلم او حرب او ديكتاتوريه او احتلال او تنكيل او تضييق .

هذا الاردن يا اخوان ' اردنا ' هذا الوطن ' مو لعبة ' بيد ' منتظري لحظة الصفر ' , هذا الاردن به قيادة تنحاز دائما للشعب , به قيادة تنطلق من كل تحركاتها الداخلية والخارجية من آماله وتطلعاته , به اجهزة امنية منطلقها الولاء والانتماء .

هذا الاردن ,يحتضنه شعب يدرك قيمه ترابه وسمائه وهواه , يدرك معنى الحياة به , شعب , يعلم اننا محاصرون لظروف محيطة مختلفة , لكنه ابى ان يشارك بحصار دولته بنفسه , او بحصار نفسه بها , بل حررها وتحرر من غضبه على من يدعون انهم رجال دولة ..

رجال الدولة يا سادة يحافظون عليها , ويفدون الغالي من اجلها , لا يستخدمونها فندقا ومنتجعا واستراحة محارب فقد كل اسلحته , وامتهن مضيعة الوقت بتغيير شكل مكتبه الجديد , وسياسات سلفه , وشكل سكرتيرته , ونوع سيارته , وفريق عمله الذي كان معه من ايام الحارة او الدراسة , حتى لو كان هذا الفريق ' اميّ لا يفك الخط ' !

رجال الدولة يا سادة ' يشمرون عن سواعدهم ' يغادرون مكاتبهم الى الميدان , يتابعون كل صغيرة وكبيرة , يشكلون قدوة لمن حولهم , يبتكرون حلولا جديدة , يبحثون عن كل وسائل الدعم لمؤسساتهم عبر برامج تنموية مدروسة قابلة للتطبيق تسهم في احداث اختلاف بحياة الناس , يتنازلون عن مكتسبات مالية لصالح الاقل حظا , لا يلهثون وراء ' المياومات والسفرات ' , يتنافسون فيما بينهم على تقديم تقارير شهرية تظهر مدى التقدم في وزاراتهم او مؤسساتهم , يعيّنون المناسب في مكانه , يحاربون الظلم , ينصفون المظلوم ..

هذا الوطن الغني , بفضل الله , بحب اهله , بخوفهم عليه , يليق به رجال دولة يعلون من شأنه , لا من شؤونهم الشخصية ..فكفى متاجرة بالوقت والناس والمقدرات , فالشعب لم يكن يوما ساذجا , بل انه من الذكاء بمكان ما جعله يصبر على الظلم حماية للوطن .

هذا الوطن لقن العالم درسا , لاتقوى ادبيات الكون كله على خط حروفه , لان الكاتب عصي , قوي , متمرد , متفهم , محب .. لان الكاتب ' نبض الاردني ' .

(عمون)