موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٩ مايو / أيار ٢٠١٨
ناجي خوري يكتب: شهر مريمي يعيدنا إلى عيد البشارة

بيروت - ناجي خوري :

بعد لقاءاتٍ عدّة أجراها الأستاذ ناجي الخوري بمناسبة “عيد البشارة”، تنقل إليكم “المدينة الجديدة” أعزّاءنا القرّاء مقتطفاتٍ لعدّة مقابلات كان قد أجراها في غضون الشهرين الأخيرين.

“يَختَلف المُجتَمَع السياسيّ عن المجتمع المدنيّ العاديّ. فخلال الحرب اللبنانيّة عشنا حروبًا وأزماتٍ عديدة. لم يكن المجتمع المدنيّ مسؤولاً عنها، بل “المجتمع السياسيّ” المُتَمثّل بالميليشيات. والدليل أنّها كانت تتقاتل في النهار وتطلق النيران على بعضها البعض وفي اليوم الثاني حين تستقرّ الأمور تتعانق كأنّ شيئًا لم يكن!

فلا مُشكلة بين اللبنانيّين المنتمين لطوائفَ عدّة، بل المُشكلة مُفتَعلة من قبل المجتمع السياسيّ الذي علينا تصحيحه. وبالرغم من هذا الواقع بقي وطننا بخير. وإذا كنّا غير مُقتنعين بأنّ العناية الإلهيّة هي التي تحمي هذا البلد فنحن غير مؤمنين، مسيحيّين كنّا أَمْ مُسلمين. وأنا شخصيًّا مُقتنع بذلك اقتناعًا تامًا.

مرّ وقتٌ لم تعرفْ فيه البشريّةُ إلاّ الحروب. من ولدَ في أوائل القرن الماضي، أمضى عمره يقرأ عن الحروب طوال القرن. لقد حان الوقت لأن ننتقلَ كلُّنا إلى المقلب الثاني. كلّنا، يعني كلّنا. علينا أن نُمْسِكَ بأيدي بعضنا البعض، حتّى المُتشدّدين بيننا، فلنأخُذْ بأيديهم لننتقل وإيّاهم إلى ضفّة المحبّة التي يدعونا إليها الله، ضفّة حضارة المحبّة، إلى ضفّة ثقافة المحبّة. ومريم هي التي تقدر أن تفعل ذلك. في المسيحيّة هي أمّ الله أمّا في القرآن فهي “أمُّ المسيح” أو أمُّ عيسى وقد ذكرت مريم ليس مرّةً أو مرّتين، بل ذُكِرت سبعًا وثلاثين مرّة، كما وأنّها المرأة الوحيدة التي ذُكرَت في القرآن الكريم.

أنا أؤمن أنّ القدّيسين والأولياء قدّيسون لأيّ دينٍ انتموا.من هنا بدأت مغامرتي: أنا مسيحيٌّ من منطقة جزّين وهي نموذجٌ للتعايش: في شمالها تقع بلدة المختارة الدرزيّة، في الغرب صيدا السنيّة، في الجنوب النبطيّة الشيعيّة. هي منطقةٌ عشتُ فيها بتفاعلٍ مع كلّ الديانات. كما أنّني وُلدتُ في منطقة “رأس النبع” وهي منطقةٌ مُختلطةٌ أيضًا. لم يكُن هناك فرقٌ بين الأديان بالنسبة إليّ كما كنت أمارسُ العمل الإجتماعيّ مع الجميع.

في أوائل سنة الألفين، وكنت في حينه مسؤولاً في مدرسة الجمهور، حلمتُ أكثر من مرّة بوجودي في ما يشبه خيمةً كبيرة، في وسطها مدرّج ولها فجوةٌ من فوق، وعددٌ كبيرٌ من رجالٍ ونساء يرتدون الأسود ويصلّون واقفين ورؤوسُهم مرفوعةٌ باتّجاه الفجوة. وأنا حاضرٌ بينهم، ألبسُ “دجينز وقميص” وأشاركهم الصلاة. وكان حلمي ينتهي هنا. كلُّ واحدٍ يُصلّي بمفرده وكما يشاء، ولكنّ الصلواتِ كلّها كانت تصعد من تلك الفجوة، وكان اللهُ يستقبلها بالطريقة نفسها. والجميل في الموضوع أنّ هذا الحلم كان يراودني مرّةً كلّ شهرين أو ثلاث.

وهنا بدأت أقتنع بفكرة أنّ المسيحيّين يستطيعون الصلاة معًا، كاثوليك وأرثوذكس وبروتستنت، وأن المسيحيّين والمسلمين قادرون على الصلاة أو الدعاء معًا. وأصبحت مهووسًا بهذه الفكرة لكن من دون أن أعرف من أين أبدأ.

وكان “لمريم” المداخلة، وقد تجسّدت بشخصٍ مسلمٍ سنيٍّ إسمه الشيخ محمّد نُقَري. كان الشيخ محمّد نُقَري قد أجرى بحثًا عن مريم عند الإسلام واقتنع بالأهميّةً التي يوليها لها الإسلام فكانت نقطة البداية التي تمّ الإلتفاف حولها.

تعرّفت على محمّد سنة الألفين إذ كنّا ننظّم لقاءاتٍ طلابيّة بين مسيحيّين ومسلمين. ومن ثمّ دُعينا على لقاءاتٍ مسيحيّةٍ-إسلاميّةٍ حواريّة، مكوّنة من أكثر من مئة شخصٍ مثقّفين ومؤمنين، أسْمَيْتُهم “الحواريّين”. يتحاورون ويتشاركون الخبرات ويدعون إلى التعايش والمحبّة. أدركتُ أنّ على هذه الجماعة أن تنطلق للخارج، نحو الآخرين. ففي إحدى الإجتماعات خرجت من اللقاء متوتّرًا، لاحظ الشيخ “محمّد نقري” ذلك فتبعَني، طلبتُ منه بقوّةٍ إن كان يسعُنا أن نصلّيَ معًا وأن يساعدَني في تحقيق لقاءاتٍ مسيحيّةٍ-إسلاميّة. وكنت في تلك الآونة أنسّقُ أعمال “اللجنة الروحيّة” لرابطة قدامى “مدرسة الجمهور”، وكان حاضرًا الأستاذ جاك متّى، والأستاذ روبير سيكياس، وغيرهم. فأوصلتُ للمجتمعين فكرتي حول اللقاءات بين المسيحيّين والمسلمين. وهُنا طُرح إسم السيّد “إبراهيم شمس الدّين”، الذي كان من الأوائل الذين شاركوا معنا في هذا العمل.

وهكذا، مع الشيخ محمّد نقري السنيّ والدكتور ابراهيم شمس الدّين الشيعيّ، بدأت اجتماعاتنا في الأوّل في تمّوز ال٢۰۰٦. كنّا نلتقي ثلاث مرّات في الشهر الواحد ونبني لقاءاتنا المستقبليّة حجرًا فوق حجر. لا زلت أذكر كلمات الأستاذ ابراهيم بحرفيّتها: “إنّ المشروع يتطوّر من إجتماع إلى إجتماع”. صحيحٌ أنّنا نحن من أسسّ، فنحن الأدوات، لكنّ مريم هي التي تعمل، ومن المهمّ أن نعرف ما يريده الله منّا. والمشروع مشروع مريم”.

بدأ اللقاء الأوّل في ٢٥ آذار ٢۰۰٧ ونُشر في جميع وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة. تفاجأ الرئيس ميقاتي، مثلاً، عندما رأى شيخًا يؤَذّن في كنيسة، وتفاجأ عندما عرف أنّ عائلته وأصحابه يشاهدون محطّة ال “تيلي لوميار وقال: “هذا هو لبنان”.

بلغنا من العمر إثنتي عشرة سنة. وفي كلّ سنة تشارك شخصيّةٌ مهمّةٌ في لقاءاتنا، كالرئيس العامّ للرهبنة اليسوعيّة، والسيّد علي فضل الله، ومندوبين من الأزهر… وهذا برهانٌ على أنّ ثقافةً جديدةً مريميّة، مسيحيّة-إسلاميّة قد عُمّمت. خرجت مريم من النصوص لتدخل النفوس. واليوم تحوّل اللقاء إلى عيدٍ وطنيّ بعد أن اتُّخذَ القرارُ بالإجماع في ١٨ شباط ٢۰۱۰.

أمّا هذه السنة، فقد التفَّ حول فخامة رئيس الجمهوريّة، مندوبو خمسين جمعيّة تُعنى بالحوار الإسلاميّ-المسيحيّ، في القصر الجمهوري. وخلال زيارة رئيس الجمهوريّة إلى الولايات المتّحدة في شهر أيلول الماضي، طالب فخامته المجتمع الدُوَليّ بتحويل لبنان إلى مركزٍ عالميٍّ للحوار بين الأديان وبتشييد مركٍزٍ للقاء الأديان والحوار، مرتبطٍ بالأمم المتّحدة، فيصبح لبنان بذلك مهدًا لثقافة المحبة وانعكاسًا للبنان الرسالة الذي تحدّث عنه البابا يوحنّا بولس الثاني. إنتقلنا من بعدها مع الشيخ محمد نقري إلى الأردن، وبواسطة الأب رفعت بدر، رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام تمّ لقاءٌ إسلاميٌّ- مسيحيّ ضمّ ٦۰۰ شخص، وقدّم خلال الإحتفال درعًا لنائب رئيس الوزراء الذي تمّ اللقاءُ تحت رعايته. واليوم يتابع هذا الموضوع رسميًّا في الأردن. ويجدر بالذكر أنّنا التقينا قبلها سموّ الأمير حسن بن طلال الذي هو من الوجوه الحواريّة البارزة في العالم!

لماذا؟ ولماذا بدأ مفهوم الحوار ينتشر في الدوَل المُجاورة؟ فقد أصبح ٢٥ آذار عيدًا رسميًّا أيضًا في مدينة الناصرة. كما صُدّرَ هذا المشروع إلى فرنسا وبلجيكا ومالطا وإيطاليا! ففي مدينة “ليون” أعطيَتْ محاضرةٌ لـمئتي شخصٍ غالبيّتُهم من المسلمين وكان الإصغاء كاملاً. وباتت تُحَضَّر كل سنة، ثلاثُ أو أربع دراسات دكتوراه جامعيّة حول الموضوع، هذا عدا الكُتُب والمقالات المكتوبة. هي ثقافة إسلاميّة-مسيحيّة مريميّة تتجلّى بالرسومات والموسيقى الأناشيد والكتب…

لماذا؟ لنظهر للعالم بأنَّ العيشَ معًا في هذه المنطقة ضروريٌّ للبقاء. فإذا لم يعرف المسيحيّون والإسلام واليهود في هذه المنطقة أن يعيشوا معًا ويجدوا نقاطًا مُشتَركَة لن يستطيعوا مُطلقًا أن يعيشوا كما يجب.

كيف يكون إذًا العيش معًا في هذه المنطقة؟ “العيش معًا” هو أن يجدوا نقاطًا مُشْتَرَكَة تَجمَعهم؛ وإن لم ينجحوا هنا، لن يستطيعوا مُطلقًا أن يعيشوا معًا كما يجب في أميركا أو أوروبا. كيف يكون “العيش معًا”؟ من خلال حياتنا اليوميّة، أن نعيش كل يوم باحثين في دياناتنا وعاداتنا اليوميّة عن الأمور المُشتركة مُغْتَنينَ من خبرة الآخر وعاداته، فنكبُرَ معًا.

هدفنا إذًا أن نبحث عمّا يجمع وليس عمّا يفرق. أتت الساعة لنشبُكَ الأيدي وننتقِلَ إلى ضفّة السلام لبناء ثقافة السلام وحضارة المحبّة. وهذا ليس بحلم”…