موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٨ يناير / كانون الثاني ٢٠١٣
موقع الدين في الصراعات السياسية

محمد السمّاك :

يبلغ عدد سكان العالم حوالى سبعة مليارات إنسان؛ 84 في المئة منهم ينتمون الى أحد الأديان. من بينهم 2،2 مليار مسيحي و 1،2 مليار مسلم. يعيش ثلثا المسيحيين في دول العالم الثالث، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ويعيش ثلث المسلمين في دول ومجتمعات غير إسلامية. وهذا يعني أن المسلمين والمسيحيين يعيشون جنباً الى جنب في معظم القارات. ولكن هل أنهم يعيشون معاً؟ أي هل هناك عيش مشترك بينهم؟.

يشكل المسلمون والمسيحيون نسبه 55 في المئة من سكان العالم (32 في المئة من المسيحيين و23 في المئة من المسلمين) أما أصحاب الديانات الأخرى فهم: الهندوس الذين يبلغ عددهم ملياراً (15 في المئة) والبوذيون، ويبلغ عددهم 500 مليون (7 في المئة). أما اليهود فيقدر عددهم بحوالى 14 مليوناً (0،2 في المئة). وهناك أصحاب عقائد دينية عديدة أخرى في الصين والهند واليابان وأفريقيا واستراليا والأميركيتين يقدر عددهم بحوالى 58 مليوناً (1 في المئة). من هذه العقائد الزرداشتية والسيخ والشنتو والطاوية، والبهائية والجينية.. إلخ.
وتكتمل الخريطة الدينية لسكان العالم بالإشارة الى أن ثمة 1،1 مليار إنسان (16 في المئة) لا يدينون بأي دين أو عقيدة إيمانية؛ أي أنهم يشكلون، من حيث الحجم، الكتلة البشرية الثالثة بعد الكتلتين المسيحية والإسلامية.

ففي بريطانيا مثلاً فإن ربع السكان يقولون (في استطلاع حول مدى انتشار الدين في المجتمع) إنهم لا يؤمنون بأي دين، وكانت هذه النسبة قبل عقد من الزمن أقل من ذلك بمعدل النصف. وحتى في الولايات المتحدة التي تعتبر أكثر دولة غربية متمسكة بالدين، فإن عشر السكان يقولون إنهم لا يؤمنون بأي دين.

وفي الواقع فإن علماء الاجتماع في الغرب، ومنذ القرن الثامن عشر توقعوا أن ينحسر دور الدين وأن يتراجع عدد المؤمنين بالأديان أو الملتزمين بتعاليمها. ولكن الأرقام تبين العكس. والوقائع تؤكد صحة النظرية المعاكسة التي قال بها الفيلسوف الفرنسي أندريه مارلو (مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول) "بأن القرن الواحد والعشرين يكون دينياً أو لا يكون".

لقد دالت امبراطوريات ما كانت تغيب عنها الشمس. وبقي الدين سيد المجتمعات مستمراً ألفية بعد ألفية، وكأنه نزل حديثاً. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الأديان السماوية فقط، ولكنها تشمل الأديان والعقائد العديدة الأخرى.

وقد أثبت الدين أنه أهم عامل في بناء المجتمعات وفي تماسكها واستمرارها. فالدين يجمع بين الأفراد والجماعات والشعوب حتى المختلفة عنصرياً والمتباينة ثقافياً والمتباعدة جغرافياً. وهو قادر على انتاج علاقات مبنية على الثقة تستطيع أن تتغلب على العواطف السلبية وأن تهزمها.

غير أن الدين يمكن أن يستعمل، وهو يستعمل بالفعل في إقامة حواجز معنوية، ومادية، بين الأفراد والجماعات. فالدراسات الدولية التي أجريت في عام 2011 تؤكد أن 47 في المئة من دول العالم تسنّ قوانين وتمارس سياسيات تفرض بموجبها عقوبات على من يتهمون بالزندقة أو بالردة أو حتى بانتقاد مفهوم ديني معين.

وقد شملت هذه الدراسات 198 دولة، فتبين أن 32 دولة (16 في المئة) أقرت قوانين ضد التجذيف والتكفير. وأن 20 دولة (10 في المئة) تنص قوانين الجزاء المعتمدة لديها على عقاب الردة، وأن 87 دولة (44 في المئة) تعاقب على أي نقد للفكر الديني (وليس للعقيدة الدينية) أو لرجال الدين.

تؤدي هذه القوانين التي تسنّ في الأساس بهدف صيانة الدين والمجتمع، الى نتائج معاكسة في بعض الحالات، إذ غالباً ما يساء استغلالها، أو يبالَغ في استغلالها الى حد التناقض مع المبدأ العام الذي يقول به الإسلام مثلاً، وهو "لا إكراه في الدين".. و"لكم دينكم و لي دين"، أو مع المبدأ العام الذي تقول به شرعة حقوق الإنسان حول حرية العقيدة.

وقد بينت الدراسات العالمية أن الدول التي تمارس تشدداً في القوانين التي تتعلق بالإيمان وبالتعبير عنه، هي أكثر الدول تعرضاً للصراعات الداخلية والى الاضطرابات الاجتماعية.

وتقول هذه الدراسات إن 59 في المئة من هذه الدول عانت من هذه الصراعات، وإن الاضطرابات ذات الأبعاد الطائفية تتضاعف بنسبة أربع مرات أكثر في الدول التي تمنح قوانينها المحلية أفضلية مطلقة لدين معيّن على الأديان الأخرى المنتشرة فيها. وكلما كانت القيود على هذه الأديان الأخرى أشد، كانت إمكانات الصراع أكثر.. وأعنف.

وتقدم الدراسة أمثلة على ذلك، مثل إسرائيل (يهودياً)، واليونان (مسيحياً)، والباكستان (إسلامياً).

هنا لا بد من الإشارة الى دور العوامل الخارجية في التسبب بإثارة الاضطرابات أو باستغلالها بين أهل الأديان المتعددة في الدولة الواحدة. فالدراسات تؤكد أن العامل الخارجي برز في 122 دولة من أصل 198، أي بنسبة 62 في المئة من الدول والمناطق التي شملتها الدراسات الميدانية. وبدا هذا الدور واضحاً في الدول الآسيوية (38 دولة من أصل 50). وفي دول جنوب الصحراء الافريقية (23 من أصل 48). وفي دول أميركا اللاتينية (8 من أصل 35). كما بدا وبنسبة عالية كذلك في أوروبا (33 من أصل 45 دولة).

فبين عامي 2009 و2011 ساهمت مؤثرات خارجية في إثارة اضطرابات دينية أو في اتخاذ إجراءات متشددة ضد الدين في 122 دولة في العالم.
ولاحظت الدراسات الميدانية أيضاً أن التأثر والتأثير المتبادلين قائمان بنسبة كبيرة خاصة في الدول العربية العشرين (الشرق الأوسط وشمال افريقيا). بمعنى أن ما يحدث في أي منها يؤثر في الدول الأخرى، أو أنه يتأثر بما يجري في الدول الأخرى.

وبدا ذلك أكثر وضوحاً بعد أحداث "الربيع العربي". فاستيلاء حركات دينية إسلامية على السلطة في تونس ومصر، لم يؤدِ الى وضع تشريعات متشددة تضيق على الأديان الأخرى فقط، ولكنه شجع حركات دينية مماثلة لها في الجزائر والمغرب وليبيا وكذلك في اليمن والأردن والسودان، على الاقتداء بها. ولقد تمكنت دول مجلس التعاون من أن تنأى بنفسها عن هذه التداعيات لما تتمتع به من انسجام وتجانس ديني واجتماعي، ولما تبديه من سماحة مع أهل الأديان الأخرى وبخاصة مع المسيحيين الذين يقيمون ويعملون فيها.

لقد كان للدين دور أساسي في تمكين الإنسانية من التغلب على كثير من التحديات التي واجهتها، وزودتها بقوة الاستمرار. ولا يزال الدين رغم تعرضه لتشويه السمعة ورغم تحميله مسؤولية الكثير من الحروب والصراعات الدينية، حاجة إنسانية لصناعة المستقبل.

فالدين قوة جامعة في عصر الفردية. وهو قوة اجتماعية خيّرة في عصر الأنانية الرأسمالية. ثم أنه قوة روحية سامية في عصر الإلحادية المادية. من أجل ذلك سقطت كل نظريات علم الاجتماع منذ القرن الثامن عشر التي توقعت نهاية الدين أو انحساره. وبدأت تتشكل نظريات جديدة تقوم على تفهم أعمق وأشمل لقدرة الدين على صناعة الإنسان والمستقبل.

والمدخل الى ذلك يكمن في فك الارتباط بين الدين والتوظيف السياسي للدين في الأزمات والصراعات بين الأمم والشعوب وحتى بين الشعب الواحد.

فالصراع بين المسلمين والمسيحيين في نيجيريا مثلاً هو صراع بين مزارعين ورعاة؛ ولا علاقة مباشرة للعقيدة الإسلامية أو المسيحية في هذا الصراع.

والصراع بين المسلمين والبوذيين في ماينمار هو صراع على ملكية الأرض، ولا علاقة للإسلام أو للبوذية في هذا الصراع. وحتى في المجتمعات الغربية (أوروبا أميركا) فإن الصراع يدور بين قيم اجتماعية غربية، وعادات وتقاليد اجتماعية حملها المهاجرون المسلمون معهم الى هذه المجتمعات. وليس للإسلام ولا للمسيحية علاقة مباشرة في التسبب به.

وحتى الصراع مع إسرائيل، فإنه ليس صراعاً مع اليهودية، وهي رسالة سماوية يؤمن المسلمون والمسيحيون بأنها وحي من الله، ولكنه صراع ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وضد انتهاك إسرائيل للحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه.

إن الأمثلة المدمرة على توظيف الدين في الصراعات السياسية، قديماً وحديثاً، أكثر من أن تعد أو أن تحصى. ولا شك في أن أبرز وأخطر هذه الأمثلة، الحركة المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة التي تقول بأنها تعرف ماذا يريد الله. وأن ما يريده الله هو إزالة فلسطين وإقامة إسرائيل وتجميع اليهود فيها تمهيداً للعودة الثانية للمسيح. وبالتالي فإن من يقصّر في العمل على تحقيق هذه الإرادة الإلهية يكون خصماً لله!!

ولكن الله، كما يقول البابا شنودة الثالث بابا الأقباط السابق في مصر "ليس سمسار عقارات". لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وفضّله على كثير ممن خلق، وكرّمه لذاته الإنسانية وأكرمه بأن يكون خليفة له في الأرض. والله الذي خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، أعطى لذاته الإلهية حقاً حصرياً في الحكم بين الناس يوم القيامة في ما كانوا فيه يختلفون.

إن الاختلافات الدينية والعقائدية القائمة بين السبعة مليارات إنسان سوف تبقى وتستمر حتى نهاية الزمن. ومن العبث إزالتها. بل إن من الحكمة تقبلها واحترامها لأنها في ذاتها علامة من علامات عظمة الله الخالق. ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة.. "ولا يزالون مختلفين".