موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١٤ سبتمبر / أيلول ٢٠١٩
من الدولة-الأمة إلى دولة المواطنة

فادي ضو :

برأيي، يُخْطئ المفكّر الأميركيُّ في الفلسفة السِّياسيَّة “فرنسيس فوكوياما”، مرَّةً ثانية. فهو كان قد أصدر في بداية التِّسعينيَّات من القرن الماضي، بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتِّحاد السُّوفياتيِّ والمنظومة الشُّيوعيّة كمشروع عالميٍّ، نظريّتَهُ في “انتهاء التَّاريخ”. عبّر عن هذه الفكرة في كتاب صدر له عام 1992، يَحمل عنوان: “نهاية التَّاريخ والإنسان الأخِير”.

اِعتقَد فوكوياما آنذاك أنّ المنظومة الدِّيمقراطيَّة اللِّيبراليَّة، انتصرت بشكل حاسم ونهائيٍّ على المستوى العالميِّ، ووضَعَت بذلك حدًّا للصِّراعات الإيديولوجيّة الكبرى. فالتَّاريخ ينتهي بالنِّسبة إليه عند هذه المحطَّة، الَّتي تُمثّل قمّة التَّطوّر البشريِّ على مستوى إدارة الإنسان لمسار التَّاريخ، والمنظومة القيميَّة المرتبطة بذلك. واعتقد فوكوياما أنّ العالَم دخل في مرحلة من تثبيت المنظومة الدِّيمقراطيَّة اللِّيبراليَّة، وانتشارِها المؤكّد في بعض المجتمعات والدُّول، الَّتي تخلّفت إلى ذلك الحين عن هذا الرَّكب الحضاريِّ، ولكنْ هي ملتحِقة به لا محالة. وقد عارضه آنذاك في رأيه، مفكّر أميركيٌّ آخر ذو شهرة عالمية “صموئيل هنتنجتون”، الذي طرح نظريّته المقابِلة تحت عنوان “صراع الحضارات”، في كتاب صدر عام 1996 بعنوان: “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النِّظام العالميِّ”.

لم تدُم نظريّة فوكوياما الأولى طويلًا؛ إذ حمَل القرنُ الواحد والعشرون معه -منذ بدايته- أحداثًا وصراعات، أكّدت أنَّ العالم ومساره السِّياسيَّ لا يزال مفتوحًا على احتمالات كثيرة، وأنّ المنظومة الدِّيمقراطيَّة اللِّيبراليَّة -على عكس ما اعتقَد- هي مهدَّدة بالتَّراجع، حتَّى في المجتمعات الَّتي انبثقت منها. فدفعه ذلك إلى إعادة النَّظر في طرحه، وتقديم نظريّته الجديدة “سياسة الهويّات”، الَّتي عرضها في كتابه الجديد الصَّادر عام 2018 تحت عنوان: “الهُويَّة: الحاجة إلى الكرامة وسياسات الاستياء”. فيعتقد فوكوياما أنّ المجتمعات الدِّيمقراطيَّة، تعيش اليوم حالة من “التَّفتُّت” بسبب تَقلُّص مفهوم الهُويّة؛ ما يقسم المجتمع إلى مجموعات صغيرة غير منسجمة، ويضرب النِّقاشَ والرَّأي العامَّ والعمل المجتمعيَّ المشترَك بين سائر المواطنين/ات، حيث يؤدّي هذا المسارُ -بالنِّسبة إليه- إلى فشل الدُّول وانهيارها.

لقد أَوضح أفكاره هذه -مُجيبًا على منتقديه- في مقال نشرهُ في مجلّة “الشُّؤون الخارجيَّة”، الَّتي تصدر في الولايات المتَّحدة، في عددها أيلول/سبتمبر-تشرين الأوَّل/أكتوبر 2018. حمَل المقالُ العنوان المعبّر الآتي: “ضدّ سياسة الهويّات: القَبليّة الجديدة وأزمة الدِّيمقراطيَّة”. يقول فوكوياما: “الاهتمام بالهُويّة اصطدم بالحاجة إلى خطاب مدنيٍّ”. فهو يعتقد أنّ التركيز على خبرة المجموعات الهُويّاتيّة، تُعطي “العالمَ العاطفيَّ للذَّات الباطنيّة” الأَولوِيَّةَ، على حساب المعالجة العقلانيَّة للمسائل في “العالم الخارجيّ”. يُؤدّي -برأيه- هذا المسارُ الأولويَّةُ، إلى التَّمسّك بالآراء الخاصَّة الصَّادقة، على حساب النِّقاش العقلانيِّ، الَّذي قد يُسهم في التَّخلِّي عن هذه الأفكار، وتطوير أفكار ومواقف جديدة.

ما الحلّ؟ لا يَعُدّ فوكوياما دعوةَ النَّاس إلى التَّخلّي عن هُويّاتهم الخاصَّة مُمْكِنةً؛ إذْ يرى أنّ هذا الأمر أصبح رئيسيًّا في طريقة تفكير النَّاس الحَداثَوِيّين/ات في ذواتهم، وفي المجتمعات مِن حولهم. لكنَّه يرى أنّه من الممكن العمل على تشكيل هُويّات وطنيّة شاملة، تحتضن التَّنوّع المكوِّن للمجتمعات الدِّيمقراطيَّة اللِّيبراليَّة. فبدلَ التَّنكّر لخبرات الأشخاص وهويّاتهم الخاصَّة، يمكن دعوتهم إلى إشراك حلقاتٍ أوسعَ من المواطنين/ات في قيَمِهم وتطلّعاتهم. فتُصبح بذلك الخصوصيّة عاملًا للتَّواصل مع الآخرين، بدل أنْ تكُون سببًا للتَّفرقة.

بعد خطئه الأوَّل في مقاربة المسار التَّاريخيِّ العالميِّ عبْر سياسة الإيديولوجيَّات، واعتقادِه الانتصارَ النِّهائيَّ للدِّيمقراطيَّة اللِّيبراليَّة، يُخطئ فوكوياما مجدّدًا في مقاربته للتَّنوّع الهُويَّاتيِّ، ودَوره في تَشكُّل المجتمعات والدُّول أو انهيارها؛ إذ يعتمِد على مبدأٍ طغى في الفلسفة السِّياسيَّة خلال القرن العشرين، ألا وهو قيام الدُّول على قاعدة “معتقَد الهُويَّة الوطنيّة”. فإنْ كان فوكوياما مُحقًّا في عدم إمكانيَّة تَجاوُز التَّنوّع الهُويّاتيِّ داخل الدُّول والمجتمعات الرَّاهنة، فإنّه لم يُصِب في طرحه للحلّ في بناء الوَحدة الوطنيَّة، مع عودته للاعتماد على مفهوم الهُويَّة الوطنيَّة، الَّتي يجب -برأيه- أن تنصهر فيها كلُّ مكوّنات المجتمع، ويتبنّاها المهاجرون/ات الجُدد.

يتجنّب فوكوياما الإشكاليّة، بطرح الهُويَّة الوطنيَّة الجامعة في قالبٍ “قَوميّ”؛ لعِلمه بِتَضارُب ذلك مع الاعتراف بالتَّنوّع الهُويَّاتيِّ الدَّاخليِّ للمجتمع. إلّا أنّه لا يرى سبيلًا آخر، إلّا بالاعتماد على وَحْدة هُويَّاتيَّة وطنيَّة، قائمة على “المُثل المؤسِّسة للوطن”.

يبحث فوكوياما عن سُبل استثمار التَّنوّع، والاعتراف بتعدّد الهُويّات داخل المجتمعات، من أجل ترسيخ الدِّيمقراطيَّة والوحدة الوطنيّة. لكن -برأيي-، اعتمادُه على مفهوم الهُويَّة الوطنيَّة كبابٍ لهذا الحلِّ، هو أساس الخطأ في طرحه. فإلى الآن، يتهيّب غالبيَّةُ المفكرّين/ات التَّخلّي عن مفهوم الهُويَّة الوطنيّة كأساس للدِّيمقراطيَّة، بسبب استمرار تأثُّرهم بالمقاربة القوميّة للدُّول. ولكن، ألمْ يحِنِ الوقتُ لطرح استبدال مفهوم “الدَّولة-الأمَّة”، بمفهوم “دولة-المواطَنة”، حيث تكُونُ المواطَنة كفعلٍ وقدرة على المشاركة، ولا تكُونُ “الهُويَّة الوطنيّة” هي الإطارُ الحاضن للتَّنوّع الهُويَّاتيِّ، أو قاعدةُ الاستثمار فيه على أساس التَّفاعل المُبدِع؟!

(تعددية)