موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١ مارس / آذار ٢٠١٧
محمد خروب يكتب: ’مسيحيو سيناء.. في محنتهم الراهنة‘

محمد خروب - الرأي الأردنية :

يصعب فصل ما يحدث في مدينة العريش من عمليات قتل وحرق وتصفية وتنكيل وتهجير لمسيحيي المدينة، عمّا يحدث في المنطقة العربية والمُخطّط الذي شرعت الجماعات السلفية والتكفيرية في تنفيذه، والهادف الى تصفية ما تصِفه ادبيات هذه الجماعات الارهابية ب«الأقليات المسيحية» التي لا تملك «حق» العيش في كنف «دولة الخلافة» التي تعكف هذه الجماعات المشبوهة، على اعادة «مجدها» والسير بها على «منهج النبوة»، كما يرفعها داعش في شوارع مناطق سيطرته.

ما حدث ويحدث في سوريا وقبلها العراق تجاه المسيحيين العرب، وهم ابناء هذه الارض وملحها ولم يكونوا ذات يوم ضيوفاً عليها او عابرين، لا يمكن فصله عن السياق العام الذي سعت اليه جماعات اسلاموية متطرفة ذات فكر الغائي واقصائي، الى تكريسه عبر الاستهداف المتواصل لمسيحيي الشرق والتطرف في التحريض عليهم والدعوة لمقاطعتهم وعدم طرح التحية عليه وتحريم عيادتهم او المشاركة في اعيادهم او زيارة منازلهم ومواساتهم, والأخطر من ذلك... النظر اليه كـ«ذميين» ونزع صفة المواطنة عنهم والتفنن في الاساءة اليهم، فيما اكتفت معظم الحكومات العربية بإصدار بيانات خجولة، تعيد تكرار عبارات نمطية ترطن بالوحدة الوطنية وعدم السماح بشق الصفوف، وغيرها مما لا تنسجم مع ما يحدث على الارض من ارتكابات تُقارفها الحركات الاسلاموية وجمهور المتعاطفين من خطابها التكفيري، ودائماً في اللجوء الى اساليب بالية من زيارات ومهرجانات ومؤتمرات كلامية لا تثير حماسة احد، وبخاصة عند ظهور «رجال الدين» مسلمين ومسيحيين, لإلتقاط الصور او القاء الخطابات التي تعج بصنوف من النفاق ولا تذهب للبحث في اسباب ما يحدث، بل تُركِّز على «النتائج» التي تنتهي بتبويس اللحى وتطييب الخواطر المكسورة التي يصعب.. «جَبْرها».

يدرك السياسيون وقادة احزاب ومنظمات المجتمع المدني وفي المقدمة الحركات الجهادية والتكفيرية، ان نجاح مخطط «تنقية وتطهير» المنطقة العربية من ذخرها المسيحي (نعم.. الذخر الحضاري والثقافي والاجتماعي والوطني) لن يتحقق إلاّ بتطبيقه في «مصر»، بكل ما يعنيه هذا البلد العربي الرائد والقائد من مكانة ودور وقدرة وامكانات, وبخاصة ان مسيحييه هم الاكبر عدداً والأكثر تأثيراً واصحاب الدور الوطني الكبير، الذي حمى مصر من التفكك والتقسيم، منذ ما يوصف في التاريخ الاسلامي بـ«الفتح العربي» لأرض الكنانة.. حتى الآن، ولم يكن اقباط مصر ذات يوم في غالبيتهم الساحقة، دعاة شرذمة او تقسيم او انسلاخ عن العروبة او انكار لما أحدثه هذا الفتح من «تغييرات» في المشهد المصري، الذي واصل «عنصراه» العمل على تكريس وحدة وطنية، تحفظ جغرافيّتها وتحافظ على استقلالها وتعتز بعروبتها وحضارتها الممتدة.

ولهذا كان «بابوات» الكرازة المرقسية على الدوام، في مقدمة الصفوف الوطنية دعماً لوحدة مصر وانتصاراً لدورها ودفاعاً عن استقلالها، ولم تكن مسألة «الدين» لديهم تتقدم على وطنيتهم او تشكل عائقاً امام الانخراط في الشأن الوطني العام، قبل حقبة الاستعمار البريطاني وغزوات نابليون وبعدها، وخلال العهد العثماني ايضاً، كذلك كان اتباع الكنيسة القبطية الارثوذكسية (وهم الاغلبية بين مسيحيي مصر) عنصراً رئيساً في حركات المقاومة ضد المستعمِرين الذين تعاقبوا على مصر، ولم ينجز استقلال مصر منتصف القرن العشرين، الا بمشاركة ابنائها جميعاً وفي ضمنهم أقباطها، وشواهد التاريخ... قديمه وحاضره ماثِلة.

المقدمة الطويلة هذه.. لا تروم الدفاع عن اقباط مصر الذين يتعرضون لحملة منظّمة من اجل دفعهم لهجرة بلادهم ووطنهم التاريخي المرتبط باسمهم تسمية وتاريخا، بل للاضاءة والتأكيد على أن المخطط الارهابي هذا الذي تنفذه المجموعات الارهابية التكفيرية، والسلفية الجهادية بتسمياتها المختلفة محكوم بالفشل، ليس لأن وقائع الايام المصرية اثبتت وعيهم وارتفاع منسوب وطنيتهم وقدرتهم على الصمود وإفشال مثل هذه الارتكابات الاجرامية، وبخاصة وطنية قيادتهم الكنسية، وانما ايضاً القول: ان ما ينفذه ارهابيو ولاية سيناء (وهم الذين بايعوا التنظيم نهاية العام 2014) سيؤول للمصير ذاته الذي انتهت اليه عمليات تفجير الكنائس في القاهرة والاسكندرية وصعيد مصر ومحاولات الإيقاع بين عنصري الأمة (المسلمون والمسيحيون) والتي أخذت نهجاً واضحاً منذ وصول أنور السادات الى الحكم بعد رحيل الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، واستعانته بالاخوان المسلمين والسلفيّين لمواجهة الناصريين واليساريين وارتفاع موجة ارهابهم في تسعينات القرن الماضي، وصولاً الى انتعاشهم وارتفاع صوتهم بعد تسلّم الرئيس الاخواني محمد مرسي مقاليد السلطة، في اختطاف موصوف لثورة 25 يناير وتنكّر لتضحيات الذين خرجوا في ميادين المحروسة، يطالبون حسني مبارك بالرحيل.

محنة مسيحيي سيناء الآخذة بالتفاقم بعد جرائم الدواعش في مدينة العريش، مرشحة للاستمرار اذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة وجذرية و«ابداعية» لقطع دابر هؤلاء الإرهابيين، وفي الآن ذاته لجم أي محاولات لاستغلال ما يتعرض له مسيحيو سيناء من تنكيل ومحاولات للمس بمواطنتهم او املاكهم او حقوقهم، وبخاصة ان البابا تواضروس بابا الكنيسة القبطية الارثوذكسية، يعي الاهداف التي يسعى الإرهابيون تحقيقها، فأصدر بياناً عميق المحتوى والدلالات يقول فيه: «ما يحدث.. انما يستهدف ضرب وحدتنا الوطنية وتمزيق اصطفافنا جبهة واحدة في مواجهة الارهاب، استغلالاً لحالة التوتر والصراع, المُستعِر في ارجاء المنطقة العربية».

قراءة دقيقة بروح وطنية صادقة، تصعب المزايدة عليها، والمطلوب ان يلتقي الجميع «معها» من اجل دحر هذه الموجة العاتية، التي تستهدف مصر بـ«عُنصِرِيْها» وبما تشكِّله من ضمانة للأمن القومي العربي.