موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٢٠ يناير / كانون الثاني ٢٠١٧
ما المواطنة؟

حسني عايش :

تستمدّ جميع قوانين حقوق الإنسان -بلا استثناء- شرعيتها وعالميتها من مبدأ واحد هو الكرامة الإنسانية، وتتسلسل منه. بينما يرى فلاسفة آخرون، مثل ريتشارد دجر، أنها تنبع من مبدأ الاستقلال الذاتي أو الحرية الذاتية (Autonomy)؛ أي حكم المرء نفسه بنفسه. بمعنى أن الحرية تبعاً لذلك هي مصدر حقوق الإنسان، والدولة موجودة لحمايتها بسلطتها المستمدة من الشعب.

تقابل الكرامة والحرية قضية لا تقل أهمية، هي قضيته المواطنة أو علاقة الفرد بالمجتمع، كما يقول دجر. أي إنه إذا كان الإنسان -حسب قاعدة أو مبدأ الاستقلال الذاتي أو الحرية الفردية- ينظر إلى داخله أو في نفسه لحكم نفسه، فإنه بالمواطنة ينظر إلى الخارج، أي إلى علاقته مع المجتمع؛ أو مع ما يسمى بالصالح الخاص والصالح العام. والدور الخارجي هذا هو الذي يقوم به الفرد كمواطن.

أما الفضيلة المدنية، فهي تصرّف أو ترتيب يتم به تغليب الصالح العام أو المصلحة العامة، على الصالح الخاص أو المصلحة الخاصة. والفساد هو أكبر عدو لهذه الفضيلة أو العلاقة، لأنه يهدد دور الفرد كمواطن، فيقلّصه أو يحطُّ منه. وقد ينتهي بجلوس طاغية على كرسي الحكم يجعل المواطن مجرد تابع له لا مستقلاً. في دولة القانون، لا يخضع المواطن لأشخاص، بل للقانون. فالقانون دائم والأشخاص عابرون؛ أي إنه لا يخضع لمطالب الحكام الذين يتصرفون بعيداً عن القانون، وإلا فقد صفة المواطنة أو الفضيلة المدنية. ومثلما يحمي القانون كرامة/ استقلالية (حرية) المواطن، فإنه يحمي متطلباته الخاصة أيضاً، على أن لا تصبح من الضخامة وسيلة لاستعباد الناس، أي للقضاء على استقلالهم الذاتي، حسب ما يقول جان جاك روسو. الفساد تهديد خطر لحكم القانون. ولما كان الأمر كذلك، كان لا بد من تربية الفرد وتعليمه للانصياع لحكم القانون ولتلبية نداء الواجب (أو الفضيلة المدنية). أي تربيته على ضبط انفعالاته وعواطفه (أنانيته وطموحاته) ومراقبتها، بحيث يظل مواطناً ملتزماً بالصالح العام. وعندئذ تصبح المواطنة طريقة حياة؛ التزاما بالصالح العام ومشاركة فاعلة في الشؤون العامة، حسب روسو الذي كان يخشى اختفاء الفضيلة المدنية في القرن الثامن عشر، فلا يبقى سوى أطباء ومهندسين وكيماويين وفلكيين وشعراء وموسيقيين... كثيرين، لكن من دون مواطنين بسبب الفساد.

ويميز روسو بين نوعين من المواطنة، هما: المواطنة القانونية، والمواطنة الأخلاقية. فالبعد القانوني في المواطنة ضروري ليكون المرء عضواً في المجتمع، أو ينتسب إلى دولة ويتمتع بحقوق معينة، ويؤدي واجبات معينة. لكن المواطنة كوضع قانوني يمكن أن تهتز إذا اعتقد شخص ما أن بقية الناس يتعاملون معه كمواطن من الدرجة الثانية. وهكذا نصبح بحاجة إلى ما هو أبعد من البعد القانوني في المواطنة، وهو البعد الأخلاقي أو المواطنة الأخلاقية، التي تعني أو تستدعي واجب العمل أو التعاون مع بقية المواطنين لخدمة الصالح العام. إن مجرد التصويت أو الاقتراع في الانتخابات لا يكفي لتلبية متطلبات المواطنة؛ إنها أبعد من ذلك، إنها العمل مع بقية المواطنين لحل مشكلات المجتمع وخدمة الصالح العام. وعليه، فإن المواطنة الحقة أو الصالحة تتطلب منا إضافة البعد الأخلاقي إلى البعد القانوني في المواطنة، ليكون للمواطن الصالح أو الصادق في مواطنته دور فعال في الحياة العامة، وبحيث تتجاوز مرحلة العرضية في الذهاب إلى صندوق الاقتراع –مثلاً– وإدارة ظهره بعد ذلك للمجتمع.

لا تعني المواطنة الأخلاقية التضحية الدائمة بالصالح الخاص للصالح العام؛ بل يجب أن يعقد اتفاق جوهري أو يحدث تلاق بينهما. وإذا حدث تعارض فقد يجد المواطن الصالح نفسه مستعداً للتضحية بمصلحته الآنية لصالح الصالح العام، لأن التضحية تحقق مصلحته الخاصة في المدى البعيد إذا أحسن قراءة الأمر. وهو ما نحتاج إليه في الأردن اليوم لمواجهة التحديات والأخطار المحلية والإقليمية والدولية.

يظل المواطن الصالح يرى نفسه عضواً في المجتمع، وفي خدمة الصالح العام، ما بقي أعضاء المجتمع الآخرين يفعلون مثله. فإن لم يفعلوا أو سيطرت الأنانية والجشع عليهم، فإن دافعيته للتضحية من أجل الصالح العام تتراجع وقد تتآكل وتنتهي. "لا أذود الطير عن شجر// قد بلوت المرّ من ثمره"؛ أي إن المجتمع قد يتحول إلى ما يسمى "حارة كل من إيده له".

ولتلافي هذه النتيجة التي يخسر بها الجميع، لا بد من إجراء ما لضمان التعاون بين الناس؛ أي لإبقاء المواطنة، أخلاقية أو مسؤولة. ولا يكون ذلك إلا بحسن فهم كل مواطن مصلحته الخاصة بصورة صحيحة، كما يقول أليكس دي توكفيل (1805-1859). مع هذا، فقد لا يؤدي هذا الفهم إلى تضحيات استثنائية أو بطولية من جانب المواطنين بغياب العدالة. كل ما يقوم به المواطنون مجرد تضحيات بسيطة أو تظاهرية لا تجعل أيا منهم مواطنا فاضلا. وبالتربية والتعليم والإنصاف والعدالة، يمكن تكوين مواطنين صالحين منضبطين ومتعاونين ومستعدين للتضحية عندما يكون المجتمع بحاجة إليها.

المواطن الذي يمارس المواطنة التشاركية هو المواطن الأفضل؛ فنحن لا نقترع أو ننتخب كآباء، أو أمهات، أو رجال أعمال، أو مستهلكين... بل كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات العامة، لأن السياسة التي تخدم مصلحتي كمستهلك قد تضر بي كمزارع أو كصانع. إن المواطنة أكبر من حاصل جميع الأدوار التي يؤديها الفرد. المشاركة أخذ وعطاء وتبادل للآراء، لتكوين فهم مشترك للمصلحة العامة التي هي مصدر البقاء في النهاية. والمواطنة الفعالة تساعد الفرد على تحقيق تكامل بين أدواره المختلفة، وتكامل الفرد مع المجتمع، وإلا خرج أحدهما من بطن الآخر. وبهذين التكاملين؛ تكامل أدوار الفرد والتكامل الفردي المجتمعي، يحس المواطن بذاته ووجوده وهويته الفردية، فيعرف من هو ومن يكون.

والمواطنة الفعالة مصدر للنمو الثقافي الذي يشتد نتيجة النشاط المدني؛ أي إن المواطن يستفيد بانغماسه في الحياة العامة، ثقافياً وأخلاقياً وعملياً ونفسياً. ولما كان الأمر كذلك، كان للمواطنة الفعالة دور تربوي أيضاً يفجر طاقات الشخص بدلاً من بقائها محبوسة، كما إنها تؤدي إلى فهم سليم للمصلحة الخاصة، وتوسيع لآفاق المواطن وتعميق لإحساسه بجدوى تفاعله مع الآخرين، بما في ذلك مع أناس لا يعرفهم.

بإيجاز، تقضي المشاركة على الفردية الزائدة، الناتجة عن الابتعاد والانعزال، المكتفية بالأسرة وعدد قليل من الأصدقاء، المُشكلة لذوقه والمهتم بنفسه تاركاً المجتمع الأكبر بعيداً عنه أو غريباً عليه، أو متبرماً به. بالمشاركة، يشعر المواطن أنه جزء من كل أو من العموم، لا فردا منفصلاً أو تائهاً، أو معلقاً في الفضاء. ومثلما تجعلنا المواطنة القانونية نفكر بالمواطنة من هذا البعد أو ذاك، تجعلنا المواطنة الأخلاقية أو البعد الأخلاقي في المواطنة القائمة على المشاركة مواطنين حقيقيين نحس بذواتنا أننا هناك، ولسنا مجرد أسماء، بل مواطنين في الدولة /المجتمع، مدفوعين لخدمة الصالح العام. إن المشاركة في الشؤون العامة هي الطريق الجامعة بين الأخلاق والقانون، واحترام حقوق المواطن وحرياته، بالمعنى القانوني وبالروح العامة للمجتمع.

وببعدي المواطنة؛ القانوني والأخلاقي، يكبر إحساس المرء بذاته، وشعوره بالأمان يزداد، وطاقاته تنطلق، وتوفيقه بين المصلحة العامة والخاصة يتحقق. أما مفهوم المواطن كمستهلك، والقائم على التنسيق مع البعد القانوني من ناحية الحقوق والواجبات، فلا يعطي مكاناً للمواطنة الأخلاقية التكاملية التربوية، وكأن الدولة/ المجتمع مجرد سوق لا منبر، هدفها الأول (السوق) معرفة المطلوب أو الجامع المشترك لتفضيلات المستهلكين كي توفرها، وليس منبراً للآراء لمعرفة مواقفه المختلفة في القضايا المختلفة.

ولما كان الأمر كذلك، فإن تعليم القراءة والكتابة والحساب أو المهارات الأساسية وتعلّمها، ضروري بل إلزامي، لأنه يسهم في تكون الفضيلة المدنية أو المواطنة المسؤولة أو الأخلاقية، ولا يجعل المواطن تابعاً لغيره في المعلومات أو الإرشاد السياسي أو المعيشي وبحاجة دائمة للمساعدات والتبرعات والطرود وحملات الخير.