موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٤ مارس / آذار ٢٠١٣
ماذا ننتظر من البابا الجديد فرنسيس الأول؟

الأب منويل بدر :

ما أن أَعلن بندكتس السادس عشر، وبكلّ تواضع، تخلِّيه عن منصبه كرئيس أعلى للكنيسة الكاثوليكيّة، التي ينتمي إليها أكثر من 1.2 مليارد بشر، حتّى انهالت على الصّحافة ووسائل الإعلام الأخرى كالمُقابلات التلفزيونيّة الحيّة، رغبات وأوصاف البابا المنتظر للمُستقيل. كما وفاضت الكؤوس بالأماني والإرشادات للبابا الجديد، حتّى قبل انتخابه ماذا عليه أن يقوم به وماذا عليه تنفيذه. هذا وتعدّدت الآراء بعدد مُقتريحيها. فهذا يريده بابا مُجدِّدا، وذاك يريده بالعكس محافظا. هذا يأمره بالسّماح للكهنة بالزّواج ، وذاك يفرض عليه السّماح للنّساء بالسّيامة الكهنوتيّة. هذا يريد منه تغيير كل موظّفي الفاتيكان والدّوائر الكنسيّة عن بكرة أبيها وتوظيف طاقم جديد، لبداية عهد جديد. هذا يطلب منه متابعة زيارات الكنيسة في البلاد البعيدة وذاك يتمنّاه أن يستعمل صلاحيّة الحرمان ويأمر بإيقاف الحروب وإنتاج الأسلحة ووو...

لائحة الأوصاف والرّغبات لها بداية ما لها نهاية. فإن دلّت على شيئ فهو أن يكون البابا الجديد سوبر مان(رجل ليس من هذا العالم) إذ كثير من هذه الرّغبات تعاكس بعضها البعض وتحكم على راغبيها الأغبياء. إذ خطأهم الرّئيسي هو أنَّهم لا يُميِّزون بين الدّين والدّولة. فحين تغيير رئيسٍ سياسيّ يسمح له الدّستور البشري أن يأخذ على عاتقه كلّ التغييرات الممكنة لتُنسي السّياسة المنقرضة حتى وتلغي كل القوانين الّتي أصدرها سلفه. هذه سياسة محضة. وأمّا في الكنيسة، كمُؤسّسة دينيّة يرأسها المسيح ويُديرها نائبه(البابا) فهذا غير ممكن. لأن القوانين والدّساتير الّتي تُنظِّم فيها الكنيسة حياتها هي مُستمدَّة ومبنيَّة على الدّستور الإنجيلي، الّذي يتمشّى لا مع روح العصر ولا مع متطلّباته وإنّما مع روح وتعاليم المسيح الثّابتة والّتي لا تحتوي على أيّ خطأ.

فكما أنّه في تغيير كاهن من طائفة إلى طائفة، لا يصعد الكاهن الجديد على المنبر ليُهاجم خلفه ويُعلن للسّامعين: خلفي علّمكم وبشّركم بأشياء خاطئة فانسوها واعملوا من اليوم فصاعدا بما أقول أنا لكم. التغييرات الضروريّة في الكنيسة لا تتمّ من خلف إلى خلف قبل مرور سنة على إنتخاب باب جديد. إذ المبدأ الأوّل والأساسي هو التكملة في بناء الكنيسة في كلّ المجالات. الوريث، إذا ورث قصرا غير مكتمل البناء لا يهدم بل يُكمِّل البناء وبنفس الأسلوب مع توسيع نوافذ التّهوئة، خاصّة عندما تأتي الرّياح بما لا تشتهي السّفُن

والآن ظهر الدّخان الأبيض وفاجأنا الرّوح القُدس باختيار رجل بسيط متواضع تقي من آقاصي المعمورة، من الأرجنتين حيث يعيش ثلث عدد المسيحيين هناك. كانت أوّل كلمة له للكرادلة الّذي أعطوه أصواتهم ونادوا به بابا: "سامحكم الله على ما أضمرتوه لي". وإذ حصل بالإقتراع السّري على أغلبيّة الأصوات، وذلك تحت إشراف وإدارة الرّوح القدس، لم يقدر أن يُخيِّب آمالهم، فقبل بوضع هذا الحِمْل الثّقيل على كتفيه "هوذا حمل الله! هوذا الحامل خطايا العالم". نعم ساعة ظهور الدّخان الأبيض تجمّعت الملايين من النّاس حول أجهزة التلفاز وحبست أنفاسها لتسمع ما اسمه ومن أي قارّة هو؟ ألا يدلُّ هذا على أنّ الكنيسة ومصيرها لا يزال يهمُّ الكثيرين؟ بعد ساعة من الإنتظار أطلّ الباب المنتخَب الجديد من على الشرفة المعروفة في قصر الفاتيكان، ليُعلن للملى أنّه يريد أن يكون فرنسيس القرن الحادي والعشرين ببساطته، وبرامجه. لم يلبس الأرجوان ولا النّعل الأحمر، كما تتطلّب البروتوكولات الرّسميَّة، بل ظهر باللباس الأبيض البسيط والنّعل الأسود القديم الّي جاء به من بلاده الأرجنتين. ثمّ ابتدأ بتقديم نفسه قائلا للآلاف المنتظِرة إطلالته في ساحة الفاتيكان بالكلمة الشّعبيّة، الّتي دلّت على بساطة قلبه وقربه للبشر: "الله يمسّيكم بالخير"! ثم بكلمات بسيطة تمنّى أن يُصبح البشر متسامحين وصُنَّاع سلام، وهذا ما سيريد متابعته ويعيره اهتماما خاصا في حبريّته، الّتي نرجو أن تكون طويلة المدى والإنتاج.. ثم حنى رأسه متواضعا طالبا من الجماهير ومن العالم أن يُباركوه قبل أن يُباركهم، مسمِّيا الجميع بكلمة "إخوتي وأخواتي" لا أيّها السّيدات والسّادة! ثمّ لوّح بيده متمنِّياً للجميع ليلة سعيدة ونوما هادِئاً.

بهذه الإطلالة القصيرة البسيطة أعطى البابا الجديد انطباعا عن نفسه وعن يساطته الّتي سيكسب الجماهير بها. خاصّة وأنّه تنازل طوعا عن بعض الإمتيازات الخارجيّة الّتي تدلّ على تواصعه. فمنذ انتخابه يتمتّع البابا بامتيازات خاصّة: كوضع كسيّارة خاصة تحت تصرّفه ومرافقة حرس، لكنّه استغنى عن ذلك بل ركب الباص بعد إطلالته الأولى مع باقي الكرادلة إلى المطعم وجلس معهم وتناول العشاء معهم. وثاني يوم باكرا زار بسيارة بسيطة كنيسة مريم الكبرى، وهي إحدى كنائس روما الأربعة الكُبرى. وبعد صلاة شكر وطلب حمايتها عرّج مع سائقه إلى الفندق الّذي كان يسكن فيه منذ وصوله من ألارجنتين إلى روما حتى انتخابه باباً وطلع إلى غرفة الفندق ولملم بنفسه أغراضه المبعثرة في شنطة ونزل إلى قاعة الإستقبال ودفع الفاتورة بنفسه.

هذا وتتالت المفاجآت اليوميّة العفويّة منه والّتي تُؤكِّد لنا أنّه سيُظهر الكنيسة القديمة بلباس جديد. هو لن يضع الخمر الجديدة في زقاق عتيقة، بل سيكون مُجدِّدا للأساسات المُتردِّعة في الكنيسة ويُجدِّدُها كما رأى شفيعه فرنسيس بالحلم الكنيسة وسمع صوتا سماويّا يقول له: جدِّد كنيستي. فهذا هو الدّور الّي سيلعبه البابا البسيط، الّذي جلب انتخابه فرحا غير منتظر في جميع أنحاء العالم. من برامجه الواضحة أنّه يريد التّوسّط لإحلال السّلام في العالم ووقف الحروب. ثم التّقارب الحقيقي، المبني على الأُخُوَّة والتّفاهم بين الكنائس. هذا وسيولي الحوار بين الكنيسة والإسلام حظّاً كبيراً. أخذ الله بيده!

في آخر كلّ خطاب يطلب من المستمعين أن يُصلُّوا له. فلك منّا يا فرنسيس الجديد صلاة يوميّة خاصّة ليقوّيك ذاك الّذي اختارك لقيادة كنيسته في اوقات صعبة لم تعرفها حتّى الآن.