موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الجمعة، ٢٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٧
لاهوت التحرير بعد 4 عقود.. إعادة قراءة لمسيرة التاريخ والسياسة والخلاص

خاص أبونا - إميل أمين :

هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن يعاد طبع هذا العمل الفكري الذي زلزل ولا يزال الكثير من الثوابت الإيمانية التقليدية حول العالم، في هذه الأيام حيث دول أمريكا اللاتينية تعاني من انتفاضات إنسانية ضد بعض من أنظمة الحكم، تمامًا كما جرت المقادير قبل نحو أربعة عقود؟

خلال شهر يوليو تموز المنصرم، وبعد صمت طويل وعزوف عن الخوض في غمار السياسة الداخلية، أدلت الكنيسة الكاثوليكية في فنزويلا بدلوها تجاه حرب الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" مع المعارضة، وهذه هي المرة الأولى التي ترفع فيها سقف التحدي ضد السلطة، بعد سنوات من المهادنة القسرية، وبعد عهد من الحد الأدنى من التعاون مع الرئيس الراحل "هوغو تشافيز".

مهما يكن من أمر الأقدار فقد جاءت الطبعة الأحدث لكتاب لاهوت التحرير صادرة عن دار الأكويني في القاهرة، ومن تأليف الراهب الدومنيكاني، البيروفي في الجنسية "جوستافو جوتييرث" ومن ترجمة الأستاذ جان رزق الله، والأب جون جرائيل الدومنيكاني.

يعن لنا التذكير بالرجل الذي وضع لبنات هذا العمل عام 1968، الأب "جويتيرث" المولود عام 1928 في ليما-بيرو، وقد صار كاهنًا عام 1959، درس الفلسفة وعلم النفس في الجامعة الكاثوليكية بلوفان (بلجيكا) والعلوم اللاهوتية في جامعة جريجوريانا (روما) وفي الجامعة الكاثوليكية بليون (فرنسا).

يعد "جوتييرث" واحدًا من أهم آباء ومؤسسي لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، عمل أستاذًا في الجامعة الحبرية الكاثوليكية في بيرو وجامعة نوتردام بولاية أنديانا في الولايات المتحدة، دخل رهبنة الدومنيكان عام 2001، وفي عام 2009 منحه الرئيس العام للدومنيكان لقب "معلم للاهوت المقدس".

يطرح هذا العمل الخلاق تساؤلات جوهرية عن الأديان وكيف لها أن تضحي قوة تحرر للإنسان بدلاً من أن تساهم في قهره؟ وهل يمكن للدين بدلاً من أن يصبح أفيونًا للشعوب، أن يصير أداة تحرير لها؟ وهل لطرح الخلاص الذي جاء به السيد المسيح أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية؟ ثم ما هي علاقة الكنيسة بالنظم الاستبدادية في أمريكا اللاتينية؟

المقطوع به أن فكر لاهوت التحرير إنما جاء مصداقًا لمقولة صاحب الموسوعة اللاهوتية والعلامة الدومنيكاني الأشهر عبر التاريخ "توما الأكويني" عن المؤامة بين العقل والنقل، فالعقل هو أداة الإنسانية للتطور والتقدم، والنقل هو الرسالات السماوية وكلام الله للبشر، وهنا فإن إلتقاء التأمل في كلمة الله مع رجالات ونساء تعهدوا بمهمة تحرير المضطهدين من الاستبداد في أمريكا اللاتينية، أفرز لنا هذا الفكر المتجدد، فكر وضع نهاية للظلم الواقع الآن، وبناء مجتمع مختلاف، مجتمع أكثر حرية وأكثر إنسانية.

على أن علامة الاستفهام الرئيسة في هذا العمل، ما الجديد الذي أضافه لمسيرة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الماضية قدمًا عبر نحو ألفي عام من التاريخ؟

الشاهد أن الكتاب يظهر أنه ولأول مرة في تاريخ المؤسسة التي وصفها "وول ديورانت": في موسوعته الخالدة "قصة التاريخ" بأنها "أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ"، يصبح اللاهوت عملاً يخرج عن مركزيته التقليدية في البلاد الأوروبية وأمريكا الشمالية، ليثمر فكرًا جديدًا وليد الحضارات المختلفة سواء من السود المقيمين في شمال أمريكا أو من حضارة أمريكا اللاتينية أو السكان الأصليين في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى اللاهوت الناشئ في سياقات معقدة من قارات أفريقيا، وآسيا، وجنوب المحيط الهادئ، وخاصة من أولئك الذين تبنوا منظور المرأة في المجتمع، وكانت النتيجة ولادة نوع جديد ومثمر من الحوار بين الفكر التقليدي والفكر الحديث فيما يسمي بالعالم الأول، وبالإضافة إلي ذلك ألهم هذا التيار جهودًا جارية خارج النطاق المسيحي لتطوير لاهوت تحرير من منظور اليهودية والإسلام.

بعض من أفضل الكلمات لصاحب مقدمة الكتاب "الأب دوجلاس ماي"، تلك التي يؤصل فيها لهذا اللاهوت الذي نشأ عن تفكير اللاهوتين الكاثوليك في أمريكا اللاتينية حول أوضاع الفقر والاستبداد في عقد السعبينات وفي القرن العشرين.

وعند الأب "ماي" يترجم هذا اللاهوت تعاليم السيد المسيح على ضوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية غير العادلة الموجودة في العالم مستخدمين النقد الماركسي إلي جانب الأناجيل ليقدموا ردًا إنسانيًا، وبغض النظر عن الطريقة التي يرى بها المرء السيد المسيح والأناجيل فهناك دومًا مبادئ أساسية للعدالة الاجتماعية موجودة في لاهوت التحرير، يمكن اعتبارها كلاسيكية وشاملة.

هناك لمسة تخصنا بنوع خاص كعالم عربي وشرق أوسطي وهي إشارة الأب "ماي" إلى أن هذه المبادئ يمكن أن تفيد في بناء الأمة في العالم العربي وهذه قضية قد تستحق العودة، والتوقف أمام السؤال الذي طرح طويلا بغير جواب "هل العالم العربي في حاجة إلى لاهوت تحرير معاصر؟.

بل إلى أبعد من ذلك يذهب مقدم الكتاب إلى القول أن هذه الترجمة والتي وقف وراءها بقوة الراهب الدومنيكاني الشاب والمجدد المصري الأصيل "جون جبرائيل" ربما تكون دليلاً في قادم الأيام لكل من يشارك في صحوة العالم العربي.

غلاف الكتاب يحمل دلالات رمزية وشفره لا بدّ من فكها فالصورة تحتوي على سماء مظلمة ملبدة بالغيوم جهة اليمين بينما تخترق أشعة الشمس الغيوم جهة اليسار وتشطرها مشكلة "قوس قزح" وهو بمثابة وعد بالرجاء من الله بعد طوفان نوح، وفي مقدمة الصورة هناك سلك شائك يمثل عقبات القهر التي لا بدّ من أن تهزم.

الطبعة العربية ومن خلال كلمات المقدمة، تحمل مضامين تقدمية إنسانية، أنها تنقلنا من ضيق الدوجمائية إلى رحابة الابستمولوجيا، فالمؤلف والمترجم والناشر بإصدارهم هذه الترجمة العربية الثمينة التي تقع في نحو خمسمائة صفحة من القطع المتوسط، لا يحملان دعوة تبشيرية بالمعنى الضيق، ولا يهدفان إلى تنصير مسلمي العالم العربي، كما يدعي البعض من أصحاب الذهنية الأحادية التقليدية، وإنما الأمل من الكتاب أن يعزز الفكر والعمل في عملية بناء الأمة في العالم العربي، سيما وأن السيد المسيح والأناجيل يقدمون لنا رؤى قيّمة تحتاج إليها العائلة البشرية بغض النظر عن تبعيتهم للإيمان المسيحي أم لا، وبدون أي نظرة سلبية نحو نظم المعتقدات والإيمانيات الأخرى، فالعمل على جعل العالم أن يصبح على شاكلة المسيح بدلاً من جعله مسيحيًا سيجعل العالم أكثر إنسانية ويجعله يحقق الصورة التي خلقها الله عليها.

والشاهد أن لاهوت التحرير" يبقى رؤية ممتدة في الزمان، ويتجاوز المكان، ففي العام 1968 وصف أساقفة أمريكا اللاتينية تلك المرحلة الجديدة من التاريخ على هذا النحو: "أصبح واضحًا أن أمريكا اللاتينية تتجه إلى التحول والتنمية، تحولاً يحدث بسرعة غير عادية، أذ أنه لمس كل مستوى من مستويات النشاط البشري وأثر عليها، بدءًا من المستوى الاقتصادي حتى المستوي الديني، وهذا يدل على أننا على أعتاب حقبة جديدة في تاريخ أمريكا اللاتينية، ويبدو أنه وقت يتسم بالحماس من أجل التحرر الكامل من كل أشكال العبودية، ومن أجل النضج الشخصي والتكامل الجماعي.

كانت هذه الرؤية لحقبة تاريخية جديدة تتسم بتطلع جذري من أجل تحقيق تحرير متكامل، وعلى الرغم من الأوضاع المؤلمة التي تعاني منها أمريكا اللاتينية في حاضرات أيامنا، وما يجري في فنزويلا بنوع خاص شاهد على ذلك، وكما كانت تعاني أيضًا في عام 1968، فإن هذه الرؤية الطموحة ما زالت قائمة، وقد حدث الكثير خلال السنوات الفاصلة لتغير تاريخ المنطقة والعبور بها عبر عتبة العصر الجديد الذي تحدث عنها الأساقفة في ذلك الحين.

في الحديث عن لاهوت التحرير، هناك إشارة إلى حركة واسعة موجودة الآن في أجزاء مختلفة من العالم، لقد نهض كل من التطلع إلى التحرر من جميع أشكال العبودية الذي وصفه البابا الراحل "يوحنا بولس" الثاني بأنه: "التطلع النبيل والمشروع في الرسالة العامة عن "الاهتمام بالشأن الاجتماعي"، ولاحقًا أضاف: "لم يأت لاهوت التحرير في الوقت المناب فحسب بل إنه ضروري. كما ينبغي أن ينظر إليه باعتباره مرحلة جديدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا مع سابقاتها، في التأمل اللاهوتي الذي بدأ مع التقليد الرسولي واستمر في البابوات ومعلمي الكنيسة، وفي الرسائل البابوية أو مجامع الأساقفة، ومؤخرًا أضيف إليه تراث الكنيسة العريق، وأخيرًا في التعاليم الاجتماعية في وثائقها بدءًا من وثيقة الشؤون الحديثة، إلى وثيقة "العمل البشري".

حكمًا لم يكن منشأ "لاهوت التحرير" من فراغ ذهني أو فكري بل سبق بلورة هذا الطرح رؤى لبعض بابوات روما التقدميين أن جاز الوصف، وفي المقدمة منهم سعيد الذكر "البابا يوحنا الثالث والعشرين" (1958- 1963)، الرجل الذي دعا لانعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وقد ترك أفضل معيار في هذا المجال، في فقرة معبرة عن نفسه المفعمة بالأمل وإحساسه القوي بالإله الذي "يجعل كل شيء جديدًا، فيقول بكل وضوح (كلمات أملاها البابا علي الكاردينال جيجويناني في 24 مايو 1963 قبل وفاة البابا بقليل):

"اليوم أكثر من أي وقت مضي، وبالتأكيد أكثر مما كنا عليه في القرون السابقة نحن مدعون لخدمة الكائن البشري، وليس الكاثوليك فقط، للدفاع عن حقوق الإنسان قبل كل شيء، وليس مجرد حقوق التابعين للكنيسة الكاثوليكية".

ومن جديد... ما الذي يسعى إليه لاهوت التحرير؟

دون تطويل ممل أو اختصار يقف بنا الأب "جوتييرث" أمام الهدف، فلاهوت التحرير يسعي إلى التفكير في خبرة ومعنى الإيمان المبني على الوعد بهدم الظلم وتأسيس مجتمع جديد، على هذا اللاهوت أن يتمحص من خلال ممارسة هذا الوعد والمشاركة الحية الفعالة في الصراع الذي تقوم به الطبقات المستغلة ضد ظالميهم. وعليه فإن التحرير من كل أشكال الاستغلال، وإمكانية جعل الحياة أكثر إنسانية وأكثر كرامة، وخلق الإنسان الجديد لا يتحقق إلا من خلال هذا الصراع.

يطرح صاحب الكتاب علامة استفهام أصلية... متى سيكون لدينا لاهوت تحرير أصيل؟

وجوابه فقط عندما يتمكن المظلومون بأنفسهم من رفع صوتهم بحرية والتعبير عن أنفسهم بطريقة مباشرة وخلاقة في المجتمع وفي قلب شعب الله، وعندما يقومون بانفسهم بالحديث عن الرجاء الذي يحملونه، عندما يصبحون هم أنفسهم أبطال تحريرهم؟

لكن إلى حين يتحقق ذلك، فإنه علينا أن نحض أنفسنا على المجهودات التي من شأنها تعميق وتعضيد هذه العملية، فإن لم يجي التفكير اللاهوتي في نشاط المسيحيين في العالم عن طريق جعل ألتزامهم بالمحبة كاملا وأكثر جذرية، وأن بطريقة ملموسة أكثر في أمريكا اللاتينية، فلن يؤدي ذلك بالكنسية لأن تكون في صف الطبقات المظلومة والشعوب المسيطر عليها، بطريقة واضحة، وبدون تصنيفات، فلن يكون لهذا اللاهوت قيمة كبيرة، والأسوأ من ذلك، سيكون هذا اللاهوت ما قام إلا بتبرير المعايير الناقصة وغير الفعالة في فهم الأنطلاق من الأنجيل.

يحذر الأب "جوتييرث" في خاتمة كتابه من الوقوع في فخ "الاكتفاء العقلي"، وهو غالبًا ما يكون آفة من آفات المفكرين الذين يزعمون الانتصار النهائي، وقد يكون المؤرخ الأمريكي الياباني الأصل "فرانسيس فوكاياما" واحدًا من هؤلاء عندما عمل على مصادرة حركة التاريخ بطريقة شمولية تناقض جوهر الديمقراطية في مؤلفه الشهير "نهاية التاريخ".

الأمر الوحيد الجديد الذي يسعى وراءه المؤلف هو قبول عطية روح الله المجددة دومًا، والتي تجعلنا نحب في خبراتنا الملموسة العمل من أجل بناء الأخوة الحقيقية في مبادراتنا التاريخية الساعية لهدم النظام الظالم كل ملء الحب الذي أحبنا به السيد المسيح.

في النهاية يذكرنا المؤلف بأنه لكي نعيد صياغة نص مشهور للفيلسوف الفرنسي الأشهر "بليز باسكال"، (1623-1662) والذي ترتفع بعض الأصوات داخل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مؤخرًا داعية لتطويبه، وهي المرحلة التي تسبق إعلان القداسة بحسب الترتيبات الكنسية، فإننا نستطيع القول بأن كل أنواع اللاهوت السياسي ولاهوت الرجاء ولاهوت الثورة ولاهوت التحرير لا تساوي فعل تضامن حقيقي مع الطبقات الاجتماعية المستغلة، ولا تساوي فعلاً واحدًا من أفعال الإيمان والرجاء والمحبة الملتزمين بطريقة أو بأخرى في المشاركة الفعالة لتحرير الإنسان مما يحط من إنسانيته ويمنعه من العيش بحسب إرادة الخالق.

الخلاصة:

التحرير تعبير عن تطلعات الشعوب والطبقات الاجتماعية المقهورة، مع التركيز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تضعهم في صراعات مع الدول الغنية والطبقات القمعية.

التحرير إدراك كامل عقلاني لعملية تاريخ البشرية ومسئولية الإنسانية في تحديد مصيرها، إذ يعطي هذا الوعي العقلاني دينامية واتساعًا للأفق من أجل التغيرات الاجتماعية المنشودة.

من هذا المنظور، تتكشف جميع الأبعاد الإنسانية في الأفراد الذين يكرسون حياتهم على مدى التاريخ.

أن انتصار الحرية الحقيقية، والتي تتحقق تدريجيًا سوف يحقق إنسانية جديدة وحياة اجتماعية أفضل وبالتالي تحقق هذه الرؤية فهمًا أفضل لما هو على المحك في عصرنا.