موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ يناير / كانون الثاني ٢٠١٤
كاهن فلسطيني يصرخ: "لا لهجرة المسيحيين من الأرض المقدسة"

الأب رائد أبو ساحلية - رام الله :

يتحدث الجميع عن خطر ظاهرة هجرة المسيحيين من الوطن العربي وبالخصوص من الأرض المقدسة، تعقد المؤتمرات حول هذا الموضوع.. ويبقى كل شيء على حاله... وأنا هنا لست بصدد تحليل أسباب الظاهرة أو تقديم دراسة اجتماعية أحصائية ولا وضع استراتيجية حلول للحيلولة دونها، لأن دراسات عديدة أجريت حولها، ولكني أريد أن أوجه نداءً جديداً نابعاً من القلب: "لا وألف لا للهجرة من الأرض المقدسة". وعندي من الأسباب ما تبرر هذا النداء وتشجع اخوتي على البقاء في أرض الوطن والرباط مهما كانت التحديات والصعاب التي يواجهونها... لأني أعتقد أن الامر يتعلق بالمبدأ والموقف والوعي والانتماء والقناعة.. فهناك قواعد لاهوتية وقومية ووطنية نرتكز عليها لتعزيز الانتماء والتشبث والصمود والبقاء.

السبب الأول لاهوتي تاريخي: يرتكز على هويتنا المسيحية المتجذرة في عمق التاريخ والجغرافيا منذ ألفي سنة: فإننا هنا لسنا بإرادتنا الشخصية ولا باختيارنا الفردي بل بمشيئة إلهية، فالله أراد لنا أن نولد ونعيش ونموت في هذه الأرض المقدسة وليس في أية بقعة أخرى من العالم، وهذا ما يميز وجودنا وحضورنا المسيحي في هذه الأرض فكلنا ولدنا في القدس وفيها جذورنا وينابيعنا، فإذا تركناها أو هجرناها فنحن ننقطع عن أصولنا "والذي ليس له أصل ليس له فصل". كما أن هذا الاختيار الألهي ليس اعتباطياً بل نابع من محبته وتشريفه لنا لحمل رسالة معينة يحملنا إياها منذ نشأة الجماعة المسيحية الأولى في القدس وانطلاقة الكنيسة: هذه الرسالة-المسؤولية هي أن نكون شهوداً ليسوع المسيح في وطنه وأرضه، وأن نكون الحجارة الحية التي تزين حجارة الأماكن المقدسة التي تتحول بدوننا إلى متاحف باردة وحجارة أثرية ميتة. فيا لهذا الشرف العظيم! ويا لهذه المسؤولية الجسيمة! فنحن نريد كنيسة بشر وليس كنيسة حجر!

السبب الثاني هو قومي وطني: إن المسيحيين هم جزء لا يتجزأ من مجتمعاتهم التي يعيشون بها، فهم عرب في العالم العربي، وهم فلسطينيون في الأرض المقدسة، وبالتالي فإنهم يشاركون مواطنيهم في السراء والضراء، في الآلام والآمال، ويساهمون في بناء أوطانهم بكل همة وحمية بما في ذلك النضال المشروع من أجل حريتها واستقلالها، فهم بالتالي "مؤمنون ومواطنون" وليس جزر معزولة وحيدة ولا فئة متقوقعة منكفئة على ذاتها ولا طبقة متعالية متنعمة متحصنة في برجها العاجي، لذلك فإن حضورهم في بلدانهم تلبية لنداء الوطن الذي يدعوهم للانتماء والبقاء والحب والوفاء، فهروبهم خيانة أخرى لأوطانهم واهانة لكرامتهم وكأنهم يتنصلون من جلدتهم ولحمهم ودمهم بحثاً عن راحتهم. وهنا أقولها بصراحة بأن مستقبلهم في أوطانهم مرهون بمدى التزامهم العميق والفعال في تحقيق الحرية وتحرير الأرض، فعندها فقط سيجدون لهم موطأ قدم على الأرض التي أحبوها فتحتضنهم.

السبب الثالث هو ديمغرافي: إن العملية ليس عملية رياضة ولا حسابية، فقضية الوجود المسيحي ليس رقماً معرضاً فقط للزيادة أو نقصان، للضرب أو الطرح أو القسمة، إن كرامتنا لا تنبع من كثرتنا ولا من قلتنا. فأهمية المسيحيين لا تقوم على الكمية بل على النوعية والفاعلية. ومع ذلك فإن الاحصائيات تنذر بالخطر وتشير بما لا يدع مجالاً للشك بأن نزيف الهجرة لا يقضي على الفقراء والضعفاء بل يقضي على الأغنياء والأقوياء والمثقفين، وبالتالي فإن الذي يهاجر يضعف من يبقى. إن هجرة العقول المدبرة والنخبة المثقفة هو كارثة حقيقة ليس فقط للمسيحيين بل للمجتمع بأسره. وهنا أعتقد بأن في القضية نظر، وفي الأمر أنانية وانعدام للمسؤولية وحسابات تقوم على المصلحة الفردية، وبالتالي بحاجة إلى توعية وتعزيز للانتماء حتى يضطلع كل واحد بالمسؤولية ليس فقط تجاه نفسه وعائلته بل أيضاً تجاة جماعته ومجتمعه. فيا أيها المثقفين والأغنياء أوقفوا هذا النزيف وعودوا إلى رشدكم فذرة من تراب الوطن، ونسمة من هواء الأرض المقدسة أجمل وأروع من حرقة الغربة وسراب السعادة في بلاد أخرى في عالم ليس لكم ولا لأولادكم فمكانكم هنا وليس في أي مكان آخر.

أكتفي بهذا القدر من الأسباب الداعمة لمبدأ الصمود في أرض الجدود وهي كافية بأن تحرك القلوب حتى الصخر الجلمود. وأود أن أعرض ملاحظتين تحذيريتين خطيرتين:

التحذير الأول: للذي هجروا بلدانهم وبيوتهم وأراضيهم وخاصة لأولادهم من الجيل الثاني والثالث الذين يعودون في هذه الأوقات الصعبة ليس ليشدوا من أزر الباقين بل ليبيعوا ما تبقى لهم من بيوت وعقارات وأراض وأملاك، أقولها وبصوت عالٍ دون خوف بأن هذه خيانة مزدوجة لا بل مثلثة: أولاً لأنهم عندما هاجروا أضعفوا الذين بقوا، وثانياً لأنهم يعودون للتفريط بأملاكهم وما ورثوا من جدودهم بدلاً من الحفاظ عليها أو العودة إليها، وثالثاً لأنهم بدلاً من دعم أهلهم الصامدين دعماً مادياً ومعنوياَ - وخاصة أن الكثيرين منهم جمعوا أموالاً طائلة – فإنهم يستنزفون ما تبقى، فالذي يباع اليوم بتراب المال لن يشترى في الغد إلا بالملايين أيها الطامعين. نقولها وبصراحة: لا نريد أن تدعمونا، ولا نريد أن تعودوا، ولا نريد أن تزعجونا، ولا نريد أن تفرطوا بالأملاك فإنها ليست لكم "فلا يحرث الأرض إلا عجولها".

التحذير الثاني: للذين يحلمون بالهجرة وأوهامها فإننا نقول "قديمك قديمك ولو جديدك بغنيك" وأيضاً "من تراب بلادك لطخ خدودك" فإنكم لن تجدوا أجمل وأروع من هذه الأرض التي باركها الله وقدسها السيد المسيح بحياته ومماته فيها فإنكم تحملون مسؤولية تاريخية. صحيح أن الأوضاع صعبة ولا توجد بوادر حلول سريعة ولكن صعوبتها على الجميع كما أنها لن تستمر للأبد فلا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر فإن الفجر آت لا محالة في نهاية المطاف وسننعم جميعاً ببهاء السلام إن شاء الله. صحيح بأنكم تحلمون بمستقبل أفضل لأولادكم وتتوقعون أن تحسنوا أوضاعكم المادية وتنعموا بالهدوء والطمأنينة وراحة البال، ولكن اعلموا بأن الأمر ليس بهذه السهولة كما تعتقدون، فإن شقاء الغربة وعناء العمل فيها ومخاطر الضياع في بلاد غير بلادكم أصعب من البقاء في أرضكم. فلا تفكروا بأنكم ستجدون المال في الشوارع بل ستعانون الأمرين في جلي الصحون وتوزيع البنزين في محطات المحروقات. وأقولها عن خبرة شخصية بأن عدد النادمين من الذين هاجروا أكثر من عدد الذين توفقوا في أعمال أو مشاريع تنسيهم أنفسهم وأولادهم وعائلاتهم بعدما أنستهم بلدانهم، فقد قال لي أحدهم بحسرة، وقد هاجر في الستينات ويعيش في لوس أنجلوس: "يا أبونا لقد ضيعنا بلادنا، وأنا خايف نضيع أولادنا هنا!".

أنهي هذا الحديث بكلمات شاعرنا محمود درويش في ديوانه "لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً؟" وهو سؤال يطرحه الولد على والده العجوز عندما هُجِّر من بيته وقريته. أجابه الوالد: "لأن البيوت تموت عندما يهجرها أهلها". نعم إن البلاد تموت عندما يهجرها أهلها! إن الأرض المقدسة تموت عندما يهجرها المسيحيون!

الأب رائـــد أبــو ســاحلـيــة
كاهن رعية العائلة المقدسة في رام الله