موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣١ أغسطس / آب ٢٠١٩
قداسة البابا.. إنَّ الذي تحبه مريض.. تعالَ وضع يدك!

المونسنيور د. بيوس قاشا :

<p dir="RTL"><strong>في البدء </strong></p><p dir="RTL">نعم، مرّ العراق في أوضاع مأسوية أدّت إلى هجرة العديد بل الآلاف من العوائل المسيحية، كما الإسلامية، فمنهم مَن سكن شمالنا الحبيب، وآخرون لجأوا إلى دول الجوار ينتظرون موعدهم من أجل الرحيل، ولا زال نزيف الهجرة قائماً، وما ذلك إلا هاجس مؤلم وضياع شعب أصيل. وها نحن اليوم أمام حدث إنساني نرتقبه بشغف الروح من أجل عراقنا الذي عانى من الحروب والحصار والاحتلال والتهجير والنزوح، ولا زال يعاني اليوم من التشرذم والفساد وعبودية الطائفية، وتقديس الأشخاص، وتثبيت المحاصصة وأزلامها، وضياع الوطنية وجنودها، وخاصة ما حلّ بنا بسبب القاعدة وداعش ولا زال حتى الساعة يعاني من الجراح المثخنة بسبب أبنائه البعيدين القريبين.</p><p dir="RTL"><strong>فكرة ملّحة </strong></p><p dir="RTL">زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق الجريح تُعَدّ الأولى من نوعها في تاريخنا الحديث، وقد أعلن قداسته أن تفكيره في هذا البلد ترافقه فكرة ملحّة إذ قال &quot;لديّ استعداد للذهاب إلى هناك العام المقبل (2020)&quot;، ليتمكن هذا البلد من المُضي قُدُماً من خلال مشاركة سلمية ومتعاونة في بناء الخير العام&quot; (أمام أبناء الكنائس التي تساعد جمعيات الشرق الأوسط 21 حزيران 2019). وقد أكّد زيارة البابا للعراق نيافة الكاردينال بيترو بارولين أثناء زيارته للبلد في أعياد الميلاد 2018، كما استقطبت دعوة رئيس الجمهورية الأستاذ برهم صالح إلى قداسة البابا فرنسيس اهتماماً متزايداً على الصعيد الرسمي ومن جميع الشرائح والمكونات وخاصة من لدن البقية الباقية من المسيحيين العراقيين.</p><p dir="RTL"><strong>الماضي القريب </strong></p><p dir="RTL">لقد أراد قداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني عام 2000 وبمناسبة احتفالات الكنيسة الجامعة بيوبيل الألفين أن يكون العام مكلَّلاً بزيارة قداسته إلى أور الأثرية والتي تُعَدّ مسقط أبينا إبراهيم أبي الآباء والأنبياء، وكان من المقرر أن تكون الزيارة هي المحطة الأولى ضمن رحلة تشمل العراق ومصر وإسرائيل، ولكن المفاوضات بهذا الشأن من الجانب العراقي انهارت، ولم يتمكن قداسته حينها الذهاب والحج إلى حيث بيت إبراهيم.</p><p dir="RTL"><strong>جيوب الدنيا </strong></p><p dir="RTL">إن زيارة البابا فرنسيس إلى عراقنا الجريح تُعتبر إنجازاً رائعاً بل مميَّزاً، بدأ في نسيج مسيرته نيافة البطريرك الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية (الكلي الطوبى) وتوالت دعوات عديدة وخاصة بعد سنوات الحروب المميتة والصراع الطائفي ومسيرة القاعدة القاتلة بحق أبناء شعبنا، كما كان هجوم داعش الإرهابي شرساً علينا وعلى مدننا وقُرانا ولا زال حتى الساعة يعمّر الخوف في قلوب الكثيرين، كما لا زالت الفوضى في كل اتجاهات الوطن، والكل يسأل: أين نحن من بلدان شعوب المنطقة ومن تقدمهم؟ أين نحن ومستقبل أجيالنا؟ فالأجواء لا زالت متلبّدة وكلٌّ يفتش عن مصلحته وحصته من الغنيمة، والفساد لا زال يملأ جيوب كبار الدنيا والزمن والزوايا الخفية، وسيبقى الشعب على صفيح ساخن، لينكشف كل مستور، وكي لا يقدّس الفاسد كذبه، فيكون بريئاً أمام أعين البشر المرائين المائتين، وتبقى الحقيقة معلَّقة على خشبة العار كما كان شأن المسيح الحي، لحين إعلان السماء نهاية الحكم.</p><p dir="RTL"><strong>صفحة جديدة </strong></p><p dir="RTL">أيجوز أن نستقبل قداسته بقلوب متوشّحة كانت ولا زالت بسواد الخطيئة والفساد؟ أيجوز تلك الأيادي المقدسة البيضاء أن تحضن وتصافح الأيادي التي نهبت أموال الفقراء، وخبزة اليتامى، ورغيف المهجرين، باسم القداسة أو غيرها، وظلمتْ أبرياء المسيرة للبقاء في المناصب والكراسي، وشوَّهت مسيرة الفقراء، فظلمتهم وسُرِق مستقبلهم كما حقوقهم، وباعت حقيقة الأبرياء من أجل حفنة خضراء، واستولت على العروش بالكذب والنفاق وبضمائر كُتب لها التشييع! أيجوز أن نبقى إخوة أعداء! أيجوز أن يبقى شعبنا نازحاً ومهجّراً ونحن في إحتفال الاستقبال! أيجوز أن نستقبل قداسته وكلنا لا زلنا طوائف منقسمة على ذاتها ولا تفتش إلا مبتغاها! أيجوز أن نستقبل قداسته ونحن لا ندرك مفهوم رسالة الإخّوة الانسانية وحقيقة كلماتها!. فزيارة البابا دعوة لنا لكي نترك الماضي ونفتح ليس صفحة جديدة فقط في مسيرة الحياة ولكن صفحة ناصعة البياض في مسيرة من أجل الوطن ومن أجل المواطن، ليس كلاماً ولكن قولاً وفعلاً ورسالةً.</p><p dir="RTL"><strong>فقير وفقراء </strong></p><p dir="RTL">نعم، إن زيارة البابا ليست زيارة عاطفية وترفيهية وسياحية، بل هي رسالة حج ٍسامية من أجل أن يملك السلام والأمان بين أبناء هذا البلد الجريح، وليست الزيارة من أجل الوقوف في الصفوف الأمامية، وإلقاء الخطب الرنّانة والكلمات المُبجِّلة وربما غير الصادقة، وتوزيع البسمات المصطنعة، والوقوف أمام الكاميرات قامة وموقفاً، والجلوس أمام المآدب الفاخرة وشعبنا يستعطي على الطرقات خبزة وفلساً، ويأوي خيمة وكرفاناً، ويعاني حراً وبرداً، كما أنّ زيارة قداسته ليست من أجل ملئ صفحات الإعلام والتواصل الاجتماعي بأخبار منمّقة، بل هي زيارة رجل متواضع ومحب، وحبيب للفقراء والمساكين. إنه آتٍ ليقاسمَنا جوعنا، ويعيش فقرَنا، ويشاركنا آلامنا، بعد أن أدرك أن الشعب قاسى سنين الحروب والخصام والطائفية والمحاصصة وفي عمق ديارنا ومعابدنا التي فيها عادينا إخوتَنا. زيارته هي من أجل أن يشاهد ويطّلع بأمّ عينه ماذا حلّ بنا بسبب الحصار والقاعدة وداعش والميليشيات والتهجير والنزوح، فهو يحمل رسالة الخير والبركة من أجل شعوب المنطقة في شرقنا المعذّب وشعبنا الجريح، ومن أجل حكّام البلد ليملأ قلوبهم خدمة وأخوّة ومواطنة وحباً لشعوبهم ولترابهم من أجل وحدة العيش وحقيقة الحياة.</p><p dir="RTL"><strong>زيارة تاريخية </strong></p><p dir="RTL">إن هذه الزيارة التاريخية يجب أن نستعد لها أولاً -وقبل أن تكون رسمية- ليكن استقبالنا لقداسته بروح البساطة التي تجمعنا مع بعضنا، وروح الأخوّة التي توحّد مسيرتنا، لأنني متأكد تماماً أن انفتاحنا يجب أن يكون من أجل وطن بآفاق جديدة وعبر مسيرة تقودنا إلى الحوار المسيحي الإسلامي، لأن ذلك سيعزّز مبدأ التعايش المشترك بين أبناء الديانات المختلفة بعد أن نكون قد منحنا حقوق شعبنا بأقلياته ومكوناته بدستورنا، في حرية الحياة والإيمان، وبيّضنا فسادنا، وأعدنا المال إلى أصحابه، وأنزلنا المتربّعين من على عروش مسروقة، وجعلنا كلامنا صادقاً وحقيقةً، نابعاً من عمق أفئدتنا وليس من بيان شفاهنا، وتركنا الكذب والمصلحة جانباً. فالعراق عزيز في عيني قداسته، إنه عراقنا، فها هوذا آتٍ ليضع يده عليه، فيكون الشفاء روحاً ونفساً قبل أن يكون ظاهراً وإعلاماً، عبر مواطنة ودستور يجمع شملنا ويبني وطننا.</p><p dir="RTL"><strong>الخاتمة </strong></p><p dir="RTL">لنسأل أنفسنا هل نحن فعلاً تهيأنا لهذا الحدث المميَّز في تاريخ الشعوب؟ هل هيأنا أنفسنا لهذه الزيارة المُحبة؟ هل يمكنني أن أسأل؟ هل إستعد كبار زمننا ورجال معابدنا ليكونوا كلاًّ للكل وليهيئوا كل شيء وليس بعضاً من شيء؟ (رسالة بولس الرسول الأولى إلى كورنتس 22:9)، ولنتهيأ &quot;ليس لإكليل يُفنى بل لإكليل لا يفنى&quot;؟ (آية 25). فالبابا أدرك جيداً أن الوطن الذي يحبه مريض، ونحن هل أدركنا ذلك، لنسأل أنفسنا، أم لا زلنا نصارع بعضنا بعضاً وعلى هوانا نُسيّر مركبَنا؟ فمرقس الإنجيلي يقول &quot;قوموا فها هو ذا آتٍ&quot; (41:14) &quot;لئلاّ يغلبكم النعاس&quot; (متى 43:26) فيضيع الوطن والحقيقة، وسنكون كلنا من الخاسرين. فلنقل: تعال أيها البابا... تعال إلى ديارنا، فالوطن الذي تحبه مريض&quot; (يو3:11)، &quot;تعال وضع يدكَ&quot; (يوحنا 43:11).</p><p dir="RTL">نعم وآمين.</p>