موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٤
في مواجهة التطرف الديني

محمد السماك :

نقلاً عن "الاتحاد" الإماراتية

تتمحور الأزمة التي تعانيها المجتمعات العربية حول قضية أساسية وهي: التطرف الديني. وخلافاً لما يعتقده كثيرون، فإن إطلالة التطرف الأولى حدثت في عام 1967 بعد الهزيمة الكبرى التي نزلت بمصر وسوريا والأردن على يد إسرائيل. لقد صُورت تلك الهزيمة على أنها هزيمة للقومية العربية وسقوطاً لها، خاصة أنها جاءت بعد فشل الأنظمة القومية في تحقيق أي شكل من أشكال الوحدة العربية، أو التنمية الاجتماعية. وكذلك بعد فشلها في احترام الحريات العامة. ولذلك كان لا بد من طرح بديل. فكانت دعاوى شعار «الإسلام هو الحل».

صحيح أن هذا الشعار سابق لهزيمة 1967 إلا أنه لم يجد تماهياً معه إلا بعد الهزيمة ونتيجة لها. وعزز من هذا التصور نجاح إسرائيل في ترجمة انتصارها على أنه انتصار ديني. وعلى أنه تعبير عن الإرادة الإلهية بالوقوف إلى جانب الإسرائيليين، وبأنه ترجمة للوعد الإلهي بـ«أرض الميعاد»! وقد كانت هذه الترجمة الدينية اليهودية للانتصار العسكري الإسرائيلي حافزاً ومبرراً للترجمة الدينية الإسلامية للهزيمة العسكرية العربية. وهي الزعم بأنها نتيجة التخلي عن الدين. وبالتالي، فإن تحرير المقدسات واسترجاع الحقوق يمرّ حتماً بالعودة إلى الله. وأن العودة إلى الله تكون عن طريق الإسلام وليس عن طريق القومية العربية.

وقد ألهب هذا المنطق ردود فعل إسلاموية تمثلت في ظاهرة التطرف الديني الحزبي والسياسي. غير أن الأنظمة السياسية تمكنت طوال العقود الأربعة الماضية من ليّ ذراع حركات التطرف التي ازدادت تطرفاً وغلواً. وعندما أطل ما سمي «الربيع العربي» لم تكن هذه الحركات جزءاً منه. ذلك أن «الربيع» في إطلالته الأولى كان يشكل ظاهرة جديدة في علم الاجتماع السياسي من حيث إن عملية التغيير انطلقت من دون قيادة محددة، ومن دون برنامج عمل معلن، وحتى من دون تصور لما بعد التغيير. ولذلك وجدت حركات التطرف الديني المكبوتة، ولكن المنظمة، الفرصة سانحة للخروج إلى السطح واقتناص الفرصة. ولما نجحت في مصادرة «الربيع العربي» حولته إلى عملية تغيير ذات أهداف سياسية بدعاوى ومزاعم دينية ‬ثقة ‬منها ‬بأن ‬المجتمعات ‬العربية ‬هي ‬في ‬بطبيعتها ‬مجتمعات ‬منفتحة ‬على ‬الدين، ‬وأنها ‬ستوالي ‬هذه ‬الحركات ‬و‬قياداتها ‬من ‬خلال ‬ما ‬ترفعه ‬من ‬شعارات ‬دينية ‬جذابة‬. ‬وهكذا ‬ركب «‬الإخوان ‬المسلمون» موجة ‬الربيع ‬المصري، ‬وسيطرت ‬حركة ‬«النهضة» ‬على ‬الربيع ‬التونسي، ‬وسعت «‬القاعدة» للسيطرة ‬على ‬الربيع ‬اليمني، ‬كما ‬حاولت «‬داعش» ‬السيطرة ‬على ‬الربيع ‬السوري، ‬وحتى ‬على ‬العراقي ‬أيضاً.

وقد رافقت عمليات اقتلاع براعم «الربيع العربي» سلسلة من الاعتداءات استهدفت مسيحيي الشرق. وبدأت هذه السلسلة بالعراق ثم بمصر، وأخذت أبعادها الخطيرة جداً والبشعة جداً في سوريا، إلا أنها وصلت على يد «داعش» في العراق إلى مستويات إرهابية لا يعرف تاريخ المنطقة لها مثيلاً. وكانت وزارة الأوقاف في جمهورية مصر العربية قد أصدرت تقريراً رسمياً حددت فيه مواصفات «التطرف الديني»‏‭ ‬الذي ‬دعت ‬إلى ‬نبذه ‬والتصدي ‬له‬. ‬ويمكن ‬استخلاص ‬هذه ‬المواصفات ‬على ‬النحو ‬الآتي:

- التأسيس على نظرية الصدام والصراع مع أهل الأديان والثقافات المختلفة بدلاً من الحوار الذي دعا إليه الشرع الإسلامي.

- رفض ثقافة الاجتهاد والبحث الفكري لتجديد المفاهيم، والانغلاق على الشاذ من الآراء التي تتناقض في جوهرها مع مقاصد الشريعة.

- رفض الدولة الوطنية القائمة وتكفيرها، وعدم الاعتراف بشرعية مؤسساتها الدستورية والقانونية ولا حتى بشرعية حدودها الجغرافية، والعمل على إقامة إمارة دينية تقوم على مفاهيم وتصورات شاذة مستوحاة من سوء فهم ومن سوء تفسير الدين.

- اعتبار رجال الأمن من جيش وقوات شرطة حراساً لدولة «كافرة» مما يبرر تكفيرهم، وتالياً قتالهم واستباحة أرواحهم.

- اعتبار الديمقراطية «كفراً»، بحجة أنها نظام بديل عن النظام الذي شرعه الله للناس.

- اعتبار الأنظمة السياسية في الدول العربية والإسلامية عدواً قريباً تشكل مقاتلته أولوية حتى على العدو البعيد.

كان طبيعياً أن يكون هناك رد فعل مسيحي على هذا الفكر التكفيري والاستعدائي للآخر المختلف. إلا أن رد الفعل هذا اتسم بسلبيتين:

- تمثلت السلبية الأولى في الانكفاء على الذات، والتخلي عن المساهمة في عملية صناعة المستقبل المشترك التي أطلقها أو حاول أن يطلقها «الربيع العربي».

- أما السلبية الثانية، فكانت أشد وطأة، إذ تجسدت في الهجرة. وهي لم تأتِ استجابة لتطلعات اجتماعية أو اقتصادية، ولا هرباً من قلة أو فاقة، ولكن تحسباً من الاضطهاد الديني الذي بدأ يكشر عن أنيابه.

يعكس رد الفعل المسيحي بوجهيه، الانكفاء والهجرة، خوفاً حقيقياً من أن تنتقل المجتمعات العربية من حالة الاستبداد السياسي الذي عانت منه طويلاً إلى حالة الاستبداد الديني الذي تجرعت مرارته أيام المماليك والعثمانيين. وكان هذا الخوف المسيحي هو الدافع القوي وراء الانكفاء الذاتي ووراء الهجرة. وكلاهما شر مستطير ليس على المسيحيين وحدهم وإنما على المسلمين أيضاً. ذلك أن الاستبداد الديني إذا وجد طريقه إلى السلطة يوماً ما لا سمح الله -كما تشير إلى ذلك وقائع هيمنة «داعش» في مناطق من العراق وسوريا- يصيب عامة المسلمين، كما يصيب عامة المسيحيين. ولعل ضرره على المسلمين أشمل وأعمق وأبعد أثراً.

فالانكفاء المسيحي يقدم ضوءاً أخضر لحركة التطرف الديني، من حيث إن المسيحيين بانسحابهم من الحياة العامة، يعلنون أنهم لم يعودوا معنيين بالعيش المشترك مع المسلمين، مما يحرم المجتمعات العربية من دور ومن مساهمات الكفاءات الوطنية والفكرية والعلمية والاقتصادية والمالية المسيحية التي تحتاج إليها هذه المجتمعات لإعادة بناء مستقبلها المشترك.

والهجرة المسيحية ليست مجرد هجرة للعقول وللكفاءات فقط، ولكنها توجه في مضمونها اتهاماً للإسلام بأنه يرفض الآخر، واتهاماً للمسلمين بأنهم لا يستطيعون، أو لا يقبلون، العيش مع غيرهم، ولا حتى مع بعضهم بعضاً من أتباع المذاهب المختلفة. ومن شأن ذلك أن يفاقم مشاعر الحذر من المسلمين في العالم وحتى من كراهيتهم «الإسلاموفوبيا». علماً بأن ثلث المسلمين البالغ عددهم أكثر من مليار و600 مليون إنسان، أي أكثر من 500 مليون مسلم، يعيشون في دول وفي مجتمعات غير إسلامية.

ولأن التطرف الديني يسيء إلى المسلمين بقدر ما يسيء إلى المسيحيين، فإن رد الفعل الإسلامي ضد هذا التطرف لم يرتفع إلى مستوى هذه الإساءة الكبيرة التي يلحقها بالإسلام. وهذه مشكلة أولى. وهناك مشكلة ثانية ومكملة للأولى، وهي أن حجم مخاوف المسيحيين من التطرف الديني يتجاوز حجم الإساءة التي يلحقها التطرف بالمسيحية.

إن ظاهرتي تضاؤل المخاوف الإسلامية، وتضخم المخاوف المسيحية، تخدمان التطرف الديني الذي لا يريده المسلمون ويرفضه المسيحيون. غير أن مشاركة دول عربية في مكافحة ظاهرة التطرف فكرياً وسياسياً والتصدي له حتى عسكرياً، تؤشر إلى جدية المواجهة، وتعكس الاستجابة لضرورة العمل الإسلامي- المسيحي المشترك لمواجهة التطرف الديني معاً تحت سقف المواطَنة الواحدة، وعلى قاعدة بناء الدولة الوطنية التي تحترم الحريات العامة، وتصون حرية الضمير، وتساوي بين المواطنين.