موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٩ يوليو / تموز ٢٠١٩
في تفسير الفساد الاجتماعي

حسني عايش :

ربما لا يوجد واحد لا يشكو من الفساد الاجتماعي العام أو لا يشارك فيه على نحو أو آخر، فالطايح رايح كما يقول المثل، أو كل من تستطيع يده أن تصل إليه يتناوله، وكأن الشعور بالذنب من الغش أو الفساد تبخر، لماذا؟

هذه الحالة العامة من الفساد لم تكن موجودة أو معروفة في مرحلة اقتصاد الكفاف، أو الاقتصاد المختلط الماضية (الفلاحة). كان معظم الناس في أثنائها يعيشون في الريف والبادية، وقلة قليلة في المدن، وكانوا ينتجون معظم ما يحتاجون إليه – إن لم يكن جميعه – من غذاء وماء ودواء. وكان الواحد منهم يبيع الفائض من إنتاجه إلى المدينة. وكانت المدينة تزوده بما يحتاج إليه من المصنوع كالملابس والأدوات الأولية. كانت الأسرة الممتدة منتجة، ونفاياتها تختفي في السياق العام لدورة الطبيعة الحيوية. وكان إشباع الحاجات فصلياً. وكانت الفصول تعلم الناس الإعداد والصبر والانتظار.

ولما كان معظم الناس منتجين، فلم يكن أحد عالة على الدولة أو تحت ضغط شديد ليفسدوا أو يغشوا بعضهم بعضاً. كان الجميع متشابهين – إجمالاً – بالإنتاج والاستهلاك كل حسب بيئته في الريف والبادية والمدينة، وكانت القناعة كنزاً لا يبلى.

الوضع بدأ ينقلب بالثورة الصناعية. وبلغ الانقلاب ذروته بالثورة التكنولوجية، بنتائجهما ووسائلهما. ومن أهمها تحويل الاقتصاد من اقتصاد مختلط إلى اقتصاد نقدي (Cash crops) والزراعة إلى صناعة، تعتمد على 2 % من الطاقة العاملة في أميركا –مثلاً- لإنتاج ما يكفي لبقية السكان وغيرهم كثير في العالم. لقد تحول المجتمع من اقتصاد كثيف العمالة إلى اقتصاد كثيف الآلة/ رأس المال (Capital intensive) وهكذا تغير التاريخ وتغير المجتمع وتغيرت الأسرة من ممتدة إلى ذرية، ومن منتجة إلى مستهلكة. صار على رب الأسرة الذي فقد عمله في الفلاحة (ثم في الصناعة) البحث عن وظيفة في القطاع العام أو القطاع الخاص. كما صارت المرأة مضطرة إلى الخروج إلى العمل المأجور لمعاونة الرجل في تلبية حاجات الأسرة.

وبإيجاز: حل الاستهلاك في المجتمعات المتأثرة بالثورتين: الصناعية والتكنولوجية اللتين لم تعرفهما بعد محل الإنتاج. أي أنها أقامت الطابق الثاني (الاستهلاك) قبل قيامها ببناء الطابق الأول وهو الإنتاج (والإنتاجية).

وكان لذلك عدة نتائج منها: القضاء على الفصول بوسائط النقل والتبريد، وتوافر السلعة أو الخدمة طيلة العام مما جعل الصبر والانتظار ينفد عند الناس إذا فقدا من الأسواق.

أما النتيجة الثانية ولعلها الأهم فتغطية الدولة غير المنتجة للفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك بالديون. أما النتيجة الثالثة التي لا تقل أهمية عن السابقة فلجوء مجمل الناس إلى الفساد أو الغش لتغطية كلف استهلاكهم المسعور، وحلول الجشع والطمع والشره محل النزاهة والقناعة. ومما زاد في حدة الاستهلاك وسعاره تلك الإعلانات أو الدعاية التي تأسر المرء بتحويلها السلعة أو الخدمة إلى حاجة عنده وأنه لا قيمة له إذا لم يحصل عليهما. ولأنه لا يفكر نقدياً فإنه سرعان ما يستجيب للإعلان أو الدعاية التجارية بالتسوق (Shopping). وتزيد الغربة أو العزلة والكدر.. التي يشعر بها ساكن المدينة، فهو لا يعرف جاره في الشقة المجاورة، من حدة التسوق لدرجة أن بعض علماء النفس والاجتماع في أميركا يرون أن التسوق صار يحل محل الأسرة. وتأتي الزيادة السكانية المزدوجة وبطاقات الائتمان وتسهيلات البنوك المالية الاستهلاكية لتفاقم التسوق وتعاظم الاستهلاك.

لعل تحول الإستهلاك إلى ما يشبه الأيدولوجيا الذي تتجاوز به الدولة، ويتجاوز المجتمع والفرد دخلهم هو سبب رئيس من أسباب الفساد والغش، وهما تهديد للحياة الآمنة أو للبقاء الآمن مما يدفع المرء إلى سلب أو نهب كل ما تصل يده إليه حتى لو كان من أبيه أو أخيه أو من جاره، ليشعر بالاطمئنان.

ألا يمكن إعداد الأجيال في المدرسة والجامعة ليكونوا منتجين أولاً. ومنيعين ثانياً أمام الإعلان والدعاية وبحيث لا يقعون في شباكهما، أم أن الاستهلاك شر لا بد منه ؟

لعل البلدان التي تستهلك أكثر مما تنتج، وتستورد أكثر مما تصدر، وتقلد أكثر مما تبدع وتخترع وتكتشف وتنافس، في حكم العبيد مرتين: مرة للسلعة أو للخدمة المستوردة، ومرة أخرى لمنتجيها.

(الغد)