موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٩ مارس / آذار ٢٠١٣
فرنسيس الأول في زمن الثورات

جان عزيز :

اليوم يجلس فرنسيس الأول على كرسي بطرس. هو الراهب اليسوعي، الذي أتى به الأحبار من محاذاة أرض النار، من حيث كانت الكنيسة منذ خمسة قرون، موضوع سجال، من أيام «الكونكيستادور» حتى لاهوت التحرير. يخلف خورخي ماريو برغوليو سلفه راتزنجر، في عيد مار يوسف. لسبب ما، لم يستأخر التنصيب حتى نهاية الأسبوع، ولم يشأ مصادفته مع أحد الشعانين. ربما قصد بذلك عدم المماثلة بين دخول قداسته إلى روما ودخول يسوع إلى أورشليم. أي رسالة «يسوعية» من راهب بوينس إيرس، بضرورة التخفيف من مظاهر «التأليه» والشخصنة، والتخفف بعض الشيء من صورة «ممثل المسيح على الأرض»، للتقرب أكثر من صورة ناس هذه الأرض. وقد يكون الابتعاد عن رمزية التنصيب في بدء أسبوع الآلام، إشارة أخرى من الأسقف الباسم، إلى ضرورة التذكير بأن «البشارة الجديدة» كانت فرحاً وكانت مسرة، وأنها يجب أن تظل كذلك. ثم قد يكون لاختيار فرنسيس الأول لعيد مار يوسف، دلالة أكثر بعداً. أن يستحضر صورة ذلك الرجل المغمور. يوسف النجار الذي اختفى في زمن «التدبير الخلاصي». لم نجعله يشهد حتى اغتيال شهيده الوحيد، لم يبكه، ولم يصر أثكله، ولم ندعه يعيش أو حتى يمت معنا بعده. كأن استحضار ذلك الرجل البسيط المغيب في يوم التنصيب الحبري، إحياء آخر لصورة يسوع التاريخي. يسوع الذي قتلناه كثيراً وطويلاً في صورة يسوع الرب. مع أن لصورته قدرة على إحيائنا أكثر، خصوصاً في زمنٍ يكاد الرب فيه يموت، أو يكاد كثيرون يَقتلون ويُقتلون باسمه. يسوع التاريخي الذي أهملناه عمداً، لنرتاح. فهو أكثر تطلباً من الرب، لأنه أكثر تماثلاً معنا وتطابقاً مع طبيعتنا وشبهاً بضعفنا. كأن فكرة الرب تريحنا أكثر في أخطائنا والخطايا. نرتكبها براحة ضمير، على أننا لسنا آلهة ولا كاملين. أما إذا كان يسوع الكامل إنساناً مثلنا، فأي حجة نعطيه عند التوبة؟

يكاد فرنسيس الأول يحمل كل ذلك وأكثر اليوم. هو من يدرك أن الكنيسة منذ أكثر من قرن، لا تأتي بخليفة «صيادها الأول» إلا من أجل مهمة محددة. هو لاوون الثالث عشر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، جاء ليؤهل الكنيسة لمواجهة الفكر الماركسي. فأعطى رسالة «الشؤون الحديثة» وأطلق العقيدة الاجتماعية للكنيسة وأدخلها القرن العشرين ورحل. بعده جاءت سلسلة الباباوات البيوسات، في زمن الحروب وتفكك الاستعمار وقيام الدول بنتيجة انهيار الإمبراطوريات. فكانت مهمتهم المواءمة بين الكنيسة والدولة. أرسوا فكر اللاهوت السياسي، من «الرسالة الأولى» إلى عقيدة «يسوع الملك»، إلى شمولية المسيحية للسماء والأرض... بعدهم جاء يوحنا الثالث والعشرون، في مهمة إعادة تقديم الكنيسة في عالم متغير متجدد. فكان المجمع وكان بولس السادس استمراراً. حتى جاء البولوني الساحر، ذاك الذي أدار وجهه شرقاً، مهجوساً بسر فاتيما و«روسيا المقدسة»، مدخلاً إلى تحرير بلده. ثم كان راتزنجر، كأنه أدرك أنه مرحلة انتقالية. فبين مهمة إصلاح الداخل أو تبشير الخارج، بين مهمة التعايش مع الإسلام في كل أرض أو مقارعته... تعب اللاهوتي الألماني العتيق. أرهقته ثمانية عقود ونصف من الوقوف على تماسات الجدليات الساخنة. فقرر أن يرتاح عند فوهة بركان كاستل غوندولفو، منسياً لا ينسى شيئاً. بعده كأنما روما تفكرت في مهمتها الجديدة: هل تختار أوروبياً لرسالة الأنجلة الجديدة للعالم القديم؟ أم تحصر الاختيار بإيطالي لضرورة إصلاح الكوريا الرومانية؟ أم تختار أفريقياً لمهمة استيعاب هذا الفيض التبشيري في الأرض السوداء؟ أم تحدد الإسلام مهمتها والأقليات المسيحية في أرضه؟ فجأة اختارت روما ذاك الراهب البسيط. هل اختارت معه أن تعود إلى يسوع التاريخي؟ إلى ذاك المناضل الثائر الذي أعطى النموذج الأوحد في التاريخ للثورة البيضاء المكللة بدمه وحده؟ هل اختارت روما أن تعود إلى من لم يكن يوماً حيادياً، إلى من كان أبداً منحازاً إلى الفقراء والضعفاء والمرضى والمقهورين والمضطهدين والمنبوذين؟ هل اختارت فعلاً، قبل أن يختار برغوليو معها وبها، أن تعيد إحياء قيم يسوع التاريخي؟

ليس تفصيلاً أن يقول فرنسيس الأول إنه يريد كنيسة فقيرة، كنيسة للفقراء. فهذا يعني التزامه الأمثل بيسوع التاريخي. وتجسيده لتطلبه الإنجيلي الكياني، هو من قال: «إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني»، و«إن الفقراء معكم في كل حين، أما أنا فلست معكم في كل حين»... يستحق يسوع بعد ألفي عام على ثورته، وفي زمن ثورات الدم والفوضى والأحقاد، أن تُستعاد صورته الإنسانية الأكثر بهاء. صورة من بدا بولس وكأنه يتحدث بلسانه حين قال: «صرتُ للضعفاء كضعيف، لأربح الضعفاء». بهذا المعنى يبدو فرنسيس الأول «يسوعياً»، ويبدو رابحاً من هذا الصنف.