موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٣
فرنسيس الأول ... إحياء في الخارج وأخطار في الداخل

إميل أمين :

إنه عيد الميلاد الأول الذي يقضيه كاردينال الأرجنتين المتواضع خورخي ماريو برغوليو داخل أسوار الفاتيكان بصفته أسقف روما، وبابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وعلى رغم أن البابا الجديد لم يكمل بعد عامه الأول على السدة البطرسية، إلا أن المتابع أو المحلل للشأن الفاتيكاني يرصد إحياءً واضحاً للكثلكة في الداخل والخارج على صعيد الكثير من الملفات والقضايا الحياتية الشائكة، عطفاً على مخاوف واضحة تجاه حياة البابا الكاريزماتي المتواضع الآتي من بعيد.

فرق شاسع بين ديبلوماسية الفاتيكان الصارمة وبين بساطة فرانشيسكو الأول ووداعته، فقد كان سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر لا يتلقى اتصالاً هاتفياً إلا إذا مر عبر سكرتارية الدولة، واليوم تعاني هذه السكرتارية الخاصة من صعوبة ضبط اتصالات البابا الجديد، فهو يجول ويصنع خيراً عبر كل طرق التلاقي الإنساني، ولهذا يتصل بالكثيرين من دون إحراج، ويبعث بالرسائل حتى إلى مجهولين. لا يميز فرنسيس الأول بين مؤمن أو ملحد، الجميع عنده بشر، يسأل عنهم ويطمئن على أوضاعهم ويسعى إلى مواساتهم، وقد أثار بالفعل ضجة بسبب الحوار الذي دار بينه وبين أوجينيو سكالفاري مؤسس صحيفة «ريبوبليكا» اليسارية، المعروف بالحدّة. إنه بابا مغاير لا يطرد أحداً خارج الملكوت، بل «يبحث معه عن الطرق التي تجمعنا معاً».

يتساءل المرء: هل حبرية فرنسيس الأول فرصة تاريخية عند البعض لهتك الحُجب والأستار التي تغلف حاضرة الفاتيكان وما يدور خلف أسواره؟

من أهم الأخطاء التي تنسحب على المؤسسة الفاتيكانية حول العالم أنها محاطة بسرّية أسطورية.

لكن مشكلة الفاتيكان ليست الغموض المحيط به، بمقدار ما هي فرادته وتميزه، فهو لا يشبه أي مؤسسة أخرى، ولديه تاريخه الخاص ولغته الخاصة وأنماطه الخاصة.

وعليه، فإن لم تكن تعرف الفرق بين الآراء اليسوعية والدومينيكية بشأن النعمة الإلهية في القرن السادس عشر مثلاً، أو ما هي الحلة الكهنوتية البيضاء، ستجد على الأرجح صعوبة في فهم الحوارات داخل الفاتيكان. أو إذا كنت لا تعرف أن نائب الوزير في معظم المجالات هو الذي يقوم بالعمل الحقيقي، سيصعب عليك متابعة عمل الكنيسة غير الاعتيادي. إذاً، السر لفهم الفاتيكان يكمن في فهم ثقافته، إذا نجحت في ذلك، فغالباً ما تزول هالة السرّية بسرعة.

مهما يكن من أمر، فإن البابا فرنسيس ولا شك يعطي في أشهر حبريته التسعة المنصرمة، صورة للداخل الفاتيكاني مغايرة عن صور سابقيه الذين لم تكن أقدامهم تلامس الأرض بل يُحملون على المحفّة، حتى زمن من المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965)، وهي صورة لا أسرار فيها بل كاهن بسيط، على ثقافته وفكره كراهب يسوعي، يسعى بين الناس رافضاً استخدام سياراته المصفحة «بابا موبيل»، وقد قال ذات مرة قريبة، إنه يفضل أن يتعرض لهجوم من مجنون على أن يرتكب «جنوناً آخر كأن يقبل بوضع تصفيح بينه وبين شعبه».

يرفض فرنسيس الأول سكن القصر البابوي، مقر الباباوات العتيد، ويفضل نزل كنيسته «سانت مارتا» حيث يقيم، يرفض الأيقونات والسلاسل الذهبية ويحتفظ بصليبه الفضي القديم. هل كان لهذا النموذج البابوي الذي يعود بنا بدرجة أو بأخرى إلى زمن التلاميذ والرسل الأوّلين مع ما لذلك من تأثير في سياقات المسيحيين من مختلف الطوائف والملل والنحل حول العالم؟

يتحدث رئيس أساقفة نيويورك الكاردينال تيموتاس دولان بالقول: «لو تسلمت دولاراً واحداً من كل نيويوركي قال لي إلى أي مدى يحب الأب الأقدس الحالي، لتمكنت من دفع الفاتورة الباهظة لترميم كاتدرائية القديس باتريك».

والأمر نفسه بات ينسحب على أساقفة أميركا اللاتينية وكرادلتها الذين ينتمي اليهم البابا بالجسد، والمولد، والنشأة، والخدمة الرسولية، بل إن الدوائر الحضارية شديدة العلمانية في أوروبا مثل فرنسا وألمانيا وفيها مسيحيون تقدميون عرفوا بقسوتهم الشديدة مع بنديكتوس السادس عشر، يمنحون تأييدهم للبابا.

أما على «تويتر»، فإن أتباع البابا الجديد يتجاوزون الملايين العشرة، يرصدون بتدقيق وتحقيق ما يكتبه فرانسيس الأول بتسع لغات. ماذا عن جديد البابا والذي يحرك الكثير من المياه الراكدة في الفكر الإنساني والإيماني المعاصر؟

بالطبع نحن في صدد الحديث عن وثيقة الإرشاد الرسولي التي صدرت في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) المنصرم وتحمل اسم «إيفانجيلي غواديوم» (فرح الإنجيل)، وهي أول وثيقة مهمة تصدر في عهده وحدد فيها رؤيته لمستقبل الكنيسة الكاثوليكية حول العالم.

في الوثيقة المشار إليها، يشدد البابا على أهمية الرسالة الاجتماعية للكنيسة الكاثوليكية، كما ينتقد الظلم في الاقتصاد العالمي، وهي أولوية في حبريته، ولهذا يقول: «إن الشعوب الفقيرة متهمة بالعنف، لكن من دون تقديم فرص متساوية ستجد مختلف أشكال العدائية والخلاف أرضاً خصبة للنمو أو حتى احتمال الانفجار». ويضيف: «طالما لم يتم إلغاء الإقصاء الاجتماعي وعدم المساواة الاجتماعية في المجتمع وبين مختلف الشعوب فسيكون من المستحيل استئصال العنف».

البابا الإنسان يلامس قضايا أكثر حساسية في إرشاده الرسولي الجديد، مثل قضية الإجهاض، إذ يقول: «يجب ألا نتوقع أن تغير الكنيسة موقفها من الدفاع عن حقوق الطفل القادم إلى الحياة»، لكن من دون ذكر كلمة إجهاض. لكنه قال إنه يجب بذل جهود إضافية «لمساندة النساء في الأوضاع الصعبة جداً، التي تدفع بهن إلى هذا الحل السريع». هل للشرق الأوسط وللحضور المسيحي فيه والمتصل تراثياً بالإسلام والمسلمين حضور في ذهن وفكر وفعاليات بابا الفقراء والمستضعفين في الأرض؟

بالتأكيد لم يكن ليغيب عن بابا روما الحديث عن هذه القضية، لا سيما في ظل الأوضاع المشرقية الملتبسة، فقد ناشد البابا الأول الدول الإسلامية أن توفر الحرية الدينية للمسيحيين، أخذاً بالاعتبار الحرية التي يتمتع بها المسلمون في الدول الغربية. وعبّر البابا فرنسيس في وثيقة «فرح الإنجيل» عن قلقه من «فصول الأصولية التي تنتج منها أعمال عنف»، لكنه دعا أيضاً إلى عدم التعميم وإلى تجنب «التعميم البغيض» لأن «الإسلام الحقيقي يعارض كل أشكال العنف».

والشاهد كذلك أن بابا الفاتيكان وفي مواجهة المخاوف المتعلقة بمسيحيي الشرق الأوسط كان ترأس اجتماعاً مهماً في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي تناول مع نحو عشرة بطاركة وأساقفة شرقيين سبل الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق الأوسط المتخبط في نزاعات دامية لا يعلم إلا الله منتهاها.

والمعروف أن البابا الشرفي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية «بنديكتوس السادس عشر» كان قد دعا في العام 2010 إلى سينودس خاص ناقش أحوال المسيحيين المشرقيين، لا سيما في العراق وسورية والأردن، وفلسطين ومصر، وقد دعا إلى تأكيد أصالتهم في بلادهم ودورهم في الانفتاح بمحبة على الآخر في الداخل والخارج، وساعتها لم تكن ظاهرة «الربيع العربي» قد طفت على السطح بما حملته من تهديدات لحضورهم وتهجير قسري مرة وطوعي أخرى من بلدانهم، ليفقد المكون العربي الحضاري عاملاً شريكاً أساسياً في هذا البناء.

هل تمضي حياة البابا فرانسيس داخل أروقة الفاتيكان صفاءً زلالاً من دون أن يكدر صفوها شيء أم أن هناك مخاوف خلف الباب رابضة تشتهي ربما حياة البابا الجديد، وإن كان الأمر كذلك فلماذا؟

في منتصف الشهر الماضي، أشارت صحيفة الوقائع الإيطالية إلى أن المدعي العام الإيطالي في منطقة «ريدجو كالابريلا» نيكولا غراتيري، تلقى معلومات تفيد بتخطيط المافيا المالية لقتل البابا فرانسيس بعد أن اتخذ الأخير إجراءات صارمة لمكافحة أي فساد مالي من أي من الدوائر المتصلة بالحاضرة البابوية. الصحيفة الإيطالية وعلى لسان «غراتيري» تقول: «إن حياة البابا في خطر، وأن هناك جريمة منظمة يعد لها من جانب المافيا لا نعلم الكثير من تفاصيلها».

هل تذكرنا هذه الأنباء بأحد أهم الملفات التي لا تزال علامات الاستفهام قائمة بشأنها حتى الساعة؟

بالتأكيد انها تعيد أجواء الشكوك التي واكبت وفاة البابا يوحنا بولس الأول «الكاردينال البينو لوتشاني» بطريرك البندقية، والذي سعى الى عملية تطهير مالي غير مسبوقة في مصارف الفاتيكان، وهي وفاة طرحت في مساراتها أسئلة كثيرة لا يزال الكثير منها عالقاً حتى الساعة، وقد أُنشئت لجنة كرادلة رأسها الكاردينالان سيلفيو أودي، وأنطونيو ساموري للتحقيق في وفاة يوحنا بولس الأول، وكانت نتيجة التحقيق «وفاة طبيعية إثر نوبة قلبية». ولكن كان الشك حاضراً دوماً، لا سيما عندما طلب البابا يوحنا بولس الثاني أن يتم تصنيف ملف التحقيق «سراً جبرياً»... وعلى غرار الكثير من التقارير الأخرى، بقي هذا التقرير في إحدى زوايا محفوظات الفاتيكان السرية.

هل يزعج مصير يوحنا بولس الأول خلفه فرانسيس الأول؟

الفاتيكان أعرب عن عدم قلقه إزاء التقارير التي أشارت إلى أن البابا ربما يكون مستهدفاً من جماعات المافيا، والمتحدث الرسمي باسم حاضرة الفاتيكان الأب اليسوعي «فيديريكو لومباردي» يوضح أنه لا يوجد سبب ملموس للقلق وليس من الصواب إشعال المخاوف وتأجيج الذعر.

لكن واقع الحال يشير إلى ان المخاوف تغدو قائمة بالفعل، لا سيما تجاه نيات البابا المستقبلية، إنه يريد كنيسة للفقراء، لا للفاسدين، وقد ندد أخيراً بالفساد مستخدماً الآية الإنجيلية للسيد المسيح: «ويل لمن تأتي منه العثرات، يجدر أن يُعلق في عنقه حجر رحى ويلقى في البحر»، وهذا توجه يزعج تنظيمات بعينها وجماعات بذاتها، تخاف على مكتسباتها المالية والسيادية، حتى داخل الأروقة الفاتيكانية.

«الكنيسة الرومانية الكاثوليكية» فاحشة الثراء، هذه مقولة مغلوطة بدورها، ومبالغ فيها... يشاع أن الفاتيكان يملك أموالاً طائلة، لكن موازنته السنوية أقل من 500 مليون دولار. مقارنة بذلك، فإن موازنة جامعة هارفارد وحدها تفوق الثلاثة بلايين. حتى إن كانت الكنوز الفنية العظيمة التي يملكها مثل لوحة «بييتا» لمايكل أنجلو، لا تقدر بثمن، فإنه لا يمكن أبداً بيعها أو الاقتراض لقاء ثمنها، وهي مدرجة على لائحة ممتلكات الفاتيكان بقيمة يورو واحد.

والثابت أن الكاثوليك اليوم حول العالم بدءاً من البابا وصولاً إلى عامة المؤمنين، غالباً ما يقترحون أن تكون الكنيسة أكثر «بساطة». ومن المنطقي أن ننتظر من أي مؤسسة تطالب بالعدالة للفقراء أن تمارس ما تنادي به، غير أن التصور الشعبي بأن الدور السفلية للكنيسة مملوءة بأكياس من النقود غير صحيح، فهذه الأموال ببساطة غير موجودة.
ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟

القول بأن فرنسيس الأول بات صوتاً صارخاً ضد الغطرسة والهيمنة الأميركية ضد العالم، وكان له دور واضح ربما بالتعاون مع روسيا الاتحادية، حكومة وكنيسة أرثوذكسية، لدرء أخطار الحرب الجديدة التي كادت أن تشتعل بداية ضد سورية ولاحقاً إلى ما حولها من دول المنطقة.

هذا الدور في حاجة إلى قراءة موسعة قادمة، لا سيما أن خطوات أميركية اتخذت أخيراً تحمل رسائل ذات مغزى للجالس سعيداً وإن بتواضع وفقر على كرسي مار بطرس.