موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر السبت، ٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٧
عبد الهادي راجي المجالي يكتب: على وقع خطى الراهبة

عبد الهادي راجي المجالي :

اقترب العيد.. وقد التقيت راهبة أمس، في المتجر تشتري الشمع والورد والأجراس وأنا لا أعرفها.. لا أعرف من أي دير هي، ولا أعرف من أي طائفة.. ولكن ابتسامتها في وجهي، أنستني الطوائف والفصول والأيام.. ولمحت شيبًا، تمرد على غطاء الرأس.. وخرج من تحت الجبين الأغر بقليل.. وكأنه يبارك المدى والمتجر والأيام.

اقتربت مني قليلاً وابتسمت في وجهي، وقالت أنها تعرفني.. والراهبة هي من نذرت نفسها لله.. وتركت ترف الحياة خلف ظهرها، قالت أنها عرفتني لكثرة ما كتبت عن الحب والكنائس.. ولكثرة ما نثرت القلب حرفًا مخمرًا في أقداح من ورق.. وأخبرتني عما كتبت.. أخبرتني عن الحب في الحرف حين ينعطف بين ثنايا الهمزة تمامًا كانعطاف يد عاشق على خصلة شعر صبية في أول الهوى والعمر.. وباركتني ومسحت بيدها رأسي.. واشترت لي علبة شوكلاته.

قلت لها: يا خالتي، أنا لم أعد طفلاً، ما نفع الحلوى؟ ولكنها أخبرتني أن الذين يجيدون العشق هم في نظر الراهبة ما زالوا أطفالاً يحتاجون للحب.. وحملت معها الحاجيات للسيارة.. وودعتها.. وها أنا أنثر بعضًا من وجدي وتعب الأيام على وقع خطاها.

يا خالتي.. وصديقتي، أدري أنك هذا المساء ستشعلين الشمع، وسينعكس الضوء قليلاً على الأيقونة, وربما طهر المناجاة والدعاء.. ربما سيذلل بعضًا من برد تشرين.. ربما سيذلل بعضًا من أوجاع من جاعوا, من تعبوا، من خاضوا العمر معركة, في وطن مثل المسيح.. دروبه الالام معطوفة على الالام.

أدري أن الشمع, في المحراب سيقهر الريح حتى وإن كانت عاتية, حتى وإن تسربت من ثنايا النوافذ.. فيا خالتي الراهبة, تذكري في تلك اللحظة وطنًا.. نوره مثل شمعة تقاوم الريح.. تعصف فيخفت النور.. وحين تغرقين في التبتل والصلاة.. يخرج وميض النور من روحك الطيبة, أي حب هذا الذي يشعل.. من عميق الروح ضوء الوطن؟

يا خالتي الراهبة، أدري أنك خبأت في الدير بعضًا من الحلوى, والأجراس للأطفال الذين يأتون مع أهلهم للصلاة, وأدري أنك وعدت الأمهات بأنك ستصلين لنجاة الأطفال الذين أعياهم المرض أو داهمهم العجز.. أدري أيضًا, أن الأيام صارت شحيحة بالحب.. وكانت فيما سبق تمطر الدنيا علينا غرامًا قبل الماء.. ووطني محتاج مثل طفل للحلوى.. ومحتاج لمن يمسح بيده الحانية جبهته, وطني محتاج للحنان فالأرض غاضبة منا, فقد اشبعناها تعبًا, ما عاد فيها يا خالتي الراهبة نبض ولا دفء ما عاد فيها من حنين المجد أي حنين. فخذي وطني حين يأتيك في العيد, طفلاً، واشعلي له شمعتان, واحدة للعافية وأخرى كي يبقى قمرًا في السماء العربية, بدور وليس من دون دور.. وكي يكون رمحًا ومجرى للكواكب والأفلاك.. ومفتاح الدنيا والفرح.. حين تكثر الأقفال.

يا خالتي الراهبة، على وقع خطاك أكتب لك, ونحن على مشارف العيد.. ما ظل في البلد, غير أنين بعض المحرومين, وجوع من أعيتهم الحياة, وكفاح من يحاولون أن يشقوا الصخر كي ينتجوا لهم دورًا حتى وإن كان هامشيًا، وللأسف الدولة أقسى من الصخر وترفض هذا الدور.. ما ظل في البلد غير الشوارع المثقلة بالشكوى.. والمستقبل المبهم.. وظلت خصلة شعرك البيضاء التي تمردت على غطاء الرأس وخرجت من أعلى الجبين, تختصر في طهرها، كل الدعوات وكل الآمال العريضة وكل قبس من أمل.. وتخبرنا بأن ثمة مستقبل سيكون فيه الحال أفضل.

سلامي لكِ، وقد أذنت لنفسي أن أكتب, مما تبقى في أذني من بعض وقع خطى راهبة عبرت، وغمرتني بالحب والدعاء.